أعتذر لك أيها المجلس العسكرى، وأعتذر لكم يا أبناء مبارك، وأعلن لكم أسفى، كما أعترف بغبائى، وبأننى مهما بلغت من علم وثقافة وفهم لن أصل إلى مرتبة تقترب، ولو من بعيد، من مرتبة ذكاء توفيق عكاشة، وكل من ينتمى إلى مرتبته العقلية، ولا أعرف درجتها فى الجدول. وها أنا أقولها لكم «فهمتكم» (على طريقة سميى بن على)، ولكنى للأسف فهمت متأخرا، فقد كنت أتساءل: كيف يكون الشخص الذى كان مؤيدا لمبارك بروحه وعقله وقلبه حتى سمّى نفسه ابنا له، هو الشخص ذاته الذى أصبح مؤيّدا للمجلس العسكرى الذى انقلب على مبارك وسلّم بالثورة وشرعيتها بل وحماها -حسب تعبيره-ومنح ضحاياها ألقاب الشهداء، بل وضرب تعظيم سلام لهؤلاء الشهداء -فى مشهد أبكانى شخصيا وصدّقته بسذاجتى وبفضل نقاء اكتسبت الكثير منه من ثمانية عشر يوما قضيتها فى مدينة التحرير الفاضلة؟ كيف تؤيّد الشىء ونقيضه؟ هكذا كنت أتساءل، ولم أكن أفهم حتى أفهمتنى الأيام والأحداث المتتالية التى رآها البعض انقلابا على الثورة، وثورة مضادة يقودها المجلس العسكرى نفسه. واكتشفت مؤخرا كيف يكون أبناء مبارك هم أنفسهم أبناء شفيق وعمر سليمان والمجلس العسكرى، فهم الأذكياء ونحن الأغبياء. وأنا الذى اعتقدت يوما أنهم متناقضون فى مواقفهم، على استعداد لأن أنشئ صفحة على «فيسبوك» أسميها «آسف يا أبناء الرئيس والمشير والشفيق»، فقد فهمتم اللعبة مبكرا، وقررتم لعبها معنا وعلينا، ونحن شربناها. فالسيد الرئيس المخلوع الذى لم يتّبع فى تسليم السلطة أيّا من الإجراءات الدستورية المتّبعة فى أى دولة من دول العالم الأول أو الثالث أو العاشر، واعتقدنا أنه اضطر إلى تسليمها عنوة، قرّر وهو يلفظ أيامه الأخيرة فى الحكم أن لا يسلّمها، بل يكلّف بها «واللى كلّف ماماتش»، فكلّف بها مَن يضمن ولاءه ويحفظ العشرة ويصون الود. والمشير طنطاوى «المُكلّف» الذى كان آخر قسم له كوزير للدفاع «أيام ما كان وزيرا للدفاع» كان أمام مبارك نفسه، هل تتوقّعون أن يخالف أمرا لمن أمر بتكليفه؟ فهل هكذا تعلم الجنود أن يخالفوا أمرا لقائدهم؟ هكذا هى قواعد اللعبة العسكرية، وهكذا فهمها أبناء مبارك مبكّرا، فلم يخشوا على أبيهم، بل ووالوا من ظننا أنه خلعه، وشربنا نحن أكبر مقلب فى التاريخ. مقتضيات اللعبة -حسبما قادوها وفهمها الأبناء- كانت تقول إن الوضع الذى انفجر فى يناير داخليا وخارجيا ينبغى التعامل معه بطريقة الانحناء أمام الريح حتى تمرّ بدلا من أن تقتلع كل شىء من جذوره، ولأن جذور شجرة النظام متشعبّة وضاربة فى أعماق الأرض لم تهتزّ، بل فقط طار بعض ورقاتها. وبعد أن استوعبت الضربة عادت لتقف مرة أخرى قوية شامخة، ولم لا؟! فهى التى اعتادت أن تكبر على مصّ دماء الفقراء من أبناء الوطن، ارتوت مع أحداث الثورة المستمرة، على مدى عام كامل، بدماء جديدة أكثر طهرا وطزاجة، وهى دماء المئات من الشهداء والآلاف من المصابين، فامتدت الجذور وطالت الأفرع ونبتت مكان بورقات الطائرة ورقات أكثر كثيرا. فهذه ورقة عكاشة بدلا من ورقة الشريف، وتلك ورقة سبايدر بدلا من ورقة جمال، وورقة خيرى بدلا من ورقة تامر، ناهيك عن ورقات الفلول التى عادت للازدهار، وورقات المرتعشين الجبناء، وورقات الداعين إلى الاستقرار ودفع العجلة، وورقات البلطجية الذين يعيشون عصرهم الذهبى، ولا أنسى ورقة الطرف الثالث ويالها من ورقة تتحكم فى ما خفى وما أُعلن. وهكذا اكتسبت شجرة النظام ورقات كثيرة، ولكنها فى الوقت نفسه أسقطت الورقة الأهم، وهى ورقة التوت التى كان يغطّى بها المجلس العسكرى عورات النظام «السابق والحالى واحد»، وهى الورقة التى كان يسميها «حماية الثورة». وتعالوا نفكر معا.. أى حماية تلك التى تُسقط مئات الشهداء والمصابين فى مواقع (الجمل وماسبيرو «1 و2» والسفارة الإسرائيلية والعباسية ومحمد محمود ومجلس الوزراء وقصر العينى والتحرير «1 و2 و3 وكل فجر»؟!). أى حماية تلك التى تلطّخ أيادى خير أجناد الأرض -وقد لطّخت من قبل مرارا وتكرارا أيادى جنود وضباط الداخلية-بدماء إخوانهم من الثوّار «هاتولى اسم بلطجى مات فى هذه المواقع؟! أى حماية تلك التى تشوّه جميع الرموز والحركات التى حرّكت أو أسهمت فى تحريك أحداث الثورة عبر سنوات من النضال والكفاح فى وقت خرست فيه ألسنة الجبناء، فهذا عميل وهذا خائن وهذا مُموّل من الخارج وهذا شاذ جنسيا وهذا كافر وهذا حشّاش وهذا بلطجى وهذا كان يمر بالصدفة فى مكان الأحداث؟! أى حماية تلك التى لم تحرّك قضية ضد رموز الفساد ورأسه إلا بمليونيات ترتجّ تحتها الأرض «وأين الأحكام فى معظم هذه القضايا، خصوصا المتعلقة بقتل الثوار؟!». أى حماية تلك التى ينعم فيها المخلوع بإقامة خمس نجوم فى مستشفى لا يحلم 90% من أبناء الشعب بالمرور من أمامه لا دخول جناحه الرئاسى، وتنعم فيها زوجته بالحرية الكاملة فى نقل وصرف أموال الشعب المنهوبة خلال ثلاثين عاما؟! أى حماية تلك التى تضمّ جميع رموز الفساد المتهمين بالقتل والفساد والسرقة والنهب واستغلال النفوذ والكسب غير المشروع فى مكان واحد يلعبون ويأكلون من أفخم الفنادق ويخطّطون ويتآمرون ويضحكون كلما سقط شهيد هنا أو هناك؟! أى حماية تلك والطرف الثالث بأصابعه الخفية يلعب فى شرف الوطن ويحرقه ويقتل ثوّاره ويرهب ضعفاءه، ويا للعجب فالحامى الفاطن لكل خيوط المؤامرة يحذّر الشعب من هذا الطرف الثالث الشرير، ومن خططه لإحراق البلد وإشاعة الفوضى، لينتبه المواطنون الشرفاء ويحمون أنفسهم وبلدهم بدلا من أن يقدّم أصحاب الحماية هذا الطرف مكبّلا بالقيود، ليعرف الناس من هو عدوهم وعدو الثورة الحقيقى؟! وأخيرا أى حماية تلك التى تعرّى بنات مصر وتكشف عن عذريتهن وتهتك أعراضهن وفى النهاية تعتذر؟! وها أنا أيضا أعتذر لأننى لم أفهمكم مبكرا. وأطلب منكم أيضا الاعتذار مرة أخرى، على أن يكون هذه المرة اعتذارا تاما ونهائيا عن تلك المسرحية الهزلية المأساوية التى فشلتم فى إقناعنا بأن دوركم فيها كان حامى الثورة، وأُنبئكم بأنكم حتى وإن اعتذرتم وقدمتم بدلا من الدموع دماء فلن تكون أبدا أطهر من دماء الشهداء، وفى النهاية لن يُقبل اعتذاركم.