سألنى صديقى الخواجة: ما الذى يحدث لديكم فى مصر، عندما أنظر إلى مايحدث حولكم أعتقد أنكم على مايرام، لكننى كلما إلتقيت بمصرى وسألته أفهم أنكم لستم راضين عن أحوالكم، ما الذى يحدث بعد رحيل مبارك، هل تشهدون صراعا خفيا على السلطة؟، قلت له: لا، نحن نشهد صراعا معلنا على الصينية. يفهم صديقى العربية جيدا، ومع ذلك لم يفهم كلمة مما قلته له عن الصراع الذى يدور منذ مطلع الشهر الكريم على صينية ميدان التحرير، والذى صار رمزا لصراع أشمل حول من يقطف ثمار ثورة يناير التى أذهلنا بها العالم، ويعمل بعضنا جاهدا لإذهال العالم بقدرتنا على تبديد مكاسبها. أتحدث عن جنرالات يتخيلون أن حرية التعبير ضارة بالصحة ولذلك لا بد أن تُعطى عن طريق جرعات يتحكمون وحدهم فى مقاديرها، أدار الجلوس فى موقع الحاكم رؤوس بعضهم فاستبدت به شهوة منح صكوك الوطنية وبات يظن أنه يعرف مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه. وأتحدث أيضا عن ثائرين لا يصدقون أنهم إنتصروا ولذلك ينثرون اليأس يمينا وشمالا، لا يرون من الغربال لأنهم قرروا ألا يروا منه، لا يريدون تصديق أن نظام حسنى مبارك قد إنتهى، ولن تعيده إلى الحياة محاولاته البائسة هو وأبناؤه ورجاله فى الظهور بمظهر القوى الذى لا تهزه رياح الثورة، ولا محاولات تحويله من متهم إلى طرف فى معركة مشروعة على أيدى أذنابه المتنفذين فى الفضائيات، أو على أيدى المرضى به الذين يحاولون التغطية على بؤسهم بممارسة البلطجة وقلة الأدب. نعم، نظام حسنى مبارك إنتهى، لكن نظام حكم العسكر لم ينته بعد، هذا صحيح، لكن هناك طريقة واحدة لإنهائه هى صندوق الإنتخابات والتحرك وسط الناس والخروج من ميدان التحرير الذى لا يصح أن يقع الذين حرروه فى أسر غرامه والتقوقع فيه لأنهم لا يجدون أنفسهم إلا فيه. أعرف ياسيدى أنك شجاع ولم تأت بك ولادة، وأنك تستطيع أن تقف متمطعا داخل حسابك على التويتر والفيس بوك وتهتف بأعلى صوتك يسقط حكم العسكر وتشتم هذا أو ذاك من اللواءات، لكن هل سيغير هذا من الواقع شيئا؟، بالعكس أنت فى كل يوم تزداد إنعزالا عن الشعب، الشعب الذى كنت تهتف من قلبك أنه يريد إسقاط النظام، لأنه كان موجودا إلى جوارك فعلا، لكنه الآن لم يعد موجودا إلى جوارك بنفس القدر، لماذا؟، لأن الشعب بغريزة البقاء أذكى من أن يتم جره إلى معارك غير محسوبة، نعم لن تخسر تماما إذا انعزلت، ستكسب فقط فخرك بقدرتك على الرفض، وسيجعلك تخوين الآخرين تشعر أن مصر صارت أمانة فى يديك، لكنك للأسف ستعود ثانية إلى مربع سلم نقابة الصحفيين الذى لم تتجاوزه إلا عندما أصبحت المعركة واضحة وضوح الشمس، بالمناسبة ليس المهم أن تكون المعركة واضحة بالنسبة لك، المهم أن تكون واضحة للملايين الذين أسقطوا مبارك والذين لازلت عندما تقابل فردا منهم فيقول لك كلاما يرضيك تجرى إلى التويتر أو الفيس بوك بكل سذاجة لتكتب «ياجماعة مين قال إن الشعب مش معانا.. النهارده قابلت سواق تاكسى قال لى كلام زى الفل». لا أحب التعالم على خلق الله، لكننى مضطر لأن أقول أن مشكلتنا الأكيدة الآن تكمن فى غياب الوعى، لدينا مشاعر وطنية عارمة، ولدينا تعليم منح بعضنا الكثير من المعلومات لكنه لم يعطنا أهم مايحتاجه الإنسان فى هذه الحياة: التفكير المُرَكّب الذى لا يرى الدنيا على أنها فقط خونة وأنقياء، عسكر وثوار، ملائكة وشياطين. هل استفزك كلامي؟، لا بأس، أفرغ كل توترك الثورى فى شخصى غير المتواضع، لكن حاول بعدها أن تقضى ولو ساعة كل يوم فى قراءة تاريخ الثورات، لتكتشف أننا الآن نعيش على أعتاب المرحلة التى يمكن أن ننزلق منها لا قدر الله إلى فوضى لا يتم حسمها إلا عبر قوة مسلحة تأتى بديكتاتور جديد وتعيد تبديل المواقع وتجعل الراغبين فى كسب كل شيئ مرة واحدة يخسرون كل شيئ. من الآخر: ملعون أبو الوعى المشوش الذى يجعل البعض يتخيل أن من مصلحة مصر أن تعيش بدون مؤسسة عسكرية قوية وموحدة، مع أنه لو نظر إلى الخريطة وفكر قليلا لأدرك أن حل مشاكلنا مع المجلس العسكرى لن يكون عبر الكلام المنفلت الذى يتم الإلقاء به جزافا دون التفكير فيه لمجرد أن يشعر هذا بأنه بطل أو تلك بأنها جدعة، حتى لو كانوا محقين فى شعورهم. الغريب أن جميع هؤلاء يتحدثون بإسم الشعب، مع أنك لو طلبت منهم أن يختاروا أى عدد من المواطنين إختيارا عشوائيا ثم قرأت على أولئك المواطنين مايكتبونه لما سلموا من بطش الناس أو إتهامهم لهم بالخيانة، مع أنهم ليسوا ممولين ولا خونة، بل هم ببساطة غير قادرين على التواصل مع الشعب الذى يتحدثون بإسمه. من الآخر أيضا ملعون ألف مرة أبو العنجهية التى تجعل بعض اللواءات يتخيل أن إرادة الناشطين السياسيين يمكن أن تكسرها عصى الشرطة العسكرية أو استدعاءات النيابة العسكرية التى لا أدرى من نصح المجلس العسكرى أنها يمكن أن تساعد على إستقرار البلاد، وكان أولى به أن يتفاعل بذكاء وحنكة وإيجابية مع شجاعتهم ورغبتهم المشروعة فى تكسير الخطوط الحمراء التى أذلت هذه البلاد، لا أدرى هل تشم معى فى هذا المشهد الملتبس رائحة بعض المؤسسات الراغبة فى استمرار نفوذها، والتى أزعم أن بعض من بها يمارس مؤامرة دنيئة تستهدف إدخال البلاد فى صراع يتجاوز صينية التحرير ليجهض قدوم الإنتخابات التى ستأتى بسلطة مدنية أيا كانت عيوبها سيكون من حقها لأول مرة أن تحاسب الجميع دون إستثناء. لا أتحدث بإسم أحد، أتحدث عن نفسى فقط وأزعم أن مصر تحتاج إلى مؤسسة عسكرية قوية تحمى البلاد ولا تحكمها، لأن البلاد إذا تعرضت لخطر مسلح لن تحميها الألسن السليطة بل ستحميها القوة المسلحة التى لن تكون فعالة إلا إذا توحدت خلف قيادة لست مشغولا ببراءتها أو ثوريتها، ولا أستعجل محاسبتها لأن ذلك ستحققه الديمقراطية وحدها. لكن مصر تحتاج أيضا إلى أن يظل قلب ثورتها نابضا بحماس ناشطين سياسيين لا يكفون عن التعلم ونقد الذات ولا يركبهم الغرور فيتصوروا أنهم أقوى من سانجام وأدرى بمصلحة الشعب من الشعب نفسه، ولا يتملكهم النزق الذى يعميهم عن رؤية إنتصارهم الساطع فيرددون هراءا من نوعية أن ماحدث كان إنقلابا وليس ثورة فيحققون لعدوهم نصرا مجانيا لا يحلم به. هل يتراجع المجلس العسكرى عن سياسته الصدامية التى تعلو نبرتها يوما بعد يوم؟، لا أعتقد، هل سيقرر النشطاء السياسيون أن يلعبوها سياسة ويفوتوا الفرصة على من يستغل حماسهم لمصلحته؟، لا أعتقد، ما الحل إذن؟، الحل الوحيد هو أن نعمل سويا على الوصول إلى صندوق الإنتخابات الذى يعيد الجيش إلى ثكناته وينشر حماس الناشطين فى كافة ربوع مصر وليس داخل صينية التحرير فقط. تحيا مصر، بس إدوها فرصة.