يعتبر سيد قطب من أبرز الأسماء التى يستند تنظيم الإخوان إلى أفكاره فى تحديد رؤيتهم تجاه الآخر والمجتمع، كما أن كتاباته، خصوصا «معالم فى الطريق» و«فى ظلال القرآن»، كانت ملهمة لجماعات الإسلام السياسى التى تبنت العنف كوسيلة وحيدة لتغيير المجتمع، ومنحتهم صك تكفير المجتمع وجواز محاربته ومقاومته بالسلاح، وهو ما أدى إلى سفك بحور من الدماء، خصوصا خلال عقد التسعينيات من القرن الماضى، وما نراه فى الوقت الراهن، فليس غريبا إذن عندما نعرف أن الجناح القطبى (نسبة إلى أفكار سيد قطب) هو الذى سيطر على تنظيم الإخوان خلال السنوات العشر الماضية، مقصيا ما كان يطلق عليهم «الحمائم»، محكما سيطرته الحديدية على الجماعة، متبنيا وجهة نظر متشددة، ومصرا على إشعال النار فى الوطن. الكاتب الكبير حلمى النمنم يحلل لنا خلال هذه الحلقات شخصية مُنظِّر الإخوان الأكبر سيد قطب، كاشفا عنه الأساطير التى نسجها الإخوان حول شخصيته وأفكاره حتى حوَّلوه إلى أسطورة. رغبة أمريكا وضعف خبرة المجلس العسكرى فرضا على المصريين «حكم سيد قطب» بعد ثورة يناير «القطبيون» أحكموا قبضتهم على الجماعة.. ومرسى أعلن أنه عرف صحيح الإسلام من سيد قطب أفكار ودعوات قطب بدت واضحة فى تصرفات قادة الإخوان وفى خطابهم العام والمعلن للشعب قطب كان يرى أنه ليس مهمًّا وجود برنامج سياسى للإخوان.. المهم أن يحكموا أولاً فى أواخر عام 1997 انتهيت من كتابى «سيد قطب وثورة يوليو» الذى صدر فى صيف العام التالى مباشرة، وحيرنى فى ذلك الكتاب عنوانه، كان العنوان الأول له «التوحد القاتل.. سيد قطب وثورة يوليو» ثم وجدت أن تعبير التوحد القاتل.. قد يبدو غامضا وحذفته.. يومها لم أتصور أننى يمكن أن أعود ثانية للكتابة عن سيد قطب وعن أفكاره وحياته، وانشغلت بقضايا وأفكار أخرى، ولما قامت ثورة 25 يناير رأيت أن ميدان التحرير بحشوده المليونية وشعاره «سلمية.. سلمية.. مدنية.. مدنية.. مدنية» يعلن فشل الأفكار والنموذج الذى دعا إليه سيد قطب. غير أن الأمور جاءت، بعد ذلك، على غير ما رأينا فى البداية، والذى حدث أن الدولة المصرية عبر خطوات متعرجة طوال عام 2011 جرى تسليمها إلى الإخوان المسلمين وهوامشهم من التيارات المتأسلمة، وأذكر أننى نبهت وحذرت من ذلك فى مقال افتتاحى لمجلة «المصوَّر»، عقب انتخابات مجلس الشعب مباشرة، لكن كان القطار مندفعًا أو مدفوعًا برغبة أمريكية واضحة وتدبير معقد لدى الإخوان وضعف خبرة لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكان أن وجدنا أنفسنا بإزاء برلمان يسيطر عليه الإخوان وكذلك مجلس الشورى ثم رئيس الجمهورية الذى تسلم منصبه فى 30 يونيو 2012، أقصد د.محمد مرسى. وهكذا فرض علينا كمصريين مجددًا سيد قطب، كانت المجموعة التى تقود الإخوان هم من القطبيين، أى أتباع سيد قطب، كان المرشد العام د.محمد بديع قطبيًّا بارزًا، هو أحد الذين حوكموا فى تنظيم سنة 1965، الذى أسسه وقاده سيد قطب، أى أنه تلميذ مباشر لسيد قطب، نفس الأمر ينطبق على نائب المرشد د.محمود عزت، كان شريكًا فى تنظيم 1965، أما المهندس خيرت الشاطر النائب الأول للمرشد فهو ليس تلميذًا مباشرًا لسيد قطب، حين كان سيد قطب يحاكم سنة 1965، كان خيرت اسمًا صاعدًا فى تنظيم الشباب الاشتراكيين، التابع للاتحاد الاشتراكى العربى، لكنه تحول عن المشروع الناصرى والاشتراكى بعد 15 مايو 1971، وفى منتصف السبعينيات اتجه إلى التيار المتأسلم، ثم انضم إلى الإخوان، وصار قطبيًّا بارزًا، ذكر ثروت الخرباوى فى مقال له، أن الشاطر كان يحاضر شباب الإخوان بالقاهرة حول سيد قطب، وأنه كان يردد -حفظا- فقرات كاملة من كتاب «معالم فى الطريق»، ولم يكن عصام العريان بعيدًا عن المؤثرات القطبية، أما د.محمد مرسى فله شأن آخر مع سيد قطب، وكنت أنا طرفًا فيه. فى عام 2007 تحدث الشيخ يوسف القرضاوى عن سيد قطب، متهمًا إياه بتكفير المسلمين، والخروج فى ذلك عن رأى أهل السنة والجماعة، قال القرضاوى ذلك فى ندوة بنقابة الصحفيين فى القاهرة، وأثارت كلماته ضجة، وعلى الفور فتح الباحث ضياء رشوان حوارًا حول سيد قطب، فى برنامج كان يقدمه بإحدى الفضائيات، جاء ضياء بالشيخ القرضاوى ليستوضحه ويسمع منه فى حلقة، وجاء بالدكتور محمد حافظ دياب وكاتب هذه السطور فى حلقة، باعتبار أن كلينا له كتاب عن سيد قطب ويتعامل معه من موقع الباحث والناقد، وفى حلقة كان ضيفه د.محمد مرسى، عضو مجلس الشعب، آنذاك باعتباره قطبيًّا، وفى تلك الحلقة قال د.مرسى إنه عرف صحيح الإسلام من سيد قطب وكتابه «معالم فى الطريق»، وأصبح هذا الذى عرف صحيح الإسلام من سيد قطب رئيسًا للجمهورية، باختصار فرض سيد قطب نفسه علينا مرة ثانية، وكنت مضطرًا أن أعود إليه من جديد باحثًا ومتأملاً، خصوصا أن أفكار ودعوات سيد قطب راحت تبدو جلية فى تصرفات النخبة القطبية الحاكمة، سواء فى تصرفاتهم وقراراتهم أو فى خطابهم العام والمعلن للرأى العام، وحدث أن استضافنى الزميل والصديق إبراهيم عيسى فى برنامجه المهم «هنا القاهرة» ربيع سنة 2013 على مدى يومين للحديث عن سيد قطب، وقلت يومها إن سيد قطب يحكم مصر من قبره. لاحظ مثلاً، كيف سخرت جماعة الإخوان من المواطنين المصريين الذين طالبوا الجماعة ببرنامج سياسى مفصل لحل مشكلات المصريين الاقتصادية والاجتماعية، فاكتفوا بكلمة «الإسلام هو الحل»، وهو شعار تمت صياغته بخبث شديد، فهو لا يقدم إجابة تفصيلية عن أى شىء، فقط يدغدغ المشاعر، وإذا اعترض أحد على هذه الصياغة فإنه يبدو وكأنه يعترض على الإسلام ذاته، ولما خاض د.مرسى الانتخابات الرئاسية رفعوا كلمة مبهمة اسمها «مشروع النهضة»، وخرج أحدهم ليقول إن ألفى عالم من علماء مصر شاركوا فى وضع أسس وتفاصيل المشروع، وبعد أن نجح د.مرسى خرج من قيل إنه مهندس هذا المشروع والمشرف عليه: خيرت الشاطر ليعلن لنا أنه لا يوجد مشروع.. ترى هل يبتعد ذلك السلوك عن مقولة سيد قطب لأنصاره، محذرًا إياهم من أولئك الذين يطالبونهم ببرنامج سياسى، ويرى أن ذلك يبعدهم عن الغرض الأساسى، وأنه ليس مهمًّا أن يكون هناك برنامج، المهم أن يحكموا أولاً ثم يأتى بعد ذلك الحديث عن البرنامج!! لاحظ كذلك، كيف تعاملت الجماعة مع منتقديها، حيث لم تحاول الاستماع إلى آرائهم، ولا التفاعل مع وجهات نظرهم، وسارت الجماعة فى طريقها كأنه ليس هناك أحد ينادى ويتكلم، الأمر -نفسه- ينطبق على د.مرسى رئيس الجمهورية إبان الأزمة الأخيرة التى أحاطت به فى يونيو 2013، نزل الملايين إلى الشارع مطالبين بانتخابات مبكرة، وأصر هو على أنهم مجموعة آلاف، وأن معظمهم من «الفلول»، ورفض أن يقدم أى تنازل ولو صغير، كان يكفى أن يقيل الحكومة أو يعزل النائب العام أو يعزل مستشارته السياسية، لكنه تمسك بشعار رئيس ديوانه: الرئاسة لن تتراجع قيد أنملة، كل هذا لا يبعد عن ثقافة وأفكار سيد قطب، حين راح يوصى أتباعه بالاستعلاء على الآخرين، ويقول لهم إنهم يجب أن يتمسكوا بالاستعلاء، فى كل حال وفى كل موقف، الاستعلاء فى القوة كالاستعلاء فى الضعف، الاستعلاء مع الكثرة ومع القلة، وعلى هذا النحو كان سيد قطب حاضرًا فى تلافيف أدمغتهم، يتحركون بأفكاره وآرائه، كأنهم منومون مغناطيسيًّا، كانوا يقتربون من الهاوية يومًا بعد يوم، وملامح السقوط بادية أمامهم وعليهم، لكنهم وحدهم كانوا سادرين فى أفكار سيد قطب، التى شكلت وعيهم وسلوكهم، ولا يمكنهم الفكاك منها، حتى بمنطق إنقاذ أنفسهم. كان المشهد غريبًا ومتناقضًا، ثورة تقوم وتطيح بحاكم ظل فى موقعه قرابة الثلث قرن، متحديًا المجتمع كله ويحاول أن يعاند الزمن، وبدلاً من أن يتأسس مجتمعًا إنسانيًّا.. مدنيًّا يقوم على الحرية واحترام كرامة الناس جميعًا ويحقق العدل بينهم، إذا بنا نجد أنفسنا أمام الجماعة التى دعا إليها وبشر بها سيد قطب، من ازدراء الآخرين جميعًا والاستعلاء عليهم، وإهانة الدولة ومحاولة إسقاطها وصولاً إلى اللا دولة، كما حلم هو، وصل الأمر إلى قتل المعارضين والمخالفين لهم، كما حدث حول قصر الاتحادية فى 4 ديسمبر 2012 ثم حول مكتب الإرشاد فى المقطم، وإذاعة قوائم تتوعد بالاغتيال لكل من تسول له نفسه انتقاد تلك العصابة القطبية ومحاولة تفنيد مشروعهم اللا وطنى واللا إسلامى أيضًا. لم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن سادت حالة من تمجيد سيد قطب فى المجال الصحفى والثقافى العام، والنواح عليه مجددًا، وتخصص صحيفة قومية كبرى، ملفًّا موسعًا عنه، يظهر فيه سيد قطب شاعرًا رومانسيًّا ينازع كبار شعراء عصره، وناقدًا صاحب نظرية نقدية، وروائيًّا بارعًا وضحية الحاقدين والكارهين للإسلام، وأمام حالة الكذب تلك والتزييف الصريح والمباشر، لم يكن ممكنًا السكوت، خصوصا أن تلك الصحيفة وغيرها من الصحف، التى سعى القائمون عليها إلى التأخون، تقربًا للزمرة القطبية الحاكمة، لم تتح الفرصة لرأى آخر أن ينشر أو يظهر، ثم وجدنا وزارة الأوقاف تدخل على الخط، بعد أن تأخونت، فتضع على موقعها الإلكترونى مقالاً مطولاً عن سيد قطب، كله تمجيد، وتزييف لكثير من المعلومات والحقائق عنه، رغم أنه فى ملفات الوزارة تقرير أعده مجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 حول كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق» التقرير يدين علميًّا وفقهيًّا الكتاب ومؤلفه. فى ظل هذا المناخ بدأ تكريس صورة جديدة للراحل سيد قطب ناقدًا، اعتبر هو من اكتشف نجيب محفوظ وهو من قدمه للساحة الثقافية، وهو -أيضًا- من تنبأ له بجائزة نوبل، ومن يحقق الوقائع ويدرس حياة نجيب محفوظ وإبداعه يعرف تمامًا أن كل ذلك غير صحيح. فى مجال الإسلاميات قيل إنه بدأ كاتبًا متسامحًا ومتفتحًا، لكن بعد أزمة الإخوان مع ثورة 52 ودخوله السجن، تحول تحت القهر والتعذيب إلى كاتب متشدد يكفر الآخرين، ولم يكن ذلك صحيحًا، التكفير ظهر عنده فى الجزء الأخير من كتاب العدالة الاجتماعية، الذى انتهى من كتابته سنة 1947. كنا بإزاء النفخ فى أسطورة قديمة، اسمها سيد قطب، وبدلاً من البحث والدراسة سار معظمنا وراء مروجى الأسطورة يجترون أطرافها ويتجاهلون أى تفاصيل يمكن أن تقود إلى مواجهة تلك الأسطورة.. من هذا المنطلق وإلى هذا الهدف بدأت العمل فى هذا الكتاب، تأمل سيد قطب من موقع الباحث والدراسة رفضًا لأسطرة الرجل والدخول به إلى عالم الكمال المطلق والقداسة، ورفضًا كذلك لشيطنته واعتباره ناقدًا أدبيًّا وقع اختيار المخابرات الأمريكية عليه لإعداده وتجهيزه بمشروع التكفير وزرع الأصولين فى مجتمعنا وبلادنا. وبعد.. لم يكن فى تخطيطى أن أعود ثانية إلى سيد قطب باحثًا وكاتبًا، مكتفيًا بكتابى الأول عنه، وكنت أستعد لكتاب آخر، عن الحسن بن على، رضى الله عنه، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى لم يجد اهتمامًا كافيًا من الباحثين المعاصرين، لكن الأحداث دفعتنى دفعًا إلى سيد قطب وجماعة الإخوان، فى مفارقة غريبة بين الكتابة عن حفيد النبى، الذى تنازل عن الخلافة والحكم حقنا لدماء المسلمين وتجنبًا للفرقة والحرب الأهلية، والكتابة عن سيد قطب والجماعة التى استباحت واستحلت كل شىء.. كل شىء، الدين والوطن والإنسان والأخلاق، من أجل الوصول إلى كرسى السلطة فى مصر، ولله فى خلقه شؤون. قطب طلب من دار نشر كتبه عدم طبع «معالم فى الطريق» منذ عشرين عامًا الفصل الأول نجحت الجماعة ومعها «بهاليل» سيد قطب فى خلق مجموعة من الأساطير حوله، وفى العام الحالك الذى حكمت فيه الجماعة مصر اتسع نطاق الأساطير، لذا كان لا بد من كشف الأكاذيب التى بنيت عليها تلك الأساطير. قبل أكثر من عشرين عامًا توقفت «دار الشروق» عن طباعة كتاب سيد قطب.. «معالم فى الطريق»، الكتاب الذى أثار وما زال يثير جدلاً كبيرًا بين الدارسين والباحثين، فضلاً عن شباب الحركات الإسلامية التى توصف ب«الراديكالية» فى عالمنا العربى، كان لدى «دار الشروق» حق طباعة كل أعمال سيد قطب الإسلامية منذ سنوات السبعينيات، قبل التوقف عن طباعة «المعالم»، لاحظت أن دار الدعوة للتوزيع بالسيدة زينب، وهى تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، توقفت هى الأخرى عن بيع هذا الكتاب، بينما تبيع بقية أعمال قطب الإسلامية وفى مقدمتها كتابه «فى ظلال القرآن»، سألت يومها الموظف المسؤول بالمكتبة اكتفى بالقول «لم نعد نطلب هذا الكتاب»، حاولت أن أستفسر منه أكثر ولم يكن لديه إجابة أو معلومة وربما لم يشأ أن يخبرنى، خصوصا أن الكتاب عليه طلب، كنت -من قبل- إذا طلبت من المكتبة كتابًا وليس متوفرًا لديهم وعدوا بتدبيره وكانوا يفعلون. وقتها كانت حوادث الإرهاب منتشرة بمصر، فى أعقاب اغتيال الكاتب والمفكر د.فرج فودة، تصورت يومها أن عدم توزيع الكتاب قد يكون جزءًا من الحسابات والألاعيب أو الترتيبات بين جماعة الإخوان وأجهزة الدولة المباركية، ذلك أن الكتاب متهم بأنه وراء أفكار العنف والجماعة كانت تعلن للدولة أنها بريئة من العنف وحوادثه. استفسرت من المهندس إبراهيم المعلم، صاحب ومدير «دار الشروق»، فصارحنى بأن أسرة سيد قطب طلبت وقف طباعة الكتاب، لأنهم لاحظوا أن هناك من يستنتج من الكتاب أفكارًا أو مواقف لم يكن ليقبل بها سيد قطب ولا قصد إليها، وأن الكتاب، فى العموم، يلقى بظلال من سوء الفهم على أفكار سيد قطب، ويظهره متشددًا، وأن «دار الشروق» استجابت لرغبة الأسرة، خصوصا شقيقه الكاتب الإسلامى محمد قطب، وهكذا توقفت الدار عن طباعة الكتاب، حتى يومنا هذا، سنة 2014. لم أفهم تبرير الأسرة كما شرحه لى إبراهيم المعلم، لسبب بسيط هو أن كتاب «المعالم»، لا يعد إبداعًا جديدًا بالنسبة إلى مؤلفه، ذلك أن معظم فصول الكتاب متناثرة فى كتبه الأخرى، خصوصا «فى ظلال القرآن»، وأن ما زاد عن الفصول المستقلة من الأعمال الأخرى ليس إلا هوامش وإضافات أو استطراد عليها. ومن ثم فإن منع الكتاب –بعدم طباعته– لن يحول دون ما فيه من أفكار، الأفكار نفسها متناثرة فى كتبه الأخرى، واعتبرت ذلك المنع حالة من حالات مصادرة الكتب التى كانت منتشرة فى مصر يومها، وكتبت عن ذلك، وقتها، فى سياق اهتمامى بالأعمال الفكرية والإبداعية المصادرة بقرار إدارى أو قرار من جماعة أو حتى أسرة الكاتب. وقد عرفنا كل هذه الأساليب من المصادرة وغيرها، عرفنا –مثلاً– أن يصادر مؤلف عملاً من أعماله. ويجب القول إن تلك الفترة شهدت اهتمامًا واحتفاء بسيد قطب من جهة أخرى، وتحديدًا مع فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، فى ديسمبر 1988، مع الفرحة العارمة بالفوز اهتمت الهيئة المصرية العامة للكتاب بإصدار مجلد ضخم يضم المقالات النقدية المبكرة حول نجيب محفوظ، وقدم للكتاب د.سمير سرحان رئيس الهيئة، وقام على إعداده واختيار المقالات، الناقد البارز د.غالى شكرى، واختار د.غالى مجموعة من المقالات التى كتبها الناقد سيد قطب فى مجلة «الرسالة» حول أعمال نجيب محفوظ التى ظهرت فى أواخر الأربعينيات مثل «خان الخليلى» و«زقاق المدق». كانت هذه المقالات تمثل اكتشافًا لكثيرين، فقد شاهدوا وجه سيد قطب، فى مرحلته الأدبية والنقدية وتم الاحتفاء بهذا الجانب، وظهر ما يمكن أن نسميه حنين أدبى ومعرفى لسيد قطب الناقد، واستنتج البعض أن سيد قطب كان «أول» من قدم نجيب محفوظ للحياة الأدبية، وأنه «أول» من تنبأ له بجائزة نوبل، وكان ذلك الاستنتاج غير دقيق، لم يكن سيد قطب «أول» من انتبه لمحفوظ، فقد سبقه غيره من الكتاب والنقاد، وهناك رسالة جامعية أنجزت فى كلية دار العلوم –فى ما بعد– حول نقاد نجيب محفوظ، أثبتت ذلك على نحو أكيد ونهائى، لكن سيد قطب كان الأكثر حماسًا واحتفاء بنجيب محفوظ، والحق أنه كان شديد الحماس لأبناء جيله من الكتاب والأدباء. الحلقة الأولى قطب لم يكن شاعرًا جيدًا مقارنة بأبناء عصره.. وتوقف عن الشعر بعد عدم نجاح ديوانه الوحيد الإخوان كانوا حريصين على تقديم قطب فى صورة المتسامح والمعتدل وأن التعذيب فى السجن هو الذى أدى إلى ظهور العنف فى أفكاره هذا الاكتشاف، أو إعادة اكتشاف سيد قطب، جعل كثيرا من المثقفين يهتمون بأعماله الأولى مثل روايتيه «أشواك» و«الأطياف الأربعة» وغيرهما، وكانت هناك مطالبات أو تمنيات بإعادة طباعتها ونشرها ولم يتحقق ذلك إلا فى عام 2011، حيث قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بإعادة نشر رواية سيد قطب الوحيدة «أشواك» بتقديم احتفائى من الناقد شعبان يوسف، وسعدت بهذه الطبعة، لأن أجواء ثورة 25 يناير سوف تفتح كل الملفات وتجعلنا نرى سيد قطب كاملاً لا الشطر الأخير من حياته وأفكاره، وشعبان يوسف لديه اهتمام كبير بأرشيف الثقافة المصرية، ولديه هواية البحث فى الأعمال المجهولة والمنسية لكبار الكتاب، وعنده مشروع لإعادة نشر بعض هذه الأعمال، وقد بدأ هو برواية «أشواك»، ويعكف الآن على رواية سيد قطب التراثية «المدينة المسحورة» التى تأثر فى كتابتها ب«ألف ليلة وليلة» ورواية أستاذه طه حسين «أحلام شهر زاد»، وهذه الأعمال لسيد قطب لم يطبع أى منها سوى مرة واحدة، باستثناء كتابيْه «مشاهد القيامة فى القرآن» و«التصوير الفنى فى القرآن»، حيث واظبت «دار المعارف» على إعادة طباعتهما، وهما بداية دخوله مجال الكتابة والبحث الإسلامى. غير أن عام 2012 جاء بجديد وهو الصعود الصاروخى لجماعة الإخوان المسلمين إثر تفاهمات تمت، منذ سنوات، فى الظلام مع الإدارة الأمريكية وآلت رئاسة الجمهورية ومؤسسات الدولة إلى ما حذر منه كثيرون وهو ظاهرة «التأخون»، حيث أطل علينا المتأخونون يقدمون فروض الولاء والطاعة للحكام الجدد، وبدلاً من تقديم سيد قطب كاملاً وجدنا آيات المديح والتغزل فى صاحب المعالم، وظهر من يذرف الدمع على إعدام سيد قطب، رغم أن بعض هؤلاء عايش لحظة إعدامه ولم يذرف يومها دمعة واحدة، وهكذا وجدنا التمسح بسيد قطب، والحديث عنه شاعرًا جيدًا ومتميزًا، وهو لم يكن كذلك، فى وجود شعراء عصره وفوجئنا بطبعة يصدرها مركز «الأهرام للترجمة والنشر» بعنوان «الأعمال الشعرية الكاملة» لسيد قطب، وهو لم يكن لديه سوى ديوان وحيد، طبع للمرة الأولى سنة 1930 وانصرف، هو، بعد ذلك عن الشعر بسبب عدم نجاح الديوان، وكانت لديه قصائد نشرت متفرقة، ولذا لا يمكن الحديث نقديًّا وعلميًّا عن الأعمال الشعرية الكاملة لسيد قطب، تلا ذلك مباشرة أن ظهرت فى وقت واحد طبعتان من كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق»، إحداهما يبدو أنها قرصنة، فلا نجد عليها اسم دار نشر، لا شىء سوى نص الكتاب والأخرى عن دار نشر «الحدود»، وقد نفدت هذه الطبعة فى وقت وجيز، إذ ظهرت طبعة ثانية منها مختلفة القطع، هذه الطبعة بتقديم عصام عبد الفتاح، ويضاف إلى عنوان الكتاب عنوان آخر فرعى من وضع الناشر والمقدم وليست من وضع المؤلف، يقول العنوان الإضافى «الدستور السرى للجماعة الإسلامية». غلاف هذه الطبعة مختلف تمامًا، لدى طبعة من المعالم، ولعلها الطبعة التى صدرت فى القاهرة، سنوات الستينيات أو بعدها مباشرة، طبعة بلا رقم إيداع ولا تاريخ الطبع ولا اسم دار النشر، بغلاف أبيض والعنوان واسم المؤلف فقط، أما الطبعات التقليدية من «دار الشروق» فكانت تصدر والغلاف به بعض الزخارف الإسلامية البسيطة، من تلك التى نراها فى بعض المخطوطات والكتب الإسلامية القديمة، وأحيانًا كانت تضاف كلمة «بسم الله الرحمن الرحيم» فى أعلى الغلاف.. لكن الطبعة الجديدة نراها مزينة بصورة المؤلف الأستاذ سيد قطب، وسوف نجد صورة المؤلف موجودة على غلاف رواية «أشواك» طبعة هيئة الكتاب وكذلك على ما تسمى الأعمال الشعرية الكاملة. اختيار الصورة يكشف عن موقف نفسى وفكرى أو حالة شعورية وعقلية فى نفس الوقت، وكانت هناك عدة صور تقليدية تنشر لسيد قطب فى الصحف والمجلات أو فى الكتب، سواء منها الكتب المدافعة عن سيد قطب أو المنتقدة له، كتب المحبين وكتب الخصوم، على السواء، وهى صورته وهو فى السجن يقف خلف القضبان أو صورته وهو بالبيجامة الواسعة وعلى رأسه طاقية مخططة من نفس قماش البيجاما، وصورة ثالثة وهو يرفع يديه فى تمرين رياضى، هذه الصور الثلاث يبدو فيها سيد قطب ممتقع الوجه، زائغ العينين، هزيل الجسد، ضعيف البنيان نحيلاً، تبدو على ملامحه الإعياء والإرهاق البالغ، ولا تخلو من مسحة ضعف وهوان بالغ، كانت هذه الصور تناسب مناخ وحالة الاضطهاد والقهر، صورة السجين الضعيف، المظلوم والمقهور، ومن ثم الجماعة المظلومة المقهورة، المضحية والمغلوبة على أمرها، انتشرت هذه الصور وصارت هى الصور المعتمدة، حتى مجلة «الدعوة» ومجلة «الاعتصام» كانتا تستخدمان صورة السجن والقفص. الآن –2011/ 2012– اختلف الأمر، صرنا أمام الجماعة المحظوظة، التى آلت إليها مقاليد الأمور، وصار بيدها المنح والمنع، ولم تعد فى حال الاستضعاف، بل تمكنت أو تمسكنت حتى تمكنت، كما يقول المثل الشعبى، وصارت قوية أو مصدر القوة، وانعكس هذا على صورة سيد قطب، أقصد هنا الصورة الفوتوغرافية أو حتى صوره المرسومة، اختفت قضبان القفص وامتقاع الوجه وهزال الجسد، صورته على غلاف الأعمال الشعرية، يبدو فيها ممتلئ الوجه إلى حد السمنة وربما «اللظلظة»، أما صورته على غلاف «أشواك» فهى صورة قديمة له فى شبابه، تبدو فيها العراقة والفخامة، يرتدى بدلة أنيقة ورابطة عنق، كذلك ملامح الوجه يبدو فيها الثقة البالغة، العينان بهما قوة ونفاذية، أما صورته على غلاف «المعالم»، ففيها الأناقة والثقة البالغة، على جانبى الصورة يبدو من بعيد أثر قضيبين حديدين، هما قضبان القفص، لكن الوجه يتقدم عليهما ويتجاوزهما بقوة وثقة، أى أنه أقوى من القفص، محتفظًا بأناقته وثقته البالغة، الصورة الفوتوغرافية تعكس صورة ذهنية يراد أن تنتقل إلى المشاهد أو القارئ، الصورة هنا تعبر عن موقف واضح ومباشر ويراد لها أن تعكس رسالة وموقف محدد، إنها هنا ليست صورة توضيحية لما فى الكتاب، لكنها فاتحة له وتكميلية لما يراد من الكتاب ونشره، ولنتذكر أننا نعيش – الآن– ما يسمى عصر الصورة وثقافة الصورة، أى أنها تهيئ القارئ وتبعث إليه بانطباع ورسالة يراد له أن يستوعبها ويتأثر بها، قبل البدء فى قراءة الكتابة، وحتى لو لم يقرأه يكون الانطباع المستهدف تكون داخلة تجاه الكاتب أولاً وثانيًا ثم تجاه الكتاب. سوف نلاحظ أن اهتمام المثقفين بإنتاج سيد قطب توقف على إنتاجه الأدبى، قبل المرحلة الإسلامية، أى الشعر والرواية، وإن شئنا الدقة محاولات سيد قطب فى كتابة الشعر والرواية، وهذا الاهتمام اقتصر إلى الآن على إعادة نشر بعضها والترحيب بها، لكن لم نجد اهتمامًا نقديًّا بها من النقاد ومن الدارسين يتواكب مع إعادة نشرها واكتشافها. الاهتمام بأعماله الإسلامية اقتصر فقط على كتابه «فى معالم الطريق» باعتباره من وجهة نظر كثيرين يلخص أو يختزل أفكاره الإسلامية، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن كتبه الأخرى مثل نحو مجتمع إسلامى، معركة الإسلام والرأسمالية، الإسلام ومشكلات الحضارة، خصائص التصور الإسلامى ومقوماته، لا تجد من ينشرها، ولم يعد أحد يذكرها، وربما لا يريد أنصار سيد قطب تذكرها، وتحديدًا كتابه عن العدالة الاجتماعية، ومع ذلك فإن الاهتمام بكتابه المعالم، هو اهتمام فردى، إلى الآن من بعض الناشرين الجدد، وليس اهتمامًا مؤسسيًّا، قارن ذلك بعديد من الطبعات التى صدرت فى وقت واحد لأعمال حسن البنا، وأصدرتها دور نشر يعد أصحابها أو القائمون عليها من جماعة الإخوان، حتى إن وزير الإعلام الإخوانى صلاح عبد المقصود كان يرسل نسخًا من أعمال البنا إلى عدد من الصحفيين والكتاب. الذين اختذلوا آراء وأفكار سيد قطب الإسلامية فى كتاب «المعالم» لم يخطئوا كثيرًا، لأن سيد قطب نفسه هو من أشار عليهم بذلك، فى الفقرة الأخيرة من مقدمة الكتاب، راح يتحدث عن فصول كتابه وذكر أن منها «أربعة فصول مستخرجة من كتاب (فى ظلال القرآن)»، مع تعديلات وإضافات مناسبة لموضوع كتاب المعالم، وفى الهامش نجد إشارة إلى أسماء وعناوين الفصول الأربعة، والحق أنه إذا كان المعالم يضم ملخصًا لأفكار وآراء سيد قطب فإن الظلال يضم هذه الأفكار بتوسع شديد واستطراد بالغ، لذا كان من السهل عليه أن يلتقط بعض ما ورد فى الظلال وقدمه مكثفًا على أنه «المعالم»، لكنه لم يذكر كل شىء فى الهامش الذى تحدث فيه عن الفصول التى اتخذها من «الظلال»، فقد أغفل شيئًا مهمًّا، يتعلق بالفصل الثامن من المعالم، والذى يحمل عنوان «التصور الإسلامى والثقافة»، هذا الفصل بكامله نقل إلى كتاب العدالة الاجتماعية فى الإسلام، بلا تعديل وبلا تحوير جوهرى فى المضمون أو الفكرة ولا فى الأسلوب والصياغة، هناك تغيير طفيف يمكن أن ندخله فى باب التصحيح اللغوى أو إعادة الصياغة، ويتعلق بجملة واحدة، وردت على هذا النحو فى كتاب المعالم «إن الذى يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة»، حين نقلها إلى كتاب العدالة حذف كلمة «يكتب» لتصبح «إن الذى يقول هذا الكلام..»، وفى فقرة أخرى قدم جملة فى فقرة على جملة، ما أقصده أن النقل كان كاملاً وتامًّا، وقيام المؤلف بتبديل كلمة أو استبدالها بغيرها، وتقديم جملة على أخرى، يعنى أن من قام بالنقل كان واعيًا بما يفعل وتأمل الكلمات جيدًا.