مع الحرية تأتى المسؤولية. ما دام باب حرية التعبير عن الرأى مفتوحا، فمن الضرورى أن يزن الناس كلامهم حتى لا يصيبوا الآخرين بسهامه. وأبسط موازين الكلام أن لا يتهم الناس بعضهم دون سند أو دليل، أو يدعون بعضهم للفتك بالبعض الآخر، أو يهددون بعضهم إن اختلفوا معه فى الرأى. يتفق الناس -نظريا- على هذا، وبعضهم يحترم نفسه والآخرين ويتبعه، لكن ما العمل فى هؤلاء الذين لا يزنون كلامهم؟ أبسط العمل أن نحملهم مسؤولية ما يقولون، وهنا دور القانون الذى يضبط المجال العام، ويرسم الحدود بين حرية التعبير من جهة والهرتلة التى تضر بالآخرين من جهة أخرى. حين يلعب القانون هذا الدور فإنه يحمى حرية التعبير ويصونها من محاولات النيل منها. وأول مثال لهذه الحماية هو تجريم التشهير. وبمناسبة فوز حزب النور الكاسح، أذكر بتجريم سورة النور لاتهام النساء بالزنى دون الإتيان بالدليل القاطع المنصوص عليه شرعا. عقوبة التشهير دون دليل هى سقوط أهلية من وجّه التهمة وعدم قبول شهادته بعدها أبدا. لو طبقنا هذا المبدأ على كل من اتهم شخصية عامة بالخيانة العظمى، وبالعمالة للخارج، وبالتدبير لفرض الوصاية الأجنبية على مصر، وبالفساد الأخلاقى، لطهرنا الجو العام من جزء كبير من الفساد والفوضى اللذين نشهدهما. تجريم اتهام الناس دون دليل ومعاقبة من يفعل ذلك بأن لا تؤخذ شهادته أبدا، لا فى المحاكم ولا فى وسائل الإعلام، وبحرمانه من الترشح للمناصب العامة أو توليها، سيجعل المهرتلين يفكرون مرتين قبل كيل التهم للناس، أو سيريحنا منهم إن كانوا غير قادرين على ضبط لسانهم. المثال الثانى، هو تجريم تحريض الناس على قتل وإيذاء البعض، كأن يدعو شخص ما لحرق فئة من فئات المجتمع، أو سحلها، أو صهرها وتحويلها إلى رماد، أو ما شابه ذلك من صنوف الهرتلة. أو أن يدعو شخص لحرمان فئة ما من حقوق تتمتع بها بقية الفئات. أو لكراهيتها، سواء كانت هذه الفئة دينية أو فئة مهنية أو اجتماعية. فى كل هذه الحالات لا يجب أن تمر هذه الدعوات دون عقاب، سواء كانت صادرة مع سبق الإصرار والترصد أو عن طريق الهرتلة. فى الحالتين يجب، حماية للمجتمع بل وللشخص صاحب الدعوة، إسقاط أهليته للشهادة والحيلولة بينه وبين مواقع اتخاذ القرار التى تمس الكافة -أى الحرمان من تولى والترشح للمناصب العامة. المثال الثالث، هو تجريم إرهاب الناس، خصوصا أصحاب الرأى. حرية الرأى تعنى أن من حق كل إنسان أن يكون له رأيه، وأن يعبر عنه، مهما كان هذا الرأى، ما دام لم يعتد على أحد ولم يتهم أحدا دون دليل، ولم يدع للقتل والإيذاء. أما أن يأتى شخص ما أو جهة ما ويجرم رأيا، فهذا فى حد ذاته جريمة. على سبيل المثال أن يأتى شخص -عادة مرتبط بالسلطة- ويقول: «إن من يدعو لتسليم السلطة الفورى إنما يهدد الأمن القومى»، أو أن يقول «إن تحميل أجهزة الأمن مسؤولية أحداث مجلس الوزراء خيانة عظمى». هذا تخويف وليس رأيا. هذا إرهاب لأصحاب الرأى يجب أن يعاقب عليه القانون، حماية لأصحاب الرأى. إن كنت تختلف مع حكمة تسليم السلطة الفورى للمدنيين فهذا حقك، ولكن ليس من حقك ولا من حق أحد اتهام من يدعو لذلك فى وطنيته. فى هذه الحالة يجب تطبيق عقوبة التشهير دون دليل، وهى إسقاط أهلية من يفعل ذلك للشهادة وحرمانه من تولى أو الترشح للمناصب العامة. تجريم الهرتلة ينقى المجال العام من الشوائب العالقة فيه، التى تحجب الرؤية وتنشر الخوف وتثير الفتنة.