ولكن شكل نظام الأممالمتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية من الصعب إعادة تشكيله دون حرب دولية كبرى، حيث إن هذا النظام هو نتاج لقاء «يالطة» بين القوى المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية، ومن المفارقات أن منتجع يالطة التى اجتمع فيه المنتصرون فى الحرب يقع فى شبه جزيرة القرم التى عادت إلى روسيا مرة أخرى. من ناحية أخرى انفجرت الكتابات والتقارير فى الإعلام الأمريكى ومراكز الأبحاث ضد روسيا، حيث إن هناك الآلاف من المتخصصين فى الدراسات السوفييتية، وقد عادت شهيتهم للكتابة بعد أزمة القرم، وهؤلاء مع تخصصهم العميق والدقيق فى الشأن الروسى إلا أن الخيط الذى يربطهم جميعًا هو النظر إلى روسيا على أنها عدو من واقع ما درسوه فى أثناء الحرب الباردة، وهؤلاء يشكّلون وقودًا للصدام داخل أمريكا ويدفعون المسؤولين إلى الاتجاه الخطأ. من ناحية ثالثة فإن الأخطاء الأمريكية أعطت مصداقية للتحرّك الروسى، فتركت أمريكا ملف سوريا فى أيدى قطر والسعودية، مما حوّلها إلى مسرح للإرهابيين المجرمين جعل التدخّل الروسى مقبولًا، ودعم أمريكا للإخوان وللمحور الإخوانى بقيادة تركيا جعل أصدقاء أمريكا القدامى ينفرون منها، وتصرف أمريكا تجاه ثورة 30 يونيو 2013 جعلها على وشك أن تفقد أهم حليف فى الشرق الأوسط وهو مصر، والحوار الأمريكى-الإيرانى جعل السعودية ودول الخليج تهتز ثقتها وصداقتها لأمريكا، والنتائج الكارثية لغزو العراق جعل السنة ساخطين، وسياسات أمريكا برمتها ونتائجها تجاه مسألة مسيحيى الشرق الأوسط جعلتهم غاضبين بشدة تجاه هذا الدور الأمريكى الذى تسبّب فى كوارث لهم، والفراغ الذى تركته أمريكا نتيجة انسحابها من التدخل فى مناطق عديدة فى العالم جعل قوى طموحة تحاول أن تملأ هذا الفراغ وفى مقدمتها روسيا، كما أن قيادة أمريكا للعالم جلب عليها حسد وعداء وكراهية كثير من الشعوب لها. ومن ناحية رابعة، فإن تحريك أمريكا والغرب للثورة البرتقالية عام 2004 وللانتفاضة الشعبية القومية فى وجه حليف روسيا فى أوكرانيا فى نوفمبر 2013 كشف عن المحاولات التخريبية الغربية لعمق الأمن القومى الروسى، والتى قد تمتد إلى داخل الأراضى الروسية ذاتها، وقد استطاعت روسيا امتصاص آثار الثورة البرتقالية عليها، ولكن ما حدث منذ أسابيع وكشف خطة تحرك الأوكرانيين القوميين للانضمام إلى حلف الناتو هو إهانة كبرى لروسيا وتبجّح غربى ما كان له أن يحدث، فأوكرانيا تمثّل منطقة عازلة بين روسيا وبين دول حلف الناتو فى أوروبا الشرقية، كما أن القرم هى المنفذ الروسى الوحيد للمياه الدافئة، وهى أيضًا مقر للأسطول البحرى الروسى، ومعنى انضمامها إلى الناتو وبها أوكرانيا يعنى تهديد عمق الأمن القومى الروسى، ولهذا يعتبر التحرك الروسى مشروعًا من هذه الناحية، على أن أخطر المآخذ على واشنطن هو التعامل بالمعايير المزدوجة واستثناء نفسها من كل القيود، فهى تعمل بمبدأ مونرو منذ 2 ديسمبر 1823 باعتبار أمريكا الجنوبية تشكّل عمقًا للأمن القومى الأمريكى، ولهذا غزت أمريكا جرينادا فى عام 1983، وبنما فى عام 1989، ولا ننسى كذلك أزمتى الصواريخ الكوبية وخليج الخنازير، فى حين أنها تنكر على موسكو أن يكون لها حزام أمن قومى حولها، وفى الوقت نفسه توافق واشنطن بل وتدعم انفصال كوسوفو عن صربيا، ولكنها تقف ضد انفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وعودتها إلى موطنها الأصلى، ويصفون ما حدث فى مصر فى يونيو 2013 بأنه انقلاب، فى حين يصفون ما حدث فى أوكرانيا فى نوفمبر 2013 بأنه ثورة رغم تماثل الحالتين. على العموم نتمنّى أن لا تتطوّر مسألة القرم لأبعد من حرب العقوبات الاقتصادية المتبادلة، والكرة فى ملعب الغرب بقدر ما هى فى ملعب روسيا، وعلى الجميع أن يدركوا جيدًا عواقب التصعيد والتصعيد المقابل. مجدى خليل كاتب المقال محلل سياسى بارز ومدير منتدى الشرق الأوسط للحريات القاهرة-واشنطن.