الآن أصبحت شِبه جزيرة القِرْم جزءا من الاتحاد الروسى وفقا إلى استفتاء جرى يوم 16 مارس، والذى وافق عليه 97% من الذين صوَّتوا بالانفصال عن أوكرانيا، ثم لاحقا الانضمام إلى الاتحاد الروسى، وهذا الإجراء لم يعترف به سوى روسياوسوريا، هما فقط من اعترفتا بالجمهورية الجديدة، فى حين هناك صمت حذر فى العالم تجاه هذه المسألة وغضب أوروبى وأمريكى. المخاوف الغربية مشروعة والمخاوف الروسية مشروعة أيضا، ولا يوجد طريق للحل سوى تكثيف العمل الدبلوماسى، أما التصعيد والتصعيد المقابل فإن نتائجه قد تكون مدمِّرة على العالم كله، فمن ناحية فإن أمريكا والغرب لم يكتفيا فقط بسقوط الاتحاد السوفييتى عام 1990، ولكنهما حاولا تجريد وريثه الروسى من كل قوة، وكما قال بوتين فى خطاب تاريخى بعد ضم القِرْم: «ما بدا مستحيلا فى يوم من الأيام أصبح واقعا، لقد سقط الاتحاد السوفييتى، لكنك إذا واصلت ممارسة الضغط على الزنبرك إلى أقصى حد، فإنه سيرتدّ فى وجهك وبقوة»، وقد بلغ التجرؤ الأمريكى لحد التمهيد لضم أوكرانيا إلى حلف «الناتو»، وهذا يعدّ من وجهة نظر موسكو لعبا فى أخطر دوائر الأمن القومى الروسى. من ناحية أخرى فإن الخوف الغربى مشروع من شخصية بوتين المستبدة النرجسية، وقد عانى الغرب كثيرا من مثل هذه الشخصيات التى قد يدفعها جنون العظمة إلى تفجير الحروب وتخريب الدول، خصوصا فى ظلّ غياب معارضة حقيقية فى روسيا تستطيع أن تقول «لا» لبوتين، وهناك خوف أوروبى وغربى من غزو الدول واقتطاع أراضيها، وقد تكرَّر ذلك كثيرا فى التاريخ الأوروبى الحديث، ولهذا وقَّعوا معاهدة «هلسنكى» فى عام 1975 مع الاتحاد السوفييتى تحت حكم بريجنيف بحرمة التعدّى على حدود الدول الأوروبية، واعتمد بوتين هذه المعاهدات فى عام 2009، كما أنه نفسه وقَّع اتفاق «بودابست» عام 1994 باحترام حدود أوكرانيا فى مقابل تخلّيها عن برنامجها النووى، والغرب يتهم بوتين بكسر هذه الاتفاقيات مع حزمة من الاتفاقيات المماثلة التى وقّعها، وفى نفس الوقت يتهم بوتين الغرب بأنه هو الذى خالَف اتفاق «بودابست» بالتدخل فى شؤون أوكرانيا عبر تأجيج الثورة البرتقالية عام 2004، وكذلك المساعدة على الانقلاب على حكومة شرعية منتخبة فى نوفمبر 2013. وتلقى مسألة شبه جزيرة القِرْم تأييدا واسعا فى روسيا نظرا إلى أنها كانت جزءا من روسيا حتى عام 1954، حيث أهداها خرشوف إلى أوكرانيا عندما كان سكرتيرا للحزب الشيوعى، وهو ينحدر من أصول أوكرانية، كما أن معظم مَن فيها يتحدَّث الروسية، وتعدّ المنفذ الوحيد لروسيا على المياه الدافئة، وهى مقر للأسطول الروسى منذ عام 1783، وقد دخلت روسيا حربا طويلة مع الإمبراطورية العثمانية من أجلها «1853-1856» سُمّيت بحرب «القِرم»، ومِن ثمَّ فإن هذه المنطقة روسية قلبا وقالبا، كما أن أوكرانيا ذاتها كانت جزءا من روسيا لعدة قرون، كما كتب هينرى كيسنجر، ولكن الخوف فى الغرب من أن السكوت على بوتين قد يفتح شهيته لضمّ أراضٍ أخرى يتحدَّث معظم سكانها بالروسية، سواء فى شرق أوكرانيا أو فى بعض دول الاتحاد السوفييتى السابق، كما قد يدفعه غروره ونرجسيته إلى فتح نقاط صدام أخرى حول العالم تصعّد المواضيع مع الغرب. والحقيقة أن معالجة العالم لأزمة أوكرانيا ستُشكِّل نقطة مهمة فى مسار العلاقات الدولية، وفى شكل النظام العالمى القادم، حيث أعلن بوتين منذ سنتين أن النظام العالمى الجديد يتشكَّل من سوريا، بمعنى أوضح نهاية التفرد الأمريكى لقيادة العالم. وللبريد بقية..