كل عام تشتعل نيران الفتنة في مصر . تلتهم كل ما خضر ويبس من أحلام المصريين . تقيم الفضائيات أعراسا لتزاوج قطبي الأمة . لافتات عناق الهلال مع الصليب تسد نوافذ شاشات التليفزيون . يتسارع الشيوخ والقساوسة الذين عينتهم الدولة في مناصبهم إلى تشبيك الأيدي وتصدير صورة لا علاقة لها بالواقع . صورة وردية تخفي بين تفاصيلها صورة أخرى قاتمة عمرها ثلاثون عاما ؛ هي مدة حكم الحزب الوطني فرغ من إعداد مواده المتفجرة . جهز رجاله المستعدين لتنفيذ المهمة . دربهم تدريبا سليما من أجل تنفيذها . أغراهم بالجنة (الدنيوية) التي تنتظرهم بعد تنفيذها . دعا لهم بالتوفيق على طريقة أحمد راتب وعادل إمام في فيلم الإرهابي .
أما المواد المتفجرة فهي الأفكار التي التي جاء بها الحزب الوطني إلى الحياة السياسية منذ نشأته في رحم السلطة . نظرياته الإقتصادية الخاضعة لسلطان البنك الدولي ؛ فلاهي تعرفها اشتراكية ، أو رأسمالية ، أو لها علاقة بالاقتصاد أصلا . معالجاته الأمنية لكل المشاكل التي تخلفها سياساته . ضربه الحياة السياسية بمخيط من حديد . مضيفا عليها " مسحة " من أحزاب صنعها ؛ تبيت في أحضانه ليلا ، ثم تصحو فتهجوه على استحياء ، بعد أن كسر عينها برجولته الزائفة . رجولته التي استمدها من أقراص الفياجرا السياسية ممتدة المفعول .
وأما مدربيه الذين يعول عليهم فقد اختيروا بعناية . قدرة فائقة على الكلام . وللأسف ثقافة واسعة . أغدق عليهم من مال الشعب . توحشوا وتوغلوا وشربوا وتجرعوا من دماء الفقراء . بثوا سموم فكرهم الذي دُربوا عليه طيلة ما يزيد عن ربع قرن . اخترقوا كل مؤسسات الدولة وعاثوا فيها فسادا .
جاع الناس . صبوا جُل همومهم واهتمامهم في لقمة العيش . وهم معذورون . لم يجدوا في التعليم ملاذا لإشباع جوع بطونهم . فتسطحت عقولهم . وهم معذورون . عقول ليس في خطتها ولا تفكيرها إلا كيفية خلط الدقيق بالخميرة وإضافة بعض الماء للحصول على رغيف العيش . ذلك هو المنطق الذي يحكم تفكيرهم .
هذه العقول تمل أحيانا هذا المنطق . تقف أمام المرآة بين الحين والآخر رافضة إياه : هل سأظل طيلة حياتي أفكر بهذه الطريقة ؟ العالم حولنا يتغير . هناك ديمقراطية وتدوال سلطة وحقوق إنسان وعدالة إجتماعية . العالم حولنا يتغير ونحن نفكر في لقمة العيش .
تنزل هذه العقول الشارع مطالبة بحقوقها . تصطدم بجحافل الأمن المركزي . يصوب رجال الأمن المركزي عصيهم ناحية هذه العقول ، لترتد ثانية وتعود إلى "صوابها" ، فتفكر في لقمة العيش مرة أخرى .
تظل عصا الأمن المركزي تاركة جرحا غائرا في تلك العقول لفترة من الزمن . وعندما يتعافى الجرح ، وتوقف العقول المضادات الحيوية التي تناولتها لكي يلتئم ، تظل دائما تتذكر آلام الجرح . وتضع يدها دائما على مكانه بعد أن ترك أثرا بالغ السوء .
تمل العقول ثانية التفكير في لقمة العيش . لكنها تفكر هذه المرة في شيء آخر غير النزول للشارع . تفكر فيما هو أبقى وأرسخ من السياسة التي طردتها من رحمتها . تحول انظارها قليلا ناحية الدين . فهو أرحب وأوسع . ناحية الجنة الأبدية . ناحية الخلاص . وبعيدا عن ترهات الدنيا الزائلة . وموبقات وفواحش السياسة الزائفة .
تجدها الدولة فرصة لإلهاء الناس وصرفهم عما يحدث في دهاليز السياسة . تغمر الفضائيات بسيول من القنوات الدينية . الذقن الطويلة وزبيبة الصلاة والوجه المنير على شاشة القناة . اللغة الرقيقة الباكية الجذابة أحيانا حين الحديث عن الجنة . والزاعقة الناعقة والمخيفة والمريبة أحيانا أخرى عند الحديث عن النار . دموع المشاهدين تنهمر على خدودهم . يحدثون هنا وهناك عن فصاحة الشيخ فلان . وبلاغة الشيخ علان . وهذا في الجنة . وهذا في النار . وهذا كفر . وهذا منكر . وهذا ذمي . وذاك معاهد . وآخر بهائي . وآخرون ملحدون . هؤلاء سنة يشتمون في شيعة . وهؤلاء شيعة يشتمون في سنة . وهذا قبطي يلعن مسلما . وهذا مسلم يلعن قبطيا .
ما أجمله وأينعه سيناريو ينمو ويتنامى أمام أعين الدولة في زهو وفرح بابتعاد الناس عن السياسة !! ما أجمل المؤسسات الدينية فيكِ يا مصر وهي ترقص على أنغام الساسة . وهي ترقص كالعرائس تحركها أيادي الدولة . ما أبرع شيوخ المساجد الذين ينتظرون موافقة أمن الدولة على التعيين . بل على نوعية الخطاب الديني الذي يقدمونه ويؤثر قطعا في تفكير الناس ظهر كل جمعة !!
ما أروع قيادات الكنيسة حين تبايع التوريث وتباركه باسم الله . حين تلقي بتعاليم المسيح من فناء الكنيسة !! ما أبدع الأزهر "المستقل" حين يكون شيخه قياديا بالحزب الوطني ثم يعلق استقالته على رغبة السيد رئيس الحزب .
ما أقوى الرئيس وأجله وأعظمه حين تسبح المؤسسات الدينية بحمده !! حين تمضي سيوف حاشيته في ضلوع تلك المؤسسات شرقا وغربا !! وحين تطغى فروضه وسننه على سنن الله الخالق الباريء المصور !!
ألا تريدون أن يُخَلف هذا كله عقولا فارغة مسطحة ساذجة لا تحمل إلا بغضا وحقدا للآخر ، لاختلاف الدين ؟؟ قد تتعامل تلك العقول مع بعضها كي تسير الحياة المادية النفعية . لكن ما في القلب يبقى في القلب . يظل قابعا في تفكيرها أن من تتعامل معه سيكون في النار لا محالة . ومن هنا تكون شرارة الفتنة .
ترى لو رفعنا شعار الهلال مع الصليب وجُبنا به ربوع مصر ستحل المشكلة ؟؟ أو عزفت الصحف القومية ألحان الوحدة الوطنية على صدر صفحاتها ستنفرج الأزمة ؟؟ أو نعق ساسة الحزب الوطني بتعليق الأحداث على شماعة الإرهاب (الذي كانت له هو اليد العليا في صنعه) سينتهي الأمر ؟
أما زلتم تعتقدون أن الحزب الوطني لم يفجر كنيسة القديسين ؟؟