سنحشد بنعم للدستور.. كان عنوان آخر تصريح له، قبل أن يتمكن المرض اللعين من خط المقاومة الأخير فى كبده الذى كانت مصر فلذته. بات على الرجل أن يقاتل أيضا داخل جسده الذى لم يعره اهتماما، بقدر ما انشغل بحب هذا البلد، وذاب عشقا فيه، لدرجة أنه اكتفى بأن أوكل مهمة مقاومة سرطان الكبد، لجهاز مناعة فشل فى مجاراتك فى الميدان، بينما احتكر عقله وقلبه لمقاومة سرطان الاستبداد، من السادات إلى مبارك إلى مرسي. سقط عزازي، بعد أن سقطت المقاومة الداخلية، ولم يعد هناك من بد، سوى السفر إلى الصين، لا ليتعلم، لكن ليبحث عن أمل يبقيه على قيد الحياة، رغم انه كان مصدرها لمن حوله. ذهل الأطباء، كيف ما زال على قيد الحياة حتى الآن؟، فكيف لإنسان أن يعيش بلا كبد، وان استطاع، كيف لإنسان أن يمنح كل هذا الأمان والحب حتى لأخطر عدو للبشرية.. السرطان. «ليس هناك أمل»، كلمة جعلت مرافقيه تنطلق من قلوبهم الدموع، بعد أن غرقت فيه عيونهم، فانتهاء الكبد، يعنى أن الشيطان القابض عليه، منح السيولة واللزوجة أعلى درجاتها على الإطلاق. السيولة تعنى سرعة مرتفعة للدم، واللزوجة تعنى أن التجلط صار أقرب إليه من حبل الوريد، وأيسر فى كل مكان فى عروقه، وعندما يجتمع الاثنان، من الممكن أن تحدث جلطة فى أى لحظة، قد تنهى حياته على الفور. كان على مرافقيه أن يختاروا بين أمرين، الأول أن يرضخوا ويحملوه إلى القاهرة رغم خطورة السفر على حياته، لينتظر الموت فى البلد الذى عاش عمره من أجله، أو يخاطروا بإجراء العملية التى لا تزيد فرص نجاحها، عن فرصة دخول إبليس الجنة. كان القرار صعبا، لكن الذين شربوا منه الأمل أن «مصر عظيمة وستعود وشامخة من جديد»، آمنوا أن الله بيده كلمة «كن» فيكون الشفاء، وأن مخزون الأمل والحب الذى كان حارسه طوال حياته، قد يمدهم بمدد من الله، فتحدث المعجزة التى لا يتصورها أعظم أطباء الكبد فى الدنيا. أجريت العملية، وخرج عزازى من غرفة العمليات بعد 19 ساعة، لم يصدق من أجروها، أنهم صمدوا كل هذا الوقت، وأن المريض النائم أمامهم يمنحهم وهو على شفا الذهاب إلى عالم آخر، كل هذه القدرة على المواصلة. لم تتوقف دعوات من أحبوه فى القاهرة، ولا من اختلفوا معه فى الشرقية عندما كان محافظا نظيف اليد، طاهر اللسان، أمينا على حياتهم ومعيشتهم، رغم قصر مدة المسئولية. التشاؤم كان سيد الموقف، كلما سألت خبيرا فى أمراض الكبد، الإجابة تقريبا واحدة، «الأمل ضعيف جدا»، لكن من يجرؤ على التشاؤم، ممن كانوا حوله، ممن جالسوه على مقهى، ممن روى تعطشهم لإجابة، ممن لمسوا فيه الصدق والجدعنة، والرجولة، والنضال. التشاؤم مع الدكتور عزازى رفاهية لا نملكها، طريقا نحو الاستسلام، دربا من دروب الخيانة. قاوم يا دكتور.. قاوم يا عزازي.. لا تذهب للحسينى أبوضيف الآن. التشاؤم مع الدكتور عزازى رفاهية لا نملكها طريقا نحو الاستسلام دربا من دروب الخيانة فى جنح الظلام هز جسدها العارى فلم تستجب ليس هناك فرق بين داعش وشباب ظن أنه يحارب الإرهاب بالاغتصاب ملك السورية التى قتلها يوسف الحسينى آلاف من السوريين نزحوا من الدمار، والخراب، والرصاص الطائش الذى لا يصيب سوى الأبرياء، ومن دانات المدافع التى تقتحم بيوت الآمنين لتستقر فى غرف نومهم، فتحول أحلامهم إلى أشلاء. هرب الأب، ونزل مصر التى وعد الله أن تكون آمنة لمن يدخلها، لكن البعض، أهانوا وعد الله، وعبثوا بمشيئته، ووضعوا شرف مصر فى الوحل، عندما أشعلوا نار الغضب فى نفوس البسطاء، تجاه من استجار بنا من النار، فإذا بنا نتحول إلى رمضاء. لم يكن يملك من مدخرات ما يجعله يعيش فى القاهرة أو الإسكندرية، أو فى مكان راق، يحفظ فيه أسرته شر اللئام، فاختار مدينة الفيوم، لكنه لم يكن يعلم أنه اختار بنفسه المكان الذى ستنتهى فيه ضحكة ابنته الوحيدة التى ذاق الأمرين كى تنجو من نيران بشار وجحيم المعارضة. ملك أكملت عامها ال16 وتجاوزته بشهرين، وقت أن اختطفها شابان بعدما علما أنها سورية، ترتدى حجابها الشامى مثل أمها، ومعهما الأب النادم على اللجوء إلى مصر مستجيرا. ظل الخاطفان يتبادلان اغتصاب «ملك» أربع ساعات متواصلة، حتى انهارت الأم بعد خمس دقائق، ولم يتمكن الأب المكبل أن يقاوم قدرته على الصمود أمام بشاعة المنظر، فسقط مغشيا عليه، ولم يستيقظ إلا وهو ملقى على أطراف بحيرة قارون. تحسس فى جنح الظلام ابنته، هز جسدها العارى فلم تستجب، خلع ملابسه يستر بها شرفه، لكن الدفء قد فارق روحه، عينه، قلبه، ليسكن البرود أوصالها، ويستوطن قلبها. لم ينطق الأب بكلمة، ولم يخرج حرفا من فم زوجته التى نالها الشيطان هى الأخرى. لم يمكثا كثيرا فى المستشفى، أسرعا ينهيان إجراءات دفن الروح، وما أن تم فى مقابر الصدقة، حتى كانا ينهيان إجراءات العودة إلى النار.. إلى الديار، فلم يعد هناك سبب يجعلهما يهربان أكثر من القدر، الذى طاردهما فى أم الدنيا. ليس هناك فرق بين ميليشيات داعش المسلحة التى تغتصب البنات والاطفال، وبين شباب أحمق ظن أنه يحارب الإرهاب بالاغتصاب. قصة «ملك» أهديها إلى يوسف الحسيني، وكل مذيع، رأى أن الشطارة الإعلامية، أن تقلب الناس على بعضها، فهيج البسطاء على السوريين لمجرد أن بعضا منهم سار فى مظاهرة إخوانية، فهنيئا لك بالسبق، فقد نجحت فى أن يحارب مدمنو البانجو الإرهاب، ويذودوا عن مصرك التى أصبحت. «الكردوسى» الذى لم يضبط متلبسا بعشق الثورة توقفت مع أول جملة كتبها عندما قال «كنت عاشقا» للثورة يملك محمود الكردوسى ناصية الكتابة، ففى قلبه منبعها، ولو منح نفسه قدرا ضئيلا من النشاط، لكان أهم كاتب فى مصر، يخرس هؤلاء الذين يتغوطون فى عيوننا، مساء كل يوم، كلما فتحنا جرائدهم، لكن الكسل الذى ينعم فيه ويستلذ به، حال دون تحقيق ما كنا نأمل، وما لا يريد. يعلم الكردوسى ايمانى بقدره، لكنى ما أن قامت الثورة، حتى انقلب حالى من المستمتع بقراءة مقاله غير الدورى وغير المنتظم، الى متلذذ بسوط كلماته، الذى يجيد وضع الماء المالح على الجروح التى تتركها كلماته على قلوبنا. لكنى توقفت مندهشا مع أول جملة كتبها فى مقاله الاخير، عندما قال «كنت عاشقا ومصدقا» يقصد ثورة يناير، لم اكمل السطر الاول، فقد وجدتنى استعيد مقالاته السابقة على مدار السنوات الثلاث التى نال فيها من الثورة، أكثر مما نال منها مرتضى منصور. ولو أنى لم أقرأ لك يا صديقى مقالة «محمد سوكة بيمسى على مرتزقة يناير» لكنت حاولت تصديقك، أو لم أقرأ «مرتزقة يناير» أو «عودتهم»، أو «يسألونك عن الثورة» التى وصفتها فيها بالحمل الكاذب، وعندما طاوعك قلمك ان تكتب ذات يوم انها ثورة، قرنتها بالمشئومة. لا تزال جملة «عشرون شهرا من جمعة التنحى وأنا أحاول إقناع نفسى بأن ما جرى يمكن أن يسمى ثورة، لكنى لم ولن أقتنع» ترن فى أذني، فترد عليها جملة أخرى لك تقول فيها «ميدان التحرير الذى تحول إلى كنيف يتغوط فيه الصيع وذباب العشوائيات». لو كنت أعدت إنتاج ما قلت لكنت قرأته ألف مرة، من عشقى لعزفك، حتى اشبع من أشواكك التى تدمينى بها، فمهما كتبت سأكون أكثر من يقرأ لك، لكن أن تقول أنك كنت عاشقا ومصدقا لثورة يناير، فهذا ما يفوق قدرتى على تحمل الصمت. يا صديقى.. حقيقة أشفق على نفسى وأنا أرد على كلمة قلتها، فمن أنا كى أناطحك امتيازا منحه الله لك، أو أجعل نفسى تحت وابل من المقارنة الظالمة لي، لكنها محاولة، لا لكى تبدل قناعاتك، بل لتستمر عليها، فأنت لا تحتاج لجمل «غير صادقة» ترسم لوحة تجعل منى ومن معى قبيحا، فنحن هكذا فى نظرك وسنزال. ومع ذلك سأظل قارئا فى محراب كلماتك، حتى لو استخدمت عدم الصدق، طريقا لإقناعى بفكرة هى والعدم سواء. نشر بعدد 683 بتاريخ 13/1/2014