قد لايكون نظام «ولاية الفقيه» الإيرانى مغريا لأحد، فهو نوع من السلطة الدينية التى ينكرها الفهم الصحيح للإسلام، وإن حاول البعض على الجانب السنى استنساخه، وعلى طريقة «ولاية المرشد» عند الإخوان، أو «ولاية المشايخ» عند السلفيين، ثم إن النظام الإيرانى ليس ديمقراطيا بالمعنى المفهوم، ودعواه عن «الديمقراطية الدينية» لم تثبت صحتها أبدا، فالسلطة الدينية تجور على السلطة المنتخبة، وتعدد مراكز صناعة القرار يجعل النظام السياسى بالغ التعقيد والتركيب، ثم أن فرض قيود على حق الترشح يفرغ الممارسات الانتخابية من المضمون الديمقراطى، والشطب الاعتيادى لغالب أسماء المتقدمين للترشح يضيق إلى أبعد حد من نطاق تكافؤ الفرص، أضف ما هو معلوم من فرض الحظر على النساء فى تولى المناصب ذات الشأن . المقصود أن صيغة الحكم الإيرانى لا تبدو مغرية ولا ملهمة، فهى صيغة محلية جدا، وترتبط بتفسير خاص للاعتقاد الشيعى السائد فى إيران، والمعروف أن الشيعة على تعدد المذاهب والتفاسير يشكلون نحو عشرة بالمئة فقط من مجموع المسلمين فى العالم، لكن المذهبية الشيعية لعبت دورا لاينكر فى تحصين النظام الإيرانى الحالى، فإيران دولة متعددة القوميات، والقومية الفارسية المتسيدة تشكل أقل من أربعين بالمئة من عدد السكان، بينما الاعتقاد الشيعى يجمع أغلبية ساحقة بين القوميات الإيرانية، وهو ما يجعل من الإسلام، ومن المذهبية الشيعية بالذات، عنصر التماسك الأبرز فى التكوين الإيرانى متعدد القوميات، ويجعل للفرس كلمة الحسم فى النظام الإيرانى، فالتشيع يخدم «التفرس» لو صح التعبير، حتى وإن كان الإمام الخامنئى المرشد الأعلى ليس فارسيا، لكن دور المرشد الولى الفقيه يخدم قضية تعميم السيطرة للفرس، ويجعل المذهب الدينى مذهبا قوميا، أو خادما لقومية بذاتها، كانت لها دولتها من قبل ظهور الإسلام، وأقامت دولتها الحديثة بتفسير «صفوى» خاص للمذهب الشيعى ذى الأصل العربى، ثم تقيم دولتها المعاصرة بعد ثورة الخمينى على أساس المزج بين المشروع الشيعى والمشروع الصناعى العسكرى بما فيه الجانب النووى . وقد نصل هنا بسرعة إلى «بيت القصيد» فى القصة الإيرانية كلها، وفى استخلاص الدرس المفيد للمصريين بالذات، وللعرب بعامة، فقد دخلت إيران إلى مسرح التاريخ بثورة العام 1979، وهو نفس العام الذى كانت فيه مصر تنسحب من مسرح الحوادث بالمنطقة، فقد تواقتت الثورة الإيرانية مع عقد ما يسمى بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وخرج الشاه المطرود من إيران هائما على وجهه، وتنكرت له أمريكا كما تفعل دائما مع عملائها المخلصين، والذين ترميهم دائما كمناديل الكلينكس فى سلة المهملات، ولم يجد الشاه الكسير غير حضن الرئيس السادات ليستدفئ به، ومرت أيام الشاه الأخيرة سراعا، وجرى دفنه فى القاهرة، كانت إيران القديمة يجرى دفنها، وكانت إيران جديدة تولد فى مخاض عسير، بينما كانت مصر العفية تدفن حيويتها فى كفن معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام، كانت إيران تأخذ قرارها بيديها، بينما كانت مصر تسلم مفاتيحها للعدو الأمريكى الإسرائيلى، كانت مصر تنهى دورها، بينما كانت إيران تتطلع للدور ذاته، فقد أخرجت معاهدة السلام مصر من جبهة الحوادث فى المنطقة، أخرجتها من دورها الطبيعى القيادى فى أمتها العربية وعالمها الإسلامى، قد تكون المعاهدة قد أعادت سيناء إلى مصر، لكن سيناء عادت كرهينة لإسرائيل، عادت منزوعة السلاح فى غالبها، عادت إلى مصر، لكنها ظلت رهينة لحد السيف الإسرائيلى، عادت سيناء إلى مصر على طريقة الذى أعادوا له قدما وأخذوا عينيه، بدا أن سيناء تخلصت من الاحتلال ظاهريا، لكن احتلال مصر كان قد بدأ فعليا، فقد انتهت ملاحق المعاهدة المخزية إلى نزع سيادة السلاح فى سيناء، ثم أعقبتها المعونة الأمريكية الضامنة، والتى نزعت سيادة قرار السياسة والاقتصاد فى القاهرة، ووقع قرار مصر تحت السيطرة الأمريكية الإسرائيلية، بينما كانت إيران تحرر قرارها على طريقتها الشيعية، ولم تكن الثمرة المرة فى انسحاب الدور المصرى عن امتداده العربى فقط، بل كان الدور المصرى يجرى تفريغه من طاقته الذاتية الداخلية جدا، وتجريف الصناعة والزراعة والسياسة والثقافة، والتحول إلى اقتصاد الريع ورأسمالية المحاسيب النهابة، وفى واحدة من أهم مراحل تطور العالم المعاصر، كانت مصر تغيب وتختنق روحها، بينما الدنيا فوارة بتحولات ثورية غير مسبوقة، نقلت أمما لم تك شيئا إلى مدارج الرقى وبلوغ القمم، وإلى اكتساب قوة السلاح أو قوة الاقتصاد والتكنولوجيا، بينما سقطت المنطقة العربية فى «الثقب الأسود»، وسقطت مصر بالذات من «قعر القفة» كما يقول التعبير العامى الفلاحى الدارج، وكانت معاهدة العار هى الختام الحزين لصحوة مصر المعاصرة إلى دور، بدأت الصحوة على جبهة السلاح، وانتهت على جبهة السلام المميت، تركنا السلام المميت «كحفنة من غبار» بتعبير الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش، فعلى جبهة السلاح فى فلسطين، ولد دور مصر فى النهوض، وولد دورها فى المد القومى العربى خلال الخمسينيات والستينيات، وحتى حرب 1973، فعلى جبهة السلاح فى الفالوجا وعراق المنشية، وتحت الحصار الذى فرض على كتيبة الضابط جمال عبد الناصر فى حرب 1948، ولدت فكرة تنظيم الضباط الأحرار وثورة الضباط الأحرار، على جبهة السلاح، كان الوعى المستعاد بقضية الوجود والدور المصرى، فحدود مصر السياسية أبعد بكثير من حدودها الجغرافية، حدود مصر السياسية هى حدود الوطن العربى ذاته، وكلما صعدت مصر، فقد كانت علامة الصعود هى إدراكها لحدودها السياسية الأبعد من حدودها الجغرافية، وظلت القاعدة هى هى، سواء فى نهوض محمد على، أو فى نهوض جمال عبد الناصر، وقد انتهى النهوض الأخير بكارثة العام 1979 فى مصر، وفى التوقيت نفسه بثورة 1979 فى إيران، كانت القضية تنطوى على مفارقة مفزعة حتى فى خرائط الجغرافيا، فمصر فى قلب المنطقة، بينما إيران عند الطرف الشرقى القصى، ثم إن مصر تتمتع بتجانس قومى وثقافى تفتقده إيران، وتفتقده تركيا، فوق أن مصر هى مركز إلهام العالم السنى الغالب فى أوساط المسلمين، وفهمها الإسلامى الوسطى هو الأبعد عن نزعات التحزب الطائفى، فهى تجمع عقلانية السنة إلى محبة آل البيت، ثم إن نخبتها العصرية أوسع ثراء بما لا يقاس، وتجربتها الصناعية أسبق، فقد شهدت عملية تصنيع واسعة جدا فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وكانت رأسا برأس مع كوريا الجنوبية فى معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى إلى ما بعد حرب 1973، وبدأت مصر مشروعها النووى فى أواسط الخمسينيات، وقبل عشرين سنة على الأقل من بواكير المشروع النووى الإيرانى، لكن إرادة السياسة وإرادة صنع التاريخ اختفت من مصر بعد وقوع قرارها فى يد غيرها، بينما امتلكت إيران قرارها المستقل فى ذات اللحظة التى غاب فيها القرار المصرى الذاتى، وكلما أمعنت مصر فى غيابها، كلما زادت إيران من حضورها، وهو ما يفسر مفارقة اللحظة التى نعيشها الآن، فقد جرى تحطيم المشروع النووى المصرى، وتأخر البدء فى إقامة محطة الضبعة النووية لأربعين سنة إلى الآن، بينما مضت إيران فى الاتجاه المعاكس، وطورت مشروعها النووى باقتدار برغم الحصار الأمريكى المتصل، وفرضت على الدنيا كلها اعترافا نهائيا بمشروعها النووى وبحقها فى تخصيب اليورانيوم فى «اتفاق جنيف»، وبنت من حول مشروعها النووى قاعدة علمية جبارة، وصناعة سلاح كاملة من طلقة الذخيرة إلى الصاروخ الفضائى، ومرورا بالصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وصارت تصنع طائراتها وسفنها وزوارقها ودباباتها ومدافعها، بينما مصر الأسيرة تحاول الآن بالكاد تنويع مصادر السلاح، وتعقد صفقات سلاح روسية للتعويض عن تعنت المورد الأمريكى المحتكر، وتقلب فى دفاترها القديمة بحثا عن نقطة استئناف لصناعة السيارات والطائرات، بينما كانت مصر قد أنشأت «الهيئة العربية للتصنيع» قبل أربعين سنة، وكانت فكرتها العبقرية هى المزج بين فوائض المال الخليجى والخبرة المصرية، وبهدف إنشاء صناعة سلاح عربية بامتياز، وليس ضعف الموارد المالية المصرية هو الذى حال دون إتمام المشروع بصيغته الأصلية، بل غياب إرادة السياسة والخضوع لإملاءات الأمريكيين. والمؤكد أن المشروع الإيرانى لصالح إيران بالطبيعة، وليس لصالحنا بالضرورة، لكن درس النصر الإيرانى يبقى مفيدا لنا بالذات، فقد نسعى لديمقراطية أفضل وفهم أفضل للإسلام، لكن الأهم : أن نسعى لصناعة العصر بحيازة استقلال السياسة، وهو درس لو تعلمون عظيم . نشر بالعدد 677 بتاريخ 2/12/2013