· في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية وقبلها حاولت المخابرات الألمانية استخدام شخصية إنجليزية شهيرة لزيادة التوترات في المجتمع البريطاني "من الباب للباب"، أسلوب قديم في الدعاية السياسية مارسه الساسة عبر العصور، يعني محاصرة الجمهور بإطلالة القائد أو النجم أو ما يريدونه أن يصبح نجما، فصورته دائمة في التليفزيون، وتماثيله في الشوارع، وبوسترات علي الحائط، يفرض فرضا علي العين، سقط هذا الأسلوب في العالم الآن، فالانفجار الفضائي المعلوماتي أتاح وجوها عديدة للمشاهد والقاريء، انتهي عصر التعبئة والحصار لكن صناع النجوم في النظام المصري لا تزال عقلياتهم محكومة بمنظومة القطاع العام، فرض أمين السياسات في الحزب الحاكم عبر الإعلام الحكومي في مساحات غير قليلة، وكلما اختفي ظهوره نسبيا بفعل طغيان نجوم جدد كالبرادعي مثلا، أو حتي بفعل قضية سياسية تأخذ الأنظار كطرح هيكل عن مستقبل مصر، يعود مبارك الابن إلي الكادر بفعل حقن سياسية منشطة، كسلسلة حوارات يكون عن مستقبل مصر يكون هو محورها الأول، أو حتي اجترار الحديث عن التوريث والشكوي من اختراع قضية بلا قضية، لكن وجوده الدائم في الكادر لا يضمن قبولا شعبيا، ف"من الباب للباب "وإن طبق بنجاح إلا أنه ظهور النجم القادم اقترن بأخطاء كبري، حالت بينه وبينه الناس، تحدثه بلغة بعيدة عن الناس، فلغة الأرقام يكرهها المتلقي، والاقتصاد مجال ليس شعبياً، فحتي صفحاته لا يقرأها بدقة سوي القاريء المتخصص، مل الناس من الكلام عن الإصلاح الاقتصادي وعنق الزجاجة، ومعدل النمو، خاصمت أحاديثه أسلوبا دعائيا آخر أكثر أهمية، وهو التحدث بلغة البسطاء"، وهو الأسلوب الذي صنع مثلا طلعت السادات خلال أشهر معدودة، جعله نجما تتخاطفه الكاميرات، أغلب المرشحين السياسيين في الغرب يقدمون أنفسهم بأنهم خارج الزمر السياسية، بل فقط مواطنون عاديون، لم نره يلقي نكتة أو يستخدم الدعابة، وهي السمة التي ساهمت كثيرا في ترويج صورة أبيه خلال عقدين علي الأقل أثناء خطاباته الجماهيرية قبل أن تظهر علي السطح أمراض النظام وتورط بعض أركانه في الفساد، البهجة تخفف القلق، وتمرر أعقد الرسائل السياسية، خاصة وسط شعب يجيدها ويبحث عنها، أوباما مثلا خلال أحاديثه الطويلة والبليغة لا ينفصل أبدا عن جمهوره البسيط، ينتهز الفرصة ليحشر ابتسامة تلطف الأجواء، أو يبث شحنة عاطفية تقربه من الناس، قال مثلا في خطاب النصر موجها كلامه لابنتيه:" ساشا وماليا أحبكما بقوة.. وقد استحققتما الكلب الجديد الذي سيذهب معنا إلي البيت الأبيض". في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية وقبلها حاولت المخابرات الألمانية استخدام شخصية إنجليزية شهيرة تدعي اللورد وليم جويس،أنشأوا له محطة إذاعية لزيادة التوترات في المجتمع البريطاني، مستغلا المتاعب الاقتصادية المتربة علي أجواء الحرب والمتأثرة بفترة الكساد الكبري في القرن الماضي، فشل فشلا ذريعا نتيجة لهجته الأرستقراطية، وبالمثل لم يقنع جمال مبارك أحدا من البسطاء خلال عشر سنوات،بينما نال أخوه مثلا شعبية طاغية عقب مكالمة تليفونية مدتها نصف ساعة أعقبت مباراة الجزائر بأم درمان. الناس تريد من يشبهها، لا من يقدم نفسه باعتباره خبيرا فيما لا يفهمون فيه، قال لي بعض من حضر جنازة محمد علاء مبارك رحمه الله، وأغلبهم من معارضي النظام إنهم شاهدوا جمال وقتها وهو يبكي، فشاركوه آلامه واتحدوا معه لا شعوريا، ولازمهم هذا الشعور طويلا إلي أن زادت الفرقة وعادت إلي طبيعتها بفعل سياسات الحزب الحاكم. في أنجولا تدارك جمال بعض ما مضي، ارتدي تي شيرت كاجوال ، وتقمص شخصية الخواجة كبير مشجعي الزمالك، ثم هتف رافعا علم مصر" منتخب مصر كويس .. زي ما قال الريس". اختار من بين هتافات البسطاء بعناية ما يمس السياسة، وما يعزز مصلحته ومصلحة النظام.. نجحت المحاولة.. لا مجال وسط الأفراح للبحث عن أغراض أخري غير النصر الرياضي .. سيتسامح الجميع معه ويحبونه .. ويرضون عنه وستتحسن صورته.. لكنه نجاح دعائي مؤقت.. يستمر باستمرار الفرحة ويتلاشي مع أول هزيمة ، أو حتي فتور اهتمام الناس بالكأس والفائز بها.. وسيبهت مع مواجهة التحديات القادمة لا محالة.. تحدي الفراغ المنتظر والمخيف في فترة ما بعد أبيه، تحدي عدم القبول السياسي، لن تنفع وصفات "الخواجة" الرياضية مع قضايا كبري مثل فساد الحزب الحاكم ، وازدياد أعداد محتكريه وأباطرته، وجمود الحياة السياسية وتجفيف كل بئر للديمقراطية، وكتم كل صوت يقدم نفسه كبديل.