· «مرت السيارة بسرعة شديدة أمامهم، ما علق بذهنهم من وجه الرئيس ابتسامة براقة، لم يعرفوا سرها، إلا بعد أن كبروا، كان المشهد تمثيليا من الدرجة الأولي» في أول أيام عيد الأضحي عام 1977 خرج مجموعة من الأصدقاء.. صبية في الخامسة عشرة من أعمارهم من قريتهم الصغيرة بمحافظة المنوفية.. وقفوا علي الطريق الزراعي ينوون السفر إلي المركز ليقضوا فسحة العيد.. يركبون قاربا في أحد فروع النيل.. وربما يدخنون السجائر بعيدا عن أعين أهاليهم ومعارفهم.. لكنهم وجدوا "أتوبيس" يقف علي المحطة فارغا، لا كمساري ولا يحزنون، به أحد الموظفين بالمجلس القروي أغراهم بالسفر إلي القاهرة "تعالوا هتقابلوا الريس"، ولم يقل لهم أين أو متي.. فرحوا بالمغامرة.. وبرحلة إلي القاهرة.. "مصر" بلغة أهل الريف، بدلا من المركز المتواضع.. في اليوم السابق كان الرئيس أنور السادات علي شاشة التليفزيون في القدس.. في تلك الرحلة المفاجئة العجيبة.. بكي أحدهم وهو يشاهد الرئيس يصافح موشي ديان بعينه المعصوبة، فقد كان يعتبره قاتل اثنين من الجيران شاركا في حرب أكتوبر 1973 وسميت مدرستان في القرية باسميهما مسبوقين بلقب الشهيد.. لماذا ذهب الرئيس؟ لم يكن عقله وقتها يستوعب ما عرفه لاحقا.. لكن مشاعر غضبه وحزنه توارت في اليوم التالي.. يوم العيد.. أمام مغامرة الرحلة المجانية من القرية إلي العاصمة. لم يكن أحدهم يعرف معالم الطريق ولا نقطة الوصول، ولا قال لهم الموظف أين سيتوقف بهم الأتوبيس.. فرحوا بمشاهدة شوارع مسفلتة، وبيوت من الطوب الأحمر والأسمنت، وانتهي بهم المطاف في نحو العاشرة صباحا تقريبا في الصحراء علي طريق المطار.. ما بين أحاديث فارغة مر الوقت، ووجدوا آخرين جاءوا من قري ومدن أخري بنفس الطريقة. بعد ساعات قرصهم الجوع، فعطف علي بعضهم أحد المجندين في معسكر قريب وأعطاهم ما علموا بعد ذلك أن اسمه "جراية".. عيش مقدد يحتاج إلي أسنان قوية لقضمه، وكانت النكتة أن معهم نقودا "مصروف العيد" وليس هناك في هذه الصحراء ما يشترونه ليأكلوه. أما الموظف الذي غرر بهم لكي يأتوا إلي هذه الصحراء فقد احتمي من أسئلتهم ولومهم هو والسائق بأن أغلقا علي نفسيهما باب الأتوبيس. انقضي وقت الظهيرة ووقت العصر، وأوشك المغيب، وبدأ القلق يساور الصبية علي موعد الرجوع، وراحوا يتساءلون متي يأتي الرئيس؟ وفجأة سمعوا صوت موكب قادم من بعيد، تتقدمه موتوسيكلات لم يروا مثلها من قبل.. أقل من ثلاث ثوان كان موعدهم مع الرئيس السادات، فقد مرت السيارة بسرعة شديدة أمامهم، ما علق بذهنهم من وجه الرئيس ابتسامة براقة، لم يعرفوا سرها، إلا بعد أن كبروا، كان المشهد تمثيليا من الدرجة الأولي، الرئيس كان يريد أن يؤكد للعالم ولنفسه ولكاميرات التليفزيون الرسمي التي تصاحبه أن رحلته تحظي بشعبية كبيرة، فصدرت الأوامر للمحافظين وللداخلية بتوفير جمهور علي طريق المطار.. آلاف من الكومبارس الطبيعي المخدوع برحلة إلي القاهرة في ذلك الوقت.. أواخر السبعينيات وحتي بداية الثمانينيات كانت فكرة مواكب الرئيس التي تستقبلها حشود الجماهير علي جانبي الطرق بالتهليل والتحية ماتزال معتمدة كوسيلة لتأكيد شرعية الرئيس، حب الناس العفوي والتفافهم حوله - حتي لو كان الجميع بمن فيهم الرئيس يعرفون أنها مجرد خدعة - مبرر لوجوده في السلطة. لكن اغتيال السادات في أكتوبر 1981 - ومحاولات اغتيال مبارك فيما بعد - جعلت وجود الجماهير قرب الرئيس عبئا أمنيا، ونذير شؤم ربما، وأصبح الهاجس من إمكانية تكرار واقعة السادات مانعا قويا أمام فكرة "حشد الجماهير" لتعبر عن حبها "الكاذب" للرئيس.. وأصبح حضوره المفاجئ لمباراة في كرة القدم من وراء زجاج ضد الرصاص اختيارا مفضلا، فيما أصبحت زيارته لمستشفي تعني إخلاءه تماما من المرضي والأطباء واستبدالهم بآخرين يمثلون أدوارهم، وزيارته لمصنع تعني حصول العاملين فيه علي إجازة يوم الزيارة. لم يعد الرئيس يلتقي أحدا من المخدوعين برحلة للقائه، بل يلتقي فقط بمن يمثلون أمام الكاميرات دور الشعب.. وحسنا فعل فقد أراح الآلاف ربما من قرصة جوع يوم عيد، وخيبة أمل في الصحراء علي طريق المطار.