الأمن القومى يعنى جهاز المخابرات الذى قرر فى اللحظات الأخيرة منع عرض الفيلم التسجيلى «اليهود فى مصر» عرضاً تجارياً. أيدى وزير الثقافة المرتعشة هى التى أرسلت الفيلم عن طريق الرقيب إلى المخابرات للحصول على الموافقة بالعرض، الفيلم سبق عرضه فى مصر فى بانوراما الفيلم الأوروبى قبل أقل من ستة أشهر كما شارك وبموافقة الدولة فى العديد من المهرجانات خارج الحدود، ولكننا عدنا كالعادة للخلف دُر حيث إن الرقابة كانت دائماً ما ترسل الأفلام إلى وزارة الداخلية أو إلى الأمن القومي الفيلم مغامرة لأنه يسير على الأشواك وعرضه تجارياً مغامرة أخرى فلم يتعود الجمهور المصرى أن يقطع تذكرة السينما إلا فقط للنجوم والفيلم التسجيلى لا يقدم سوى بشر عاديين فما بالكم لو كان العدد الأكبر منهم يهوداً. خيط شائك أن تدافع عن حق اليهود الذين عاشوا فى مصر فى التواجد على أرضها مجدداً بعد أن غادروها بغير رجعة بعد أن تم إجبارهم بالتنازل عن الجنسية المصرية مقابل السماح لهم بالهجرة ولكن لا يعنى ذلك من قريب أو بعيد أن الفيلم يتضمن دعوة للتطبيع مع إسرائيل. هل كانوا مصريين يهود أم يهود مصريون؟ من الذى يسبق الآخر الهوية الدينية أم الوطنية.. المخرج أمير رمسيس طرح فى فيلمه التسجيلى الطويل «عن اليهود فى مصر» جانباً واحداً فقط من الصورة وهم اليهود الذين تمسكوا بمصريتهم. تاريخياً كانت مصر هى مرفأ الأمان لليهود وبمراجعة الأسماء التى نجحت فى مصر على المستوى الثقافى والفنى فقط فى الزمن المعاصر تدرك أن مصر فتحت ذراعيها للجميع يعقوب صنوع فى الصحافة والمسرح وتوجو مزراحى فى السينما وعائلة مراد فى الموسيقى والغناء الأب زكى وابنيه ليلى ومنير وقبلهم الموسيقار داود حسنى ولدينا فى التمثيل راقية إبراهيم ونجوى سالم وسامية رشدى ونجمة إبراهيم وعرفت مصر وزراء يهود وتجار كبار ولا تزال المحلات الكبرى تحمل أسماءهم «بنزايون» و «شيكوريل» و «صيدناوى» وغيرها. عدد اليهود فى مصر تجاوز قبل عام 48 رقم 900 ألف يهودى ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا فى مجتمع متسامح.. ثُلث هذا العدد عاش فى مدينة الإسكندرية التى كانت واحدة من أشهر مدن «الكوزموبوليتان» فى العالم حيث تتعدد فيها الأعراق والأجناس والأديان. توترت العلاقة مع بداية الأطماع الإسرائيلية فى فلسطين وبدأنا نحصى عدد اليهود ونفتش عن ولائهم.. يوسف درويش وهارون شحاتة وهنرى كورنيل وغيرها أسماء ترددت كثيراً فى فيلم أمير رمسيس كان ولاؤهم المصرى ليس محل شك. العلاقة بين ثورة يوليو واليهود حملت قدراً من التوجس.. من الواضح أن اللواء محمد نجيب كانت لديه نظرة سياسية ثاقبة وذكر الفيلم أنه عندما احترق الدقيق الذى يستخدم فى المعابد اليهودية لصناعة الخبز كطقس دينى كان حريصاً كأول رئيس لمصر على الحفاظ على هذه الشعيرة اليهودية باعتبارهم جزءاً من نسيج الوطن وأمر باستيراده على نفقة الدولة، بل إنه طبقاً لما ذكره الفيلم طلب من الشيخ الباقورى أن يتراجع عن تصريح له يحمل شيئاً من البغضاء لليهودية كديانة. عبد الناصر أيضاً كان منحازاً إلى مبدأ المواطنة برغم أنه فى حرب 56 انقسم اليهود فى مصر حول طبيعة الولاء لمصر أم لإسرائيل. لم يتعرض الفيلم إلى أرقام تؤكد أسباب الهجرة هل كانت بسبب الخوف من الاضطهاد أم أن اليهود فضلوا ومع سبق الإصرار الهجرة إلى إسرائيل.. هناك مجموعة من اليهود ارتبطوا بالمنظمات الشيوعية واليسارية فى مصر وولاؤهم المصرى واضح ولكن هؤلاء شريحة ضئيلة لا تعبر عن كل اليهود إلا أن السؤال عن موقف اليهودى الذى يعيش على أرض مصر وليس منخرطاً أو مغموساً فى السياسة ما هى مشاعرهم الحقيقية تجاه مصر؟! المعروف أن هناك أياد إسرائيلية أشارت إليها الأجهزة المصرية تدين عدداً من الشخصيات كانت تريد الخراب لمصر وألمح الفيلم إلى أن الجيش عادة كان لا يرحب بتجنيد اليهود داخل القوات المسلحة وهو ما يعنى الشك فى الولاء للوطن. عدد من اليهود أشهروا إسلامهم ومن الواضح أن الأمر هنا متعلق بالخوف أكثر مما هو قناعة بالدين كما أن جزءاً ممن أسلموا الدين بالنسبة لهم لم يكن يشكل قيمة روحية.. ولكن اليسارى الشهير شحاتة هارون مثلاً من الواضح أن موقفه ثابت فهو قد ظل على يهوديته ورفض أن يقرأ الطقوس على جثمانه قبل دفنه حاخام من إسرائيل لأنه ضد هذا الكيان الاستيطانى حياً وميتاً وطلب فى وصيته استقدام حاخام غير إسرائيلي. لا نعادى اليهودية كديانة.. رسالة مهمة أن تصل للعالم ولكن ليس كل يهودى عاش على أرض مصر أحب مصر ومن أحبها هل توقن أن أبنائه وأحفاده أيضاً أحبوها؟! قد يجد البعض فى عرض هذا الفيلم فى هذا التوقيت نوعاً من المؤازرة لدعوة التعويض لليهود الذى أعلنها قبل نحو شهر القيادى الإخوانى عصام العريان برغم أن الفارق شاسع حيث إن أمير يتناول شريحة محددة من يهود أحبوا مصر ولم يفكروا يوما فى لعبة التعويضات الفيلم فى عمقه يرفض التمييز الدينى أو بأى لون آخر قضيته هى المساواة بين كل المصريين. ويبقى السؤال هل من الممكن أن يقبل الجمهور على فيلم تسجيلى وأبطاله يهود؟ هذا السؤال مع الأسف لا نملك الإجابة عليه بعد أن منعت المخابرات تداول الفيلم تجارياً ليطل على الجمهور فى تحد واضح لقرار المصادرة عبر كل شبكات التواصل الاجتماعي نشر بتاريخ 18/3/2013 العدد 640