عبق العود وحنين المكان هزاني كعاصف اجتاح كياني لأعلن أن شهر رمضان هذا العام سيكون مختلفاً.. رحالة صائمون نستنشق رحيق البحر والسفر قبل الإفطار.. وجوالة في الشوارع القديمة بمصر العتيقة في أيام الليالي التي بلا سفر.. أيام معدودة.. مخطوفة.. ومشاهد أقوي من أعتي سيناريوهات الحياة تلقفتنا أنا والعيون البريئة التي دعوتها لتكتشف الحياة معي علي أنغام «وحوي يا وحوي».. ومن لدي الحاكم بأمر الله كانت الدعوة لنأكل أخيراً الطعام الذي حرمه طوال حكمه لأنه لايجب علي باب الفتوح الرابط بين أشهر مطعمين ظلمتهما النكتة المصرية وأعلن عنهما الزعيم في تجربته الأخيرة زيزو.. وعبده.. ورائحة الخلطة الشرقية التي يجتمع حولها عشاق الطعم والحرية في الشوارع المطلة علي سماء المآذن مررنا من باب الفتوح وسط الاضاءات الخافتة والبلاط اللامع المكتنز والمباني القديمة لنصل إلي سيدنا الحسين بجلاله.. عود مسعد كان مغناطيسيا لمقهاه ورأيته يجلس علي كنب بعوده العتيق وفوقه لوحة الجيوكاندا.. الموناليزا ليوناردو دافنشي في مشهد عبثي لايتفق مع الاغنية التي يرددها «قالولي هان الود عليه».. وحينما غني «زوروني كل سنة مرة» بصوته العراقي المتحدي تخيلت أن مونا اللذيذة التي تحمل سيجارة «البانجو» في يديها بعدما قاموا بتحريفها تغنيها وتدعو أن يعودوا بيديها إلي موقعها الأصلي فوق فستانها الأزرق.. ابتسمت حزناً علي صاحبة أجمل ابتسامة في العالم وعلي ليوناردو الذي لم يتعاط يوماً سيجارة الموناليزا.. وعاتبت نفسي لأنني منذ أيام حزنت لأن الموناليزا تظهر في أحد إعلانات الشامبو في المجلات بشعر متموج بتغيرات قبل وبعد. ودعت العواد.. والقاهرة بمآذنها.. لما لا نستجيب إلي آخر أغنية غناها لفيروز «ياشط الإسكندرية رمانا الهوي»، ولأول مرة نقضي أسبوعاً من رمضان هناك وسط الميه والهواء والأنفوشي وبحري ودعوات بير مسعود. قال لي صاحب العيون التي تشبه البحر ولا يمكنك تحديد لونها بصوتِ خافت.. فضة أو ورق لايهم الجنية القابعة في بير مسعود تسمع امنياتك وتحققها فذهبنا بعد العشاء نرمي أمانينا ضاحكين فاخترق مساحات الحلم والتشبت بالتمني طفل صغير يرتدي شورتاً بنياً صعد علي البئر ورمي نفسه بعدما حددها في المنتصف حتي لاتصطدم بالصخور.. ووسط الذهول تحولت كل الأماني الي أمنية واحدة وهي أن يعود هذا الطفل سليماً.. أطلقنا كشافات الموبايلات في وسط الظلام الدامس داخل البئر.. لنشاهده سمكة بلطية تجمع العملات من فوق وبين الصخور البيضاء وصعد مثل طرزان علي الصخور المدببة ليحكي لي عن ذاته. موعود بالعذاب.. هكذا أطلق علي نفسه وهو مازال في الأثني عشر ربيعاً.. بالأمس عاد بعشرة جنيهات في الصباح لأمه كانت من نصيب صينية البطاطس التي يحبها.. وفي المساء عاد بثلاثة جنيهات أرباع جنيه يادوبك الفول والعيش واليوم لم يجمع في الصباح شيئا.. وفي المساء «عزم» علينا مجدداً بما ألقيناه!! نسينا الجنية والأماني.. وصادقنا موعود. هل لك منافس.. سألت الصبي الصغير.. فقال دون أن يحدد الجنس «مين ده يا أبا».. ده اللي ينزل البير ويرشق بين الصخور مجبتوش ولاده زيي.. ميت عيل هنا ماتوا.. اللي يتخبط في الصخر.. واللي يغرق وهو بيعدي الماسورة علشان يوصل البحر.. أرزاق بقي.. والعساكر ياموعود.. سألته قاللي دول غلابة.. اللي مبيخفش علي روحه يا أبله.. متخافش عليه الحكومة.. جمدي قبلك!! و.. هذا ما حدث.. ونزلت البحر ليلا بفورانه وحنينه أمارس الاحتضان وسط أمواجه العاتية.. وعشقت منذ طفولتي لعبه الأمواج.. كان البحر هادئا.. عفواً خالياً.. ولكنه هادر يشق بصوته الجبال.. ويضيع في صوته فزع أم ملهوفة علي ولدها الذي غاب عن عيونها.. ابتلعه الموج.. ولم يبتلعني.. غدر به سحبه البحر الأملس.. ولم يغدر بي.. فزع أمه.. ولم يفزع أمي المخلوقة علي الدهشة والفزع منذ طفولتنا نتحداها بجمود القلب.. ضاع جون.. وظل والده صامتاً يروي بصمت الحزن أنه كان يعلم أنه سوف يموت هذا العام.. فاخوته الأثنان التوأم ماتا في حادث سيارة منذ عامين في مثل عمره.. وحينما علم أن جون من العشرة الأوائل في الثانوية العامة حزن وانتظر مصيره بقلب الأب. وفي الصباح.. ومن شرفة منزل الأسبوع الحزين.. وجدوا جون.. رأيته صامتاً يحملونه في كيس أحمر ويدخلونه في عربه الاسعاف.. مت مليون مرة وأنا حية أرزق.. ليه كده يا بحر.. دا أنا بحبك قوي.. استغفر الله العظيم.. القدر عات ولامفر.. حزمت حقائبي أنا والعيون البريئة.. وعُدت مرتعدة أردد بلا بئر مسعود الأمنيات. أن يصبح الجميع بقلب مرهف يتوجس خفيفة للبحر.. وأن تعود أيادي الجيوكانوا المرمرية إلي موقعها الأصلي بلا سيجارة بانجو.. وأن يجد موعود من هو أحن عليه من البحر والبئر.. وأن يضمد هذا الشهر كل الأوجاع ويصبر القلوب ويخفف الأحزان.. و.. أن نتعلم من الحياة ونشاهد ما يمكن ألا ندركه أو نشاهده في كل الدراما الرمضانية. أعتذر لكل القراء علي مقالتي الصادمة