فى صباح اليوم الأخير لعامه الأول بالحكم، وفى لقائه المميز بقادة الجيش ووزراء الحكومة والمحافظين والإعلاميين وجماعات من الشباب وطلاب الجامعات، كان الرئيس عبد الفتاح السيسى غاضبا، وإن لم يفقد أعصابه، ولا خرج عن حدود ما عرف به من دماثة الأخلاق وعفة الألفاظ. كان بوسع الرئيس أن يحول اللقاء إلى احتفالية، وإلى خطب رنانة عن إنجازات عامه الأول فى الرئاسة، خاصة أن المجرى الأصلى للقاء كان مرتبطا بهمة عمل غير مسبوقة فى مصر.. وبافتتاح الرئيس عبر الفيديو كونفرانس ل39 مشروعا وإنجازا مثيرا، تعلق أغلبها بشبكة كبارى وطرق جديدة، تجاوزت أطوالها الألف كيلو متر، وبافتتاح مراكز طبية كبرى، وبافتتاح «مركز شباب الجزيرة» الأكبر من نوعه فى التاريخ المصرى، والذى قرر القائد جمال عبدالناصر إنشاءه فى أواسط خمسينيات القرن العشرين، وجرى إهماله ودفنه بعد رحيل عبد الناصر، والانقلاب على ثورته بعد حرب أكتوبر 1973، ثم جرى إحياؤه وتجديده على أرقى مستوى إنشائى وتكنولوجى فى سنة السيسى الأولى، وفى زمن قياسى لم يتجاوز بضعة شهور، وكانت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة هى بطل الإنجاز السريع، وكعادتها فى الإنجاز الصاروخى لأغلب أطوال شبكة الطرق الجديدة المخطط امتدادها إلى 3200 كيلو متر، وفى إعادة تأهيل طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوى، والذى لم ينجز فيه متر واحد منذ البدء فى المشروع عام 2007، وأتمته الهيئة الهندسية فى أسابيع، وبمواصفات جودة عالمية، تماما كما فعلت فى شبكة الطرق الممتدة إلى مدن قناة السويس، وكما فعلت فى الإنجاز الذى يشبه الإعجاز بشق قناة السويس الجديدة، وفى تعميق المجريين الأصلى والجديد للقناة باستخدام ثلاثة أرباع الكراكات المتاحة فى الدنيا كلها. كان بوسع الرئيس أن يحتفل، أو حتى أن يمهد للاحتفال العالمى المرتقب بافتتاح مشروع تطوير قناة السويس فى 6 أغسطس 2015، وهو الملمح الأساسى لإنجاز السيسى حتى الآن، وقد تكلف قرابة الستين مليار جنيه مصرى، كانت حصيلة أسرع وأنجح اكتتاب شعبى فى العالم، فقد جمع المصريون العاديون لا الأثرياء 64 مليار جنيه فى أسبوع، ووضعوها فى خدمة إنجاز جرى فى وقت قياسى مذهل، اختصر مدة التنفيذ المفترضة من خمس سنوات إلى سنة واحدة، ثم أنهت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أعمال الحفر قبل انتهاء العام المقرر بشهور، وبتوظيف استثنائى لطاقات عشرات من شركات المقاولات المدنية، وبدأب وجهد وعرق وفدائية عشرات الآلاف من العمال المدنيين، ولم يتوقف الرئيس عند شكر المجتهدين العظام، بل طلب المزيد من هيئات الجيش، ومن الهيئة الهندسية بالذات، وألزمهما باستكمال إنجاز 1400 مشروع قبل نهاية عام 2015، يعمل فيها قرابة المليون ونصف المليون مهندس وفنى وعامل مدنى. كان بوسع الرئيس أن يحتفل بإنجازه غير المنكور، لكنه حول اللقاء إلى جلسة حساب وتأنيب وتقريع لافت لقادة الجيش ووزراء الحكومة والمحافظين ورؤساء الهيئات، شن هجوما شاملا على الإهمال والفساد فى ميناءى القاهرة الجوى والإسكندرية البحرى، وفى المستشفيات العامة بمناسبة كوارث "معهد القلب"، وذكر قادة الجيش بالوفاء بتعهدهم بالوقوف فى ظهره، وإنجاز بناء مصر الجديدة فى زمن خاطف، فهو يريد كما قال أن ينجز فى أربع سنوات رئاسته ما كان مفترضا إنجازه فى أربعين سنة مضت من الضياع وتجريف البلد، وكان رد قادة الجيش انضباطيا صارما، كما هى تقاليد القوات المسلحة المصرية، وقبلوا بأوامر الرئيس المختصرة المكثفة للزمن والتكلفة والساعية لأعلى جودة، وطلب الرئيس تقريرين من الرقابة الإدارية وخبراء الكلية الفنية العسكرية عن كل مشروع قبل تسليمه، وعلى سبيل التأكد من انتفاء الشبهات وضمان السلامة الإدارية والمالية والفنية، وبدا الرئيس ملما بتفاصيل التفاصيل، وبكل "جنيه واحد" يجرى إنفاقه، لكنه بدا ممتعضا عظيم المرارة من الجهاز الإدارى المتهرئ الفاسد عديم الكفاءة، ووجه أقسى نقد المهترئ للوزراء ولرئيس الحكومة المهندس إبراهيم محلب، وذكر فى سياق تهكمى قولة محلب له عند توليه الرئاسة، ذكر أن محلب قال للرئيس "توكل على الله. ونحن سنكون كالبلدوزر يفتح لك الطريق "، وبين كل وصلة نقد وأخرى، كان الرئيس يتوجه إلى محلب بسؤال عن "البلدوزر" الذى وعد به، وعن مقدرته "البلدوزرية" على اكتساح العقبات، كان الرئيس يسأل محلب "هوه فين البلدوزر دا يا فندم؟"، كان السؤال مزيجا من الدعابة والتهكم الساخر، وكانت أقدام محلب تغوص فى أرض القاعة، وتشحب ابتسامته الباهتة على وجهه، بينما يعيد الرئيس سؤاله عن "البلدوزر" الذى لم يجد له أثرا، ولا حتى ظلا من جدية أداء تريح السيسى، ولم يفلت من نقد الرئيس الغاضب سوى وزير الكهرباء وربما وزير الشباب، بينما بلغ نقد الرئيس الغاضب ذروته التقريعية بصدد وزير البترول، والذى تخلف عن تنفيذ أوامر الرئيس بتوفير معدات حفر مئات الآبار فى "واحة الفرافرة"، والتى يعدها الرئيس كباكورة لاستصلاح المليون فدان، وخلق مجتمع ريفى زراعى جديد بمقاييس أوروبية، وعد بافتتاحها فى أكتوبر 2015، وفى نقلة خطى واثبة تتكامل مع مشروع قناة السويس وشبكة الطرق الجديدة. نعم، بدا الرئيس كرجل عمل وإنجاز من طراز فريد، وبصورة لم تألفها مصر منذ زمن جمال عبد الناصر، وربما لا يتسع المقام هنا لسرد إنجازات السيسى، وهى ظاهرة للعيان على أى حال، وتستعيد لمصر استقلالها الوطنى وحرية قرارها، وتضاعف قوة الجيش وصناعة السلاح، وتبنى رأسمالية دولة جديدة انطلاقا من دور هيئات الجيش، وتقيم التكامل المحسوس بين الصناعات العسكرية والصناعات المدنية، وتضاعف موارد الطاقة اللازمة للتصنيع الشامل، وبمشروع طموح لاستئناف البرنامج النووى السلمى المصرى، وكل ذلك مما لا يصح إنكاره، ولا غمط حق الرئيس فيه، فقد حقق أشواطا كبيرة فى استعادة الاستقلال الوطنى، وحقق أشواطا ملموسة فى التوجه للتصنيع الشامل الذى لا تقوم نهضة دونه، لكن العدالة الاجتماعية بدت غائبة بالجملة عن رؤية وقرارات الرئيس، صحيح أنه أبدى بعض الحس الاجتماعى المعقول بقراره إعفاء الشرائح الثلاث الأولى لمستهلكى الكهرباء من رفع الأسعار الجديد المنتظر أول يوليو 2015، وبهدف تخفيف العبء المضاف عن الشرائح الأكثر فقرا، لكن تلك تبقى مجرد التفاتة صغيرة، ولا تكفى لإطفاء حريق اجتماعى تتزايد نذره، خصوصا مع اقتراب لحظة التخفيض الثانى لدعم الطاقة، وهى خطة كان قد تعهد بها الرئيس، وتقضى بخفض ربع قيمة الدعم كل سنة مالية جديدة، ونفذ الشريحة الأولى فى أول سنوات حكمه، وبما رفع الأسعار على نحو جنونى، وأضاف لعذاب الفقراء والطبقات الوسطى، وهم الأغلبية الساحقة من المصريين، وبنسبة تصل إلى تسعين بالمئة من مجموع السكان، والذين لا يملكون فى مجموعهم سوى ربع الثروة الوطنية، بينما يملك 9% من السكان ربعا آخر، ويملك 1% من السكان نصف الثروة المصرية، وقد جامل الرئيس ودلل طبقة الواحد بالمئة، وخفض عنهم عبء الضرائب، وخضع لابتزازهم، وألغى قراره بفرض ضريبة رمزية على أرباح البورصة، ولم يفعل شيئا إلى الآن لاسترداد مليارات و"تريليونات" نهبوها فى ثلاثين سنة، واكتفى بإبداء الحسرة على عدم استجابتهم لمبادرة "صندوق تحيا مصر"، والتى أشار لها السيسى على استحياء هذه المرة، وهذه نقطة الضعف الكبرى فى خطة الرئيس، فهو رجل يمتاز بقوة الإنجاز مع ضعف الانحياز للفقراء والطبقات الوسطى، وهو ما يهدد بمخاطر مفزعة قد تقوض إنجاز الرئيس، والذى يدخل عامه الثانى فى القصر الجمهورى، ودون أن يبنى نظامه الأوسع من مجرد الاستناد إلى قوة ومقدرة الجيش، ودون أن ينهى نفوذ "رأسمالية المحاسيب" والبيروقراطية الفاسدة المتحصنة فى دوائر الحكومة والجهاز الإدارى، ودون أن يجرى "مذبحة مماليك" للنظام القديم الذى لا يزال يحكم ويعظ، ويتآمر على الرئيس الجديد.