وجب على السياسى أن يكون خطيبًا، ووجب على الخطيب أن يكون سياسيًا ، الفكرة قديمة منذ أرسطو، والعبارة لابن رشد فى كتاب «تلخيص الخطابة». ورغم ذلك، لم تصل النظرية القديمة إلى مصر الثورة، ولم تصل المعايير الأبجدية لاختيار الساسة إلى دولة الإخوان المسلمين! فرئيس وزراء مصر، وقف أمام كاميرات التلفاز العالمية فى غزة، يلقى خطابًا ركيكًا، رغم وجود ملقن عن يمينه، الملقن يحمل ورقة من الحجم الكبير، تحتوى على الخطبة، والصوت ضعيف، والنبرة رفيعة وطفولية، ومخارج الألفاظ غير واضحة، والكاريزما معدومة، وتأثير الخطبة على الناس صفر على الشمال! سوء الحظ وضع رئيس الوزراء فى مقارنة ظالمة مع الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، الذى وصل إلى غزة فى ذات الوقت وارتجل خطابًا قويًا مختزلاً مزلزلاً، وقال إن مصر لم تعد كنزًا استراتيجياً للصهاينة، إنما غدت كنزًا لامتها العربية! فالفكرة واضحة ونبرة الصوت رخيمة واثقة، والعبارة قوية، لاتنقصها البلاغة والحجية والموقف الشجاع، وإدانة صمت المجتمع الدولى على المذبحة الجارية فى غزة! لقد تحدث أبوالفتوح كما لو كان رئيساً لمصر، أو هكذا تمنينا، وتحدث هشام قنديل كما لو كان مندوبًا لجمعية الهلال الأحمر! إنه الفارق بين الزعيم السياسى والموظف العمومى الذى تم اختياره لأهم منصب سياسى فى مصر بعد رئيس الدولة؟! وليس هذا انتقاصًا من شخص الدكتور هشام قنديل، فالمؤكد أنه رجل فاضل، ومواطن صالح، وانسان مهذب، لكنه ليس سياسيًا، وبالتالى لايصلح رئيسًا لوزراء مصر ما بعد الثورة، وما بعد عصر معاداة السياسة، واقصاء السياسيين، لحساب السكرتارية والموظفين البيروقراطيين! هل تدفع مصر ثمن انتخاب الرئيس محمد مرسى الذى خاطب الشعب بمفردات أكل الدهر عليها وشرب، من نوع أهلى «وعشيرتى»! قد يظن البعض أنه لا أهمية لبلاغة الخطاب السياسى، وأن المهم هو الانجاز على أرض الواقع! وهذا الاعتقاد خاطئ ومتخلف ومن نفايات العهد البائد وثقافة التبعية والانبطاح، لأن السياسة هى فن التواصل مع الجماهير، والخطاب هو أداة الاتصال المباشر مع الناس وبلاغة الخطاب هى القوة المحركة للجماهير. وإذا أردنا مرجعية دينية فى هذا الصدد فإن الله تعالى يقول فى محكم آياته «وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قولاً بليغًا». فالخطيب البارع يستطيع أن يجعل من الفكرة المجردة عقيدة راسخة فى أذهان الناس، ودفعهم للإيمان بها والدفاع عنها حتى الموت. والكاريزما أهم المواصفات الشخصية للقادة السياسيين. ولقد كان الزعيم الألمانى أدولف هتلر واحدًا من أبرع الخطباء السياسيين وأكثرهم بلاغة! وكان يتدرب فى شبابه على مخاطبة الجماهير أمام مرآة، ويستخدم قبضة يدة فى الضرب على المنابر! وكان الزعيم البريطانى وينستون تشرشل خطيبًا فصيحًا وزعيمًا مفوها! وهو الذى وقف يخطب فى الشعب البريطانى، بينما الطائرات الألمانية تضرب لندن ويقول: ليس عندى ما اقدمه لكم سوى العرق والدماء والدموع والنصر! وقد كان تشرشل فنانًا وأديبًا، ونال جائزة نوبل فى الأدب عام 1953. وكان شديد الدهاء حاضر البديهة. وخلال الحرب العالمية، هبط الرئيس «روزفلت» بطائرة مروحية فوق المدمرة التى يستقلها تشرشل، وتوجه إلى جناحه الخاص وعلم أنه يستحم، فقرر انتظاره فى غرفته! وضحك روزفلت حين خرج تشرشل من الحمام عاريًا كما ولدته أمه، فقال تشرشل: لعلك تأكدت الآن أن رئيس وزراء بريطانيا لايخفى عن الرئيس الأمريكى شيئًا!