برايان ماك آرثر صحفى بريطانى بارز عمل كمدير تحرير لجريدة التايمز وهو الذى أسس الملحق التعليمى فيما بعد. ومنذ أن استمع لخطاب أنورين بيفان عام 1956 فى لندن انصب جل اهتمامه على فن الخطابة. كان أنورين بيفان المتحدث عن الشؤون الخارجية فى حزب العمال، وفى خطبته التى ألقاها يوم 5 ديسمبر 1956 أعلن موقفه المناهض لما يسمى «العدوان الثلاثى» على مصر، وكانت الخطبة من القوة والبلاغة بحيث إن معارضى بيفان طالبوا بأن يكون وزيرا للخارجية. كانت أيضا الخطبة مؤثرة حتى إن ماك آرثر بدأ يتابع كافة الخطب السياسية المؤثرة، وفى عام 1992 قام بتحرير كتاب «الخطب فى القرن العشرين» وقد صدر الكتاب عن دار بنجوين، وأعيد طبعه عام 1993، وفى عام 1999 صدرت الطبعة الثالثة، ومع كل طبعة كان المحرر ينقح الكتاب عبر إضافة مزيد من الخطب. يقدم الكتاب متعة مدهشة- بداية من خطبة تيودور روزفلت (1899) ونهاية بخطبة بيل كلينتون (1998) ومرورا بخطب المهاتما غاندى وليون تروتسكى وهتلر ونهرو وفيدل كاسترو، ليس فقط لوجود النص كاملا مع نبذة عن السياق الذى ألقى فيه الخطاب، بل لأن كل خطاب يتضمن رد فعل الجمهور المستمع، فمع كل جملة قام الجمهور بالتصفيق لها يضع المحرر بين قوسين ما يفيد ذلك بدقة، إن كان تصفيقا مدويا أو قصيرا أو هتاف أو وقوف أو غضب أو تشويش على المتحدث. أما مقدمة الكتاب فهى لا تقل متعة وبراعة عن الخطب التى تلت ذلك، وفيها يتناول ماك آرثر تفنيد الآراء الخاصة بفن الخطابة، ومدى تدهور تلك المهارة الفريدة فى القرن العشرين مقارنة بما سبقه. ومن ضمن تلك الأسباب ظهور التليفزيون الذى أصبح يركز على الصورة أكثر من مضمون الكلمات ومعناها «أين الرؤى والكلمات التى تلهم الرجال والنساء بأفكار عظيمة، وتجعلهم يصوتون بحماس وعاطفة؟» وفى هذا السياق يورد المحرر آراء بيجى نونان- مؤلفة خطب الرئيس الأمريكى السابق ريجان- وهى الآراء التى تنعى موت فن الخطابة، فالسائد الآن هو الخطابة التى تستخف بعقل المستمع «العادى» ولا تلهم أفكارا سامية. إلا أن ماك آرثر يختلف مع نونان ويؤكد أن أسلوب الخطابة تغير، فالخطابة لم تعد كما كانت فى القرن التاسع عشر، وما زال هناك الكثير من الخطب التى تمكنت من مناهضة الاستبداد والقمع وانتصرت للحرية والحق. ويورد فى المقدمة أمثلة لخطباء وردت خطبهم فى الكتاب وكانت ملهمة فى حينها مثل نيلسون مانديلا وبوريس يلتسين. يبدو هذا الإلهام واضحا كما ذكرت من قبل عبر تضمين مواطن تفاعل الجمهور بدقة. وهنا يحضرنى تفاعل الجمهور المستمع مع خطبة أوباما، ولا أتحدث عن جمهور شاشات التليفزيون، بل أشير تحديدا إلى الجمهور الذى كان حاضرا فى القاعة والذى تولى إلهاب حماس الجماهير الجالسة أمام الشاشات عبر التصفيق المتواصل. تكلم أوباما عن «كوارث» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد تولت العديد من المواقع الإلكترونية والصحف نشر الخطاب كاملا باللغة العربية، كما توالت التحليلات الدقيقة لمضمون الخطاب، ولذلك لا يسعى هذا المقال إلى تناول أى من ذلك، خاصة أننى لست ممن «انبهروا» بالخطاب، فالكل يذكر واقعة تاريخية مهمة وهى قيام نابليون بونابرت إعلان إسلامه (لفظيا فقط بالطبع) عند دخوله مصر أملا فى كسب ود وثقة أهل مصر. كل ما فى الأمر أننى استمعت للخطاب بشكل محايد بوصفه خطاب الرئيس الأمريكى الجديد. كان التصفيق واضحا كلما ذكر أوباما الإسلام بخير (وكأننا نريد دائما هذا التأكيد!)، وأيضا مع كل اقتباس من آيات من القرآن الكريم، لكن ما لم أفهمه هو عدم تفاعل هذا الجمهور مع فكرة ملهمة فعليا قالها أوباما، فقد تحدث عن مبدأ إنسانى رائع يعد بحق أساس العدالة والحرية، فقال: «وكان تاريخ البشرية فى كثير من الأحيان بمثابة سجل من الشعوب والقبائل التى قمعت بعضها البعض لتحقيق مصلحتها الخاصة. ولكن فى عصرنا الحديث تؤدى مثل هذه التوجهات إلى إلحاق الهزيمة بالنفس»، ثم توقف لحظة ونظر للجمهور، ولما لم يجد رد فعل، استمر حتى وصل إلى «وبغض النظر عن أفكارنا حول أحداث الماضى فلا يجب أن نصبح أبدا سجناء لأحداث قد مضت، إنما يجب معالجة مشاكلنا بواسطة الشراكة كما يجب أن نحقق التقدم بصفة مشتركة»، عند هذه الجملة صفق الحضور، رغم أن التصفيق عند الجملة الأولى يحمل رسالة واضحة، إلا أن التصفيق جاء عند الجملة الثانية التى تتحدث بلغة اللحظة الحاضرة فيما يتعلق بالتقدم والشراكة. يستحق خطاب أوباما التحليل فعليا ليس فقط لمضمونه ومعناه ومغزاه، بل أيضا لمواطن التصفيق فيه التى توضح ما هى الأشياء التى نلتفت لها وتلك التى لا تهمنا.