نعم، حماس والمقاومة هي التي انتصرت، وكانت الهزيمة من نصيب إسرائيل ونظم التواطؤ، وأولها النظام المصري. قديبدو هذا الكلام غريبا لأول وهلة، فالدمار في غزةيشبه دمار القنبلة الذرية، وعشرة آلاف طن من المتفجرات نزلت فوق رأسها، والأسلحة الفتاكة من نوع قنابل الفوسفور الأبيض وقنابل «دايم» جري استخدامها بكثافة، وإضافة لليورانيوم المستنفد المشتبه باستعماله، وعدد الشهداء الفلسطينيين الذي قديصل إلي ألف وخمسمائة، وعدد الجرحي والمعاقين الذي قديصل إلي ستة آلاف، وكل هذا قديعني أننا إزاء ضربة إسرائيلية مدمرة للحجر والبشر، وهذا صحيح في حساب البصر، لكن ليس في حساب البصيرة، فقد دمرت إسرائيل المباني لا المعاني، وأزهقت الأرواح لا الإرادات، ودمارها المادي هو جانب من الصورة وليس كلها. خذ عندك- مثلا- التكاليف المالية المباشرة لما جري، جهاز الإحصاء الفلسطينييقدر خسائر الدمار- وعطب الاقتصاد- بحوالي المليار ونصف المليار دولار، وضعف المبلغ تكلفته إسرائيل في حربها المجنونة، وكنفقات لتشغيل نصف سلاح الجو، واستدعاء الاحتياط، وتحريك القوات والمركبات والمدرعات، أي أن تكاليف الحرب عند إسرائيل تبلغ ضعفها عند الفلسطينيين، أما تكاليف الأرواح عند الفلسطينيين فهي أكبر بما لايقاس، وقد تتضاءل نسبة قتلي إسرائيل وجرحاها إلي عدد شهداء الفلسطينيين وجرحاهم إلي نحو اثنين في المئة، لكن الخسائر العسكرية البحتة كانت متوازنة علي الجانبين، عدد قتلي الجيش الإسرائيلي وجرحاهيكاديساوي عدد شهداء حماس وفصائل المقاومة. وبحساب الأرقام المجردة، تبدو خسائر الفلسطينيين أكبر، فالأرواح لاتقدر بثمن، لكن الحروب لاتصاغ نتائجها بحساب الخسائر، وفي كثير من حروب التاريخ الكبري، كان الطرف المنتصر هو الذي خسر أكثر في الأرواح، ، روسيا الستالينية- مثلا- سحقت جيوش النازي، رغم أن روسيا خسرت عشرين مليون قتيل، فوق أن حروب المقاومة مع جيوش المستعمرين في كل التاريخ كانت لها قواعد أخري، وطرق حساب بالغة الاختلاف، فقد قدمت الجزائر - مثلا- مليوني شهيد ثمنا لتحررها من ربقة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، ولم تكن قوة المقاومة في أي وقت منافسة ولا مقاربة في العدد والعتاد لجيوش الغزاة، ولا في ذات المستوي التكنولوجي، وحتي في حروب الجيوش تكررت المعادلات نفسها كثيرا، فقد كان الجيش المصري أقل في التطور التكنولوجي بعشر خطوات من الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973، ومع ذلك كان النصر معقودا لجيش مصر العظيم، فالحروب تتحدد نتائجها بتحقق الأهداف، وليس بهول الصدمة والترويع، فأي جيش تافه كان بوسعه أنيفعل ما فعله الجيش الإسرائيلي، فقطيلزمه نفس الجنون العنصري النازي، وقد أثبت الجيش الإسرائيلي تفاهةيستحقها، وصب ناره علي القوم العزل من دبابات وطائرات تحميهم، لكنه عجزعن خوض قتال متلاحم، واكتفي بنصح جنوده بارتداء «البامبرز» والنوم في بطن الدبابات. وقد بدت حرب غزة كنصف حرب، وبدا أن إسرائيل خشيت أن تكملها، كان التصور الإسرائيلي غاية في السذاجة، وهو أن غارات الصدمة والترويع سوف تخضع حماس من أوليوم، لكن الجيش الإسرائيلي عجز عن التقدم إلي أهدافه طوال ثلاثة أسابيع، وهي مدة أطول من حرب أكتوبر ذات الستة عشريوما، لكن إسرائيل عجزت عن فتح ثغرة في خطوط المقاومة، ليس لأنها لا تستطيع أن تفعل، بل لأنها تخشي أن تفعل، وسارع أولمرت- مع باراك- إلي إعلان الخيبة في الوقت المتفق عليه مع الأمريكيين، ومع فارق أنه لميكمل الحرب التي وعد بها الأمريكيين، فلم تخضع حماس التي فقدت نذرايسيرا من قوتها في الحرب، واحتفظت بترسانتها الصاروخية المقدرة بالآلاف، ولميستشهد من قادتها سوي اثنين هما نزار ريان وسعيد صيام، ولميتمرد الفلسطينيون علي حماس تحت ضغط حصار استمر لعامين، وتحت ضغط محارق النار، تحت ضغط حصار وخنق عومل فيه الفلسطينيون معاملة المسلمين الأوائل من قبل كفار قريش، ومع ذلك بدت إسرائيل في حال الإنهاك، واضطرت لوقف إطلاق النار أولا، وهذه أول مرة تبادر فيها إسرائيل لسحب سلاحها أولا في تاريخ حروب الصراع العربي الإسرائيلي كلها، بينما أعلنت حماس وفصائل المقاومة عن وقف إطلاق النار بعد ساعات طويلة، استمرت خلالها في إطلاق الصواريخ، وأمهلت إسرائيل مدة أسبوع للانسحاب من أراض احتلتها في غزة، وبدا أن إسرائيل تتعجل الانسحاب الذي اكتمل قبل انتهاء مدة إنذار المقاومة، وبدت الحقائق علي الأرض ناطقة، فقد انسحبت إسرائيل إلي خطوط ما قبل بدء الحرب، وأضيفت قوة معنوية هائلة لحماس زادت صورتها تألقا، وأعلن الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما عن استعداده لحوار مع حماس بشرط اعترافها بإسرائيل، وغدايسقط هذا الشرط، فقد أصبحت حماس هي الرقم الأصعب في المعادلة برمتها، وبدا اسماعيل هنية - قائد حماس الداخل- أكثر إقناعا، وهويعلن انتصار المقاومة، بينما أولمرت المذعور- ومعه باراك-يضحك علي الإسرائيليين، ويحدثهم عن نتائج سلاح تحقق عكسها بالضبط، فإسرائيل كلها تعيش في رعب من عقدة حزب الله، والتي تتكرر في غزة بالنص والفص، فقد أرادت إسرائيل أن تخرج من الحرب بنصف خيبة، لكن الخيبة بدت كاملة الأوصاف، فقد بدت خائفة من اقتحام مدن غزة وتجمعاتها السكانية الكثيفة، وفي بالها نزف الدم والهيبة الذي لقيته في معارك حرب صيف 2006، وهومايعكس معادلة الحرب الجديدة التي فرضتها فصائل المقاومة العربية، فصائل المقاومة من نوع مختلف، والتي تبدأ سيرتها بثقافة الاستشهاد، ثم تطور تكنولوجيا ردع ملائمة، وتكون للأمة جيشها الذي لايقهر، وفي مقابل جيش إسرائيل الذي أصبحت مهمة قهره حرفة للمقاومة طويلة النفس عظيمة المقدرة. وقد راهن النظام المصري- كما راهنت إسرائيل علي هزيمة وتحطيم حماس، وخسرت إسرائيل رهان السلاح، كما خسر النظام المصري رهان السياسة، واجتمع المتعوس مع خائب الرجاء، تماما كما اجتمع الإثنان علي باب القصر المصري عند لحظة إعلان الحرب، وانتهي الطرفان إلي وضع الفضيحة، انتهيا إلي وضع العراة من ورقة توت، ولن تفيدهما مذكرات التفاهم ولا الترتيبات الأمنية إياها، ولا رعاية واشنطن من وراء ستار، ولا علي خشبة المسرح، فقد جفت الأقلام، وطويت الصحف، وقضي الأمر الذي فيه..ينهزمون. إشارات ليس هناك حكام عرب معتدلون ولا آخرون ممانعون، كلهم في النار ومبشرون بجهنم. تصالح الحكام العرب أو اختلفوا. لايهم، المهم أنيرحلوا ويذهبوا في ستين داهية. أحمد أبو الغيط تذكر الآن أن حماس «حركة شرعية»، بعد انتصارها علي إسرائيل (!) كان الإخوان علي حق في حشد مظاهرات كثيفة لنصرة غزة، والسؤال: متييتحركون بذات الهمة لنصرة مصر التي هي أم غزة؟! تحقيقات أمل سرور عن سيناء في «المصري اليوم» تستحق جائزة صحفية، وليس التنكيل بها - مع المصور حسام دياب- في مؤسسة تحنيط «الأهرام». أسموهم «بؤساء» وليس رؤساء تحرير الصحف القومية، تعليق طريف سمعته من قارئ ذكي «أيام الديسك والميكروباص»، عمل بديع وسيرة ذاتية تليق بحرفية ونصاعة اسم الزميل حمدي عبدالرحيم.