عام التناقض والمفارقات الخطرة، هذه هى الصفة الأكثر التصاقا بكشف حساب عام السيسى الأول فى الرئاسة. المفارقة المقصودة ظاهرة ومدمرة، فلدى مصر رئيس جديد جرى انتخابه بما يشبه الاجماع الوطنى، لكن الرئيس الجديد لايزال يحكم بالنظام القديم نفسه، ومع فوارق الايقاع فى العمل، وربما الفوارق فى الاختيارات، تنفجر التناقضات فى التصرفات السياسية والاقتصادية، ويبدو الشد والجذب متواترا، ومع أحوال من التربص، ربما تجعل مصر على حافة خطر جديد، فقد جرى انتخاب السيسى دفعا لخطر الإرهاب، لكن الفساد فى مصر أخطر من الإرهاب، فقد يقتل الإرهاب أشخاصا أو يفجر منشآت، أو يثير اضطرابا، لكن الفساد يقتل البلد، ويستنزف شعبية الرئيس، ويكاد يقوض دواعى الأمل فى رئاسة السيسى. ولا خوف على مصر من حرب الإرهاب، فلديها واحد من أقوى جيوش العالم، ولديها تجانس اجتماعى وثقافى وجغرافى فريد، يجعلها عصية على التفكيك، وعلى بلوغ أى جماعة مسلحة من خارج الدولة لأهدافها، مهما بلغت قوة هذه الجماعة، ومهما بلغت صنوف دعمها إقليميا ودوليا، فسوف تظل مصر قبضة يد، وعلى "حطة إيد" مينا موحد القطرين قبل آلاف السنين، وسوف تنهزم الجماعات الإرهابية المسلحة، فالذى يلجأ للسلاح فى مصر يكتب نهايته، ويذهب فى السكة التى لا يعود منها أحد، وهذا ما يحدث بإطراد فى مصر، فالإرهاب يسوغ أسباب القمع، والدولة تعيد بناء جهازها العصبى المركزى، وتلتف أجنحة الدولة الصلبة من حول نواتها فى الجيش، والأجهزة الأمنية تتحسن كفاءتها، والنجاح الملحوظ فى حرب الإرهاب يحسب لصالح رئاسة السيسى، وإن كان الاحتشاد ضد الإرهاب مما يقلص خرائط الحريات العامة إلى حين، ويكاد يميت معنى السياسة فى مصر، والنتائج ظاهرة فى تداعى مظاهر التحركات الاجتماعية الجماهيرية فى الشارع، وفى القيود الثقيلة المفروضة على حق التظاهر السلمى، وفى التزايد المهول لأعداد المحتجزين فى السجون، والتى وصلت لعشرات الآلاف، أغلبهم من غير المتهمين بالتورط فى عنف وإرهاب مباشر، وهو ما التفت له الرئيس السيسى أحيانا، وأقر علنا بوجود مظالم هائلة، وتعهد بإخلاء سبيل غير المتورطين فى عنف، وإن لم تجد الرغبة المعلنة سبيلا إلى التنفيذ الكافى، اللهم إلا فى حالات لا تتجاوز بضع مئات من الشباب المفرج عنه، وبإعاقة ملموسة من أجهزة تنتمى للنظام القديم الذى يحكم به الرئيس. ومن السياسة إلى الاقتصاد، بدت إعاقات النظام القديم أكثر ظهورا، فقد بدا السيسى فى أول عامه الرئاسى مهتما بالاقتصاد أولا، وبطريقة بدت أخلاقية تماما، وبعيدة عن معنى الانحياز الاجتماعى والاقتصادى الصريح، وركز بالذات على تعبئة الموارد، وعلى حاجة مصر إلى نهوض نوعى، يضاعف فى سنوات إجمالى الناتج القومى إلى ما يقارب السبعة تريليونات جنيه مصرى، وبدلا من البحث عن موارد نهوض باسترداد الأموال المنهوبة، وخوض حرب لا هوادة فيها ضد البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات المال الحرام، توقف نزيف الفساد الذى يهدر قرابة 250 مليار جنيه سنويا، وتلجم تهريب الأموال الذى استنزف 300 مليار دولار فى سنوات المخلوع مبارك، وتسترد حق الدولة فى مئات المليارات الضائعة فى الأراضى المنهوبة، بدلا من الحسم، لجأ السيسى إلى مهادنة مرئية مع النظام القديم، بجناحه السياسى فى البيروقراطية الإدارية والأمنية المسيطرة لا تزال، وبجناحه الاقتصادى فى عائلات رأسمالية المحاسيب، والتى كونت أغنى طبقة مقابل أفقر شعب، وتعدت ثرواتها المنهوبة ما يملكه أغنياء الخليج مجتمعين، وبما مكنهم من خوض حرب ضد السيسى الذى لم يبادرهم بحرب، وكسبوا على خرائط عامه الرئاسى الأول حروبا تلو حروب، وأفشلوا مبادرته الأولى المعروفة باسم "صندوق تحيا مصر"، فقد تصور السيسى أن مناشدة الأثرياء المصريين، وهم من أغنى أغنياء العالم، تصور أن المناشدة سوف تؤتى ثمارا، وتوقع أن يجمع "صندوق تحيا مصر" تريليونات الجنيهات، وتصور أن بوسعه جمع مئة مليار جنيه فى أسبوعه الأول، وفوجئ على ما يبدو بخذلان المليارديرات، والذين رفضوا الدفع لصندوق تصوره الرئيس كنواة إنقاذ، وخاضوا ضد الرئيس "حرب تكسير عظام" علنية، وهو ما دفعه للتحول من المناشدة إلى ما يشبه الإنذار، وعلى طريقة قولته الشهيرة "هتدفعوا يعنى هتدفعوا"، ولم تخضع "رأسمالية المحاسيب" لتهديد الرئيس، بل خاضت ضده حروبا أخرى، فازت بها جميعا، فهى تملك الثروة وقنوات الإعلام وأحزاب السياسة، وتحشد ملياراتها لشراء مقاعد البرلمان المقبل، وتحويل قوتها المالية والإعلامية إلى أداة ضغط سياسى، فوق الضغط الاقتصادى، وبما جعل الرئيس أكثر حذرا فى الاقتراب من امتيازاتها، بل بادر بتقديم امتيازات جديدة للطبقة الأغنى، ومن نوع خفض الضرائب على الدخل وعلى الشركات، من 25% إلى 22.5%، ومع إلغاء ضريبة التضامن المضافة على الأغنياء بنسبة 5% لثلاث سنوات، وهو الضغط نفسه الذى استمر صاعدا إلى نهاية العام الرئاسى الأول، بخوض "رأسمالية المحاسيب" حربها الظافرة فى البورصة، وإجبار الرئيس على إلغاء وتأجيل قراره بفرض ضريبة متواضعة على أرباح البورصة، لاتزيد نسبتها على عشرة بالمئة من الأرباح، وهى أقل بمراحل من النسب المناظرة فى الدول الرأسمالية، ومع ذلك سحب الرئيس قراره خضوعا للضغط، ورفع ما يشبه راية الاستسلام البيضاء، وكان تواقت قرار إلغاء ضريبة البورصة مع تعيين أحمد الزند وزيرا للعدل، كان التواقت نذيرا وعلامة على توحش النظام القديم، واستيلائه على قرار الرئيس حتى إشعار آخر. بدا الرئيس وحيدا فى عامه الأول، وسط أنقاض جهاز إدارى مترهل عديم الكفاءة، نخره سوس الفساد إلى أبعد مدى، وعجز السيسى عن تحريكه وإنهاض همته، وبدلا من أن يلجأ الرئيس إلى حرب تطهير، تصور أن ضرائبها ثقيلة فى وقت الحرب على الإرهاب، بدلا من اختيار حرب التطهير، لجأ الرئيس إلى حصنه الأقوى، لجأ إلى المؤسسة التى جاء من صفوفها، والتى خدم فيها لأربعين سنة مضت، ويعرف انضباطها وكفاءتها المذهلة فى تنفيذ المهام، لجأ السيسى إلى الجيش، وإلى هيئاته الاقتصادية والإنشائية والصناعية، وحقق إنجازا يشبه الإعجاز، كما جرى فى شق قناة السويس الجديدة، والذى تحقق فى وقت قياسى صاروخى، وبطريقة الرئيس المفضلة، والتى يلخصها دائما فى سيرة الإنجاز فى أقصر وقت وبأعلى جودة وأقل تكلفة، وهو ما بدا ظاهرا فى مشروعات أخرى كشبكة الطرق بآلاف الكيلو مترات، وإنشاء مدن جديدة بكاملها، على ضفاف قناة السويس فى منطقة الإسماعيلية، أو فوق جبل الجلالة على البحر الأحمر، أو فى بواكير إنجاز مشروع استصلاح مليون فدان جديدة، وضمن تصور يضيف أربعة ملايين فدان زراعى فى سنوات، أو فى إحياء الهيئة العربية للتصنيع، أو فى تطوير صناعة السلاح بعد ركود امتد لعقود، أو فى إحياء المشروع النووى السلمى، وإعداد البنية الأساسية لمحطات "الضبعة" النووية الخمس، أو فى استخدام طاقة الحد الأقصى لمصانع الجيش وورشه فى تجهيز آلاف المركبات العسكرية والشاحنات المدنية، وتوفيرها لدعم الاقتصاد المدنى بشروط وأسعار ميسرة، كذا التوسع غير المسبوق فى إنشاء مجمعات صناعية، ومجمعات "بتروكيماويات" بالذات، وهو ما خلق قطاعا اقتصاديا صناعيا جديدا فى مصر، قد تصح تسميته برأسمالية الجيش، وهى رأسمالية دولة من نوع مختلف، تديرها هيئات الجيش بانضباط وكفاءة وجدية، وتضم إلى الآن ما يفوق الألف شركة مدنية، ويعمل فيها ما يفوق المليون مهندس وفنى وعامل، وتبدو كورشة عمل هائلة، تضيف إلى خرائط الاقتصاد الانتاجى دما وقطاعا عاما جديدا، يعمل بأساليب محترفة، ويحرم "رأسمالية المحاسيب" الموروثة من فرص نهب جديدة، وإن تردد الرئيس فى تصفية الحساب القديم مع الناهبين، لكن تقدم "رأسمالية الجيش" على حساب "رأسمالية المحاسيب"، يوفر أسبابا موضوعية لتربص وصدام محتمل، قد تكون تأخرت مواعيده، وإن كان الظن أنها ستأتى قطعا، ولا تغيب فى حسابات الرئيس الذى تراجع مرات أمام رأسمالية المحاسيب، وإن كان تكوينه الشخصى المخابراتى، مما يوحى بهدوء ظاهر، وعدم استعجال لصدام لا مفر منه. نعم، امتاز عام الرئيس السيسى الأول بقوة الإنجاز، وإن كانت الآثار الشعبية المباشرة للإنجاز قد تتأخر إلى نهاية عامه الثانى كما قال مرارا، لكن الملمح الظاهر فى طريقته، وربما فى رؤيته، هو أولوية الدولة، وراقب - مثلا - ما جرى فى مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، فقد كان عملا خالصا للسيسى بامتياز، وحقق نجاحا فاق التوقعات فى جلب الاستثمارات، وكان الطرف المصرى فى كل الاستثمارات الناجزة أو المفترضة، وباستثناءات نادرة، هو الدولة، وكثيرا ما يكون طرف الدولة هو الجيش، أو هيئات قريبة منه، أو خاضعة لإشرافه، خاصة فى مجال الطاقة، والتى يتبنى السيسى مشروعا طموحا لمضاعفة انتاجها فى مصر، وهو طموح يبدو ممكن التحقق، خاصة مع نجاح الرئيس غير المنكور فى السياسة العربية والإقليمية والدولية، وتحريره للقرار المصرى من التبعية الموروثة لواشنطن، وإفساح المجال لتعاون مؤثر مع الكبار الصاعدين اقتصاديا وعسكريا، وبما يمكن من تطوير قوة الجيش وصناعة السلاح، والبدء فى حركة تصنيع واسعة، يتكامل فيها الشق المدنى مع العسكرى، وربما تتطور إلى إحياء القطاع العام الصناعى القديم، وبما يضيف إلى معنى الاستقلال الوطنى، ومعنى التقدم إلى حركة تصنيع شامل تحتاجها مصر بشدة، بينما يبدو معنى "العدالة الاجتماعية" غائبا بالجملة، وصفرا كبيرا فى سجل الرئيس السيسى إلى الآن. وقد لا يتسع المقام للاستطراد فى ذكر تفاصيل مهمة، لكن الملمح العام لعام السيسى الأول يظل ظاهرا، فقد امتاز أداء الرئيس بالشىء ونقيضه، امتاز بقوة الانجاز المدعوم أساسا من الجيش، وامتاز بضعف الانحياز للفقراء والطبقات الوسطى، والذين زادت حياتهم جحيما بسبب خفض دعم الطاقة بالذات، بينما هم الذين ساندوا الرئيس فى الاكتتاب الشعبى المذهل لمشروع قناة السويس الجديدة، وجمعوا 64 مليار جنيه فى أسبوع، وفى المسافة الممتدة بين قوة الإنجاز وضعف الانحياز، يكمن مأزق الرئيس، وتناقضات نظامه الخطرة، والتى تنتظر ضربة حسم تأجلت كثيرا