كعادتها، تلعب قيادة جماعة الإخوان بسياسة الوجهين، تخاطب الداخل بلغة الاستهلاك المحلى دفاعا عن النبى الأكرم، وتخاطب الأمريكيين على الموقع الإلكترونى للإخوان باللغة الإنجليزية، ويكتب رجل الجماعة الأقوى خيرت الشاطر منددا باقتحام السفارة الأمريكية فى القاهرة وبمقتل السفير الأمريكى فى بنغازى، ويقدم خالص التعازى لأصدقائه الأمريكيين باللغة الإنجليزية طبعا، وهو ما لحظته السفارة الأمريكية، فشكرت للشاطر «تغريدته» الصديقة بالإنجليزية، لكنها لفتت نظره إلى ما ينشره موقع «إخوان أون لاين» باللغة العربية، وهجومه الضارى على الولاياتالمتحدة وصناع الفيلم المسىء للنبى محمد صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين. وفى الشارع، بدا ارتباك جماعة الإخوان أكبر، فقد انكشفت دعايتها الإسلامية المزورة، وقررت التراجع عن تنظيم مليونية النصرة لرسول الله، واكتفت بوقفات متفرقة، وسعت لحض الآخرين من السلفيين بالذات على تهدئة الغضب ضد الأمريكيين، بل وطالب خيرت الشاطر على موقع الإخوان بالإنجليزية بإجراء تحقيق مع القوات المصرية لفشلها فى حماية السفارة (الأمريكية)!. وبعيدا عن قصة الفيلم الحقير، وعن صناعه ومنتجيه وممثليه، وما إذا كانوا مصريين من أقباط المهجر، أو من شبكات صهونية، بعيدا عن القصة الملتبسة كلها، فإن أحداً لا يمارى فى شىء محسوس جداً وأكبر من أثر الفيلم إياه، وهو العداء الظاهر للسياسة الأمريكية فى نفوس أغلبية المصريين، وهو العداء الذى يمثل عقبة كأداء للإدارة الأمريكية وقيادة جماعة الإخوان معا، وهما ينسجان صلة «شراكة عن قرب» على حد تعبير الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى حوار لشبكة تليفزيون «تيليموندو»الأمريكية، وبدا التعبير الجديد بديلا عن تعبيرات أخرى استبعدها أوباما فى ذات الحوار التليفزيونى، فقد قال الرئيس الأمريكى إن مصر الآن «ليست دولة حليفة ولا دولة معادية»، وتحدث عن حكم الإخوان قائلا: «إنها حكومة تحت الإنشاء»، والمعنى ظاهر، وإلحاح أوباما عليه مفهوم بدواعى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتهديد «ميت رومنى» الجمهورى المتشدد لرغبة أوباما فى كسب الرئاسة الثانية، المعنى ظاهر، ومؤداه أن الأمريكيين يضعون الإخوان فى موضع الاختبار الحاسم، وقد اختبر الأمريكيون موقف رئيس الوزراء الجديد المقرب من الإخوان فى ليبيا، والذى رحب مع «إخوانه» بغزو قوات المارينز الأمريكى لليبيا، وبدعوى البحث عن واعتقال المشتبه بدورهم فى قتل السفير الأمريكى اختناقا بدخان الحرائق، فيما بدت نتائج الاختبار ملحوظة فى مصر عند محيط السفارة الأمريكية، وظهرت فى عنف قوات الأمن الذى راح ضحيته مئات من المتظاهرين المصابين. وبالطبع، لا تلقى ازدواجية الإخوان الظاهرة رضا أمريكا بالكامل، فهى تريد ما هو أبعد من جهد أمنى لحماية السفارة الأمريكيةبالقاهرة، ومنع الاقتراب منها أو التصوير، فأمريكا تريد خضوعا معلنا كاملا، وشراكة إخوانية فيما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، لا أن يقول الإخوان باللغة العربية شيئا يضاد ما يقولونه باللغة الإنجليزية، ولأن يؤدوا فروض الطاعة فى الكواليس، ثم يتظاهرون بادعاء وطنى أو إسلامى فى العلن، وهذه محنة مرسى ومحنة الإخوان بالضبط، فهم يعرفون حقائق دعم الأمريكيين لوجودهم فى السلطة، وترحيب واشنطن بصفقة «الخروج الآمن» لرجال المجلس العسكرى السابق، ثم ارتياح تل أبيب المعلن للتعاون الأمنى الخفى مع حكومة مرسى، وخضوع مرسى الفورى لطلب إسرائيل بسحب الدبابات المصرية من منطقة شرق سيناء، وقد لعبت واشنطن دور المسهل الضاغط لإزالة عقبة الدبابات التى أزعجت إسرائيل، ثم جاء الوفد الاقتصادى الدبلوماسى المخابراتى الأمريكى لفحص نوايا مرسىعن قرب، وبدا الوفد مرتاحا لأن كل شىء فى مصر بقى على حاله،ولم يتغير هوى الإدارة المصرية الجديدة عن مثيلتها أيام المخلوع مبارك، وها هى الإدارة الأمريكية تشن الهجوم المعاكس بمناسبة الفيلم المسىء وردود أفعاله، وتريد إعلانا صريحا من الإخوان والرئيس مرسىبالخضوع التام، والقبول بالوضع الممتاز للسفارة الأمريكية باعتبارها دار المندوب السامى فى مصر. وفى قواعد جماعة الإخوان، وفى الكثير من مراتبها الوسطى، ثمة عناصر وطنية معادية حقا للسياسة الأمريكية، وعندها غيرة حقيقية لا مفتعلة على الإسلام، وهو ما لايبدو متوافراً بذات القدر عند أهل الحل والعقد فى الإخوان، وعند قيادتهم المسيطر عليها من قبل الملياردير خيرت الشاطر بالذات، وإلى هذه العناصر الوطنية فى الإخوان نتوجه بالحديث، فالأمر جد لا هزل فيه، ومصر الموروثة عن مبارك مستعمرة أمريكية بامتياز، جيشها تسيطر عليه دواعى ومضاعفات المعونة الأمريكية، واقتصادها محتل بوصاية صندوق النقد والبنك الدوليين، وسياستها العربية والخارجية تابعة للأمريكيين ومحابية للإسرائيليين، وهذا هو الوضع الذى انتهت إليه مصر منذ عقد ما يسمى «معاهدة السلام»، وتبعتها المعونة الأمريكية الضامنة، انتهت ما تسمى معاهدة السلام إلى نزع سيادة السلاح فى سيناء، وانتهت قيود المعونة الأمريكية إلى نزع سيادة القرار فى القاهرة، وإلى الحد الذى جعل جنرالات تل أبيب يصفون مبارك بأنه «أعظم كنز استراتيجى لإسرائيل»، فيما تبدو قيادة الإخوان، ويبدو رجلها المنتدب فى قصر الرئاسة محمد مرسى، تبدو قيادة الإخوان كأنها تتقدم إلى دور مبارك نفسه، وبتحريف بسيط، وتحت غطاءات دينية مموهة، تتقدم قيادة الإخوان إلى دور «الكنز الاستراتيجى للأمريكيين» هذه المرة، وبالطبع فلا فارق بين خدمة الأمريكيين وخدمة الإسرائيليين، فما بين أمريكا وإسرائيل حالة اندماج استراتيجى، واحتلال مصر سياسيا جرى بمعرفة الأمريكيين ولخدمة الإسرائيليين، والاحتلال الأمريكى له ركائزه فى مصر، ولا نريد هنا أن نناقش تصريح المتحدث باسم الجيش عن عدم وجود قواعد عسكرية أجنبية فى مصر، فهم يعرفون الحقيقة كما نعرف، يعرفون حقيقة كثافة وجود قوات المارينز فى نقاط حساسة بينها السفارة الأمريكية، وبما يجاوز اعتبارات حفظ أمن السفارة إلى اعتبارات أخطر، ويعرفون أن السفارة الأمريكية فى القاهرة هى ثانى أكبر ثكنة من نوعها فى العالم، وتأتى فى الترتيب مباشرة بعد سفارة أمريكا فى العراق بعد احتلاله، وفى السفارة الأمريكيةبالقاهرة توجد المحطة الرئيسية للمخابرات المركزية فى منطقة الشرق الأوسط، وفى شرق سيناء توجد ثلاث قواعد لقوات متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية، ثم أن واشنطن من خلال جهاز المعونة الأمريكية خلقت طبقة موالية لها فى مصر من رجال المال ورجال السلاح، ولا نريد أن نزيد، فالعلاقة الراهنة مع الأمريكان آثمة، وسواء وصفت بالتحالف أو بتعبيرأوباما الجديد «شراكة عن قرب»، والسكوت عليها أعظم إثما من السكوت عن إهانة الرسول، والمطلوب الوطنى صريح ومباشر، فالمعونة الأمريكية تافهة فى قيمتها المالية (مليار ونصف مليار دولار)، لكنها تشكل قيدا استراتيجيا على الرغبة الوطنية فى إعادة بناء الجيش، وعلى هدف النهوض بمصر من انحطاطها التاريخى، والمطلوب خطوات وطنية مدروسة ومتدرجة، تبدأ بإعلان مصر عن رفض المعونة الأمريكية وحل هيئاتها فى مصر، وما من حاجة لسؤال عن بديل مالى، فتطبيق نظام الضريبة التصاعدية على المليونيرات والمليارديرات يوفر للخزانة سنويا عشرات أضعاف قيمة المعونة المذلة وقروض صندوق النقد والبنك الدوليين، ورفض المعونة من جانب مصر يشل اليد الضاغطة للإدارة الأمريكية، ويفتح الباب لخطوات لاحقة نستعيد بها استقلال قرارنا الوطنى، ونطرد بها النفوذ الأمريكى من مصر، ونسترد كرامة وطننا وديننا ونبينا الكريم. ونتحدى قيادة الإخوان أن تفعل، أو أن تطلب من مرسى أن يفعل،هذا إن كانت صادقة حقا فى الغيرة على مصر والعرب ودين الإسلام نشر بالعدد 614 بتاريخ 17/9/2012