تذكروا هذه الأيام جيداً، وتذكروا مظاهرة الجمعة 19 أكتوبر 2012، فقد بدأ فيها العد التنازلى لحكم الإخوان، وبدأ الرئيس «الإخوانى» محمد مرسى فى التدحرج على منحنى الهزيمة النهائية، والإخفاق المذهل. كان حكم الإخوان قدراً لا يمكن تجنبه، وقبل أكثر من أربع سنوات، توقعت فوز الإخوان الانتخابى فى كتاب بعنوان «الأيام الأخيرة»، توقعت فوز الإخوان، وبالنسبة التى فازوا بها بالفعل عقب خلع مبارك، وقلت: إن حكم الإخوان هو أفضل وسيلة لخفض شعبية الإخوان، ولسبب بسيط، هو أن جماعة الإخوان حزب اليمين الرئيسى فى مصر، وأنها تمثل مصالح طبقة المليارديرات، وأن سياسة الجماعة لا تمثل بديلاً لسياسة جماعة مبارك، فليس بين الجماعتين تناقض سياسى جوهرى، بل التناقض فيزيائى محض، ويركب الطرفان (الباص) نفسه، وإلى ذات الوجهة والهدف، وعنف التزاحم الفيزيائى كان السبب الرئيسى فى حملات اعتقال الإخوان، فقد بدت جماعة الإخوان كقرين مخيف لجماعة مبارك، خاصة أن جماعة مبارك فى نهاية أيامها بدت كرأس بلا قاعدة اجتماعية، بينما بنت جماعة الإخوان قاعدة اجتماعية واسعة، بالعمل الخيرى والدعوة الدينية، بدت جماعة مبارك كرأس معلقة تتبنى سياسة معلقة، وراحت ضحية تآكل قواعدها الاجتماعية، راحت ضحية عزلة الرأس، بينما بدت جماعة الإخوان على العكس بالضبط فيزيائيا، لكن بلا بديل سياسى اقتصادى اجتماعى، فليس عندها سوى سياسة مبارك المعلقة ذاتها، وهو ما تدافعت مظاهره مع الحكم الفعلى للإخوان، وخاصة بعد فوز الرئيس الإخوانى فى ظروف اضطرار سياسى، فلم تفلح اللحى فى افتعال فرق، ولا صلوات مرسى الأمنية كل يوم جمعة، وبدت القصة على حقيقتها الصادمة، وتبين أن مشروع النهضة مجرد مطب هواء، وأن السياسة المعلقة الموروثة عن مبارك تفعل فعلها، وتؤدى إلى تآكل القاعدة الاجتماعية للإخوان، ففى خمسة شهور فصلت انتخابات البرلمان الأولى عن انتخابات الرئاسة الأولى، فقد تنظيم جماعة الإخوان ثلث قاعدته التصويتية، وبدا الميل لانخفاض شعبية الإخوان مطردا، وهو ما يفسر تزايد العنف اللفظى والبدنى المدار من قبل قيادة الإخوان، وهو ما يؤدى بدوره إلى مزيد من تآكل القاعدة الاجتماعية، وعلى نحو ما جرى فى مظاهرات جمعة 12 أكتوبر 2012، والتى جربت فيها قيادة الإخوان نفس أساليب عمل جهاز أمن الدولة أيام مبارك، وورطت شباب الإخوان فى حرب دموية ضد المتظاهرين من القوى الثورية، وفى ذات التوقيت الذى بان فيه تخبط مرسى بإثارته زوبعة إقالة النائب العام، والتى هزم فيها مرسى بالضربة القاضية، وتماما كما حدث فى سقوط الإخوان بميدان التحرير، والنجاح المبشر لمظاهرة الثوريين فى 19 أكتوبر 2012، والتى حملت شعار (مصر مش عزبة) لا لجماعة مبارك ولا لجماعة الإخوان. وفى أسبوع هزائم مرسى والإخوان، بدت المصادفات فى حكم الأقدار، فقد أرادت إسرائيل احراج صديقها مرسى الذى حل فى دور مبارك نفسه، وقامت بتسريب صورة ضوئية من رسالة مرسى الحميمية إلى «عزيزه وصديقه العظيم شيمون بيريز» رئيس كيان الاغتصاب الإسرائيلى، والتى بدت مفرطة فى عاطفيتها المذهلة، وتحدث فيها مرسى عن «علاقات المحبة» مع إسرائيل، وختم قائلا لبيريز بالنص «أعرب لفخامتكم عما اتمناه لشخصكم من السعادة ولبلادكم من الرغد»، ووقع الرسالة على طريقة «صديقك الوفى محمد مرسى»، وعلى قدر ما مثلته الرسالة من صدمة للرأى العام الوطنى فى مصر، وانكشاف لحقيقة موقف قيادة الإخوان من إسرائيل، فقدأثارت الرسالة ارتباكا معتاداً فى مؤسسة رئاسة مرسى، والتى فكرت فى النفى قبل أن تعترف، ثم ادعت أن الرسالة روتينية(!)، مع أنها بعيدة جدا عن المعنى الدبلوماسى البارد، وأقرب ما تكون إلى الخطاب الغرامى الحار، وهو ما كشف ركاكة مؤسسة الرئاسة، وركاكة مرسى نفسه، والذى حاولت قيادة الإخوان تصويره فى صورة البطل المغوار، والذى أزاح السلطة السياسية للمجلس العسكرى السابق بجرة قلم، فإذا بالدنيا كلها تكتشف حقيقة ما قلناه مبكراً، وبالذات عن «الدولة العبيطة» والرئيس الذى هوكذلك، فلم تجر إزاحة مجلس طنطاوى وعنان بقرار منفرد كما أشاعوا، بل كانت القصة كلها مجرد صفقة وعهد أمان، وأديرت برعاية الأمريكيين المتحمسين لمرسى وجماعته الإخوانية، وبشرط تحصين طنطاوى وعنان، ومنع مساءلتهما مع الآخرين قضائيا فى جرائم المال والدم، وإحالة كل البلاغات بالخصوص إلى مدافن النيابة العسكرية، وقد جرب مرسى أن يناور فى هذه النقطة بالذات، وصدرت عنه تصريحات توحى بأنه لا أحد فوق الحساب، وكانت الإشارة ظاهرة إلى طنطاوى وعنان بالذات فى خطابه أمام طلبة جامعة القاهرة، وفى حشد إخوانى مختار، ثم تواترت الإيحاءات ذاتها مع غياب طنطاوى وعنان عن الاحتفال بذكرى حرب 1973، ثم تحولت الإيحاءات إلى حوادث بإحالة البلاغات لقاضى تحقيق مكلف من وزير العدل أحمد مكى، وهو ما بدا معه كأن طنطاوى وعنان على شفا المحاكمة فعلاً، أو كأن الصفقة يجرى الخروج عليها من قبل مرسى، وبدواعى كسب شعبية ما تنقذه من حرج موقفه، وهنا جاءت اللطمة مدوية، ومن جهة قيادة الجيش الجديدة التى عينها مرسى نفسه، وأصدرت قيادة الجيش أمراً لمرسى بإقالة رئيس تحرير جريدة «الجمهورية»، لنشره خبرا عن متابعة التحقيقات الجارية بشأن طنطاوى وعنان، ونفذ مرسى أمر قيادة الجيش على الفور، وبسرعة صاروخية لافتة للنظر، ثم جرت استتابته علنا أثناء حضوره لمشروع تدريبى للجيش الثانى، وتراجع مرسى إلى نقطة الصفر، وأكد رفضه المطلق لما ينشر عن القيادة السابقة للقوات المسلحة، وقال بالنص «إنه يتشاور دائما مع طنطاوى وعنان»، ووصف ما ينشر عن طنطاوى وعنان بأنه «محاولة للوقيعة» بينه وبين الجيش، بدا مرسى مذعوراً هذه المرة من غضب الجيش، وتراجع بصورة مخزية تماما، كتراجعه المخزى فى زوبعة إقالة النائب العام المعين من قبل المخلوع مبارك، وكذا تراجعه أمام غضب «الفلولى» الكبير أحمد الزند رئيس نادى القضاة، والذى حذر مرسى بقوله «لسنا طنطاوى وعنان»، وهو ما استثا ر حمية قيادة الجيش، والتى بادرت ببسط حمايتها على طنطاوى وعنان، ورفعت اصبع «الفيتو» على طريقة القضاة، وخضع مرسى فى الحالين، وبدا كرجل مذعور يريد أن يفلت فقط بمزايا البقاء فى منصبه، وحتى لو تحول إلى ديكور فارغ من المعنى، وحتى لو اقتصرت مهامه على أداء صلوات الجمع فى حراسة الآلاف من قوات الأمن والحرس الجمهورى(!). وهكذا، بدا أسبوع (12 أكتوبر 19 أكتوبر 2012) اسبوع هزائم مرسى بامتياز، وانكشاف صورته المصنوعة، وركاكة مؤسسته الرئاسية، وحيرة قيادة الإخوان التى تتلف أعصابها، وتحاول الابتعاد بمصيرها عن فشل مرسى، وقبل أسبوع الهزائم، كانت قيادة الإخوان تتخوف مما تتصوره تناقضا فى المصائر، كانت القيادة تلاحظ مفارقة ما اسمته زيادة شعبية مرسى مقابل انخفاض شعبية الإخوان، ثم لحقت الخيبة بالاثنين معا فى أسبوع واحد، ولم يتبق لمرسى سوى عروضه الهزلية البائسة، والتى يبدو فيها على حالة «الانبساط المرضى»، تماما كحالة «الضحك المرضى» المعروفة فى عالم الطب، فأنت تلاحظ أن مرسى يبدو أكثر تأنقا، يبدو فرحا بنفسه، و«لابس مزيكا»، وكأنه لا يصدق بعد أنه صار رئيسا، وتلك حالة مزاجية غريبة، تستثمرها بيروقراطية الدولة المصرية، وتحيطه بمظاهر أبهة، وحشود أمن، وبروتوكولات احترام منافق، تعطيه «يونيفورم الرئاسة»، وتسلب منه صلاحيات الرئاسة، وتتركه معلقاً كقميص رئاسة بلا جسد رئاسة نشر بالعدد 6019 تاريخ 22/10/2012