مليارديرات وجنرالات وفضائيات وشباب ساخط شباب غاضب بجد وثورى بجد وشارك فى يناير ويونيو بجد لكنهم يخطئون بعبط فى فهم ما يجرى ولعلك تلحظ إن السيسى نفسه يتحدث كثيرا عن الثورة الثالثة ، ويقول مرارا إن الشعب المصرى ثار فى يناير وفى يونيو ، ولا شىء يمنعه أن يفعلها لمرة ثالثة ، وهذا صحيح نظريا ، لكنه قد لا يصادف حظا فى التطبيق بالمدى المنظور ، وهو ما يفسر الارتياح والأريحية التى يتحدث بها الرئيس عن احتمالات الثورة عليه، وحديثه عنها فى سياق كيل المديح للمصريين ، وليس كنبوءة ، ولا كمخاوف ، ولا كحظ «نحس» قد يصادفه هو بالذات . والمثير ، أن بعض أشد معارضى السيسى يتحدثون هم الآخرون عن ثورة محتملة ، على طريقة الرئيس بالضبط ، وكمجرد كلام يطلق كدخان فى الهواء ، أو سعى لإنشاء حركات تقليد بائس لحركة «كفاية» ووليدتها حملة «تمرد» ، ويتصورون أن الحكاية بسيطة وسهلة ، ولا يلزمها سوى مجرد تجميع عشوائى لشباب ساخط ، ودعمها بصخب غاضب على مواقع التواصل الاجتماعى ، ودعوة للشعب المصرى إلى النزول فى الميادين ، ثم تكتمل الحدوتة «توتة توتة» ، وتقوم الثورة ، وينخلع الرئيس ، ونصحو على صباح يشبه 11 فبراير يوم خلع مبارك ، أو مساء يشبه 30 يونيو ، حين قضى الأمر ، وذهب حكم مرسى وإخوانه . أتحدث هنا عن شباب غاضب بجد ، وثورى بجد، وشارك فى يناير ويونيو بجد ، لكنهم يخطئون بعبط فى فهم ما يجرى ، ويتصورون الثورة كهواية أو كلعبة كومبيوتر ، أو كفيلم «أكشن» يعدون لإخراجه، وأنه ليس عليهم سوى تكرار ما جرى قبل يناير أو قبل يونيو ، والتقليد البهلوانى لسيرة «كفاية» أو حملة «تمرد» ، ودون إدراك ولا شبه إدراك للظرف الموضوعى ، ولمدى استعداد الشعب المصرى للقيام بثورة جديدة ، أو وجود قطاعات اجتماعية قد يصح الاعتماد عليها ، أو طلب نجدتها ، فالشعب المصرى لا يسمعهم تقريبا ، وقد يتقبل نقدهم لأوضاع السياسة والاقتصاد فى مصر الآن ، لكنه لا يقبل طلبهم ، ولا دعوتهم إلى ثورة جديدة ، فلا يوجد هواء ساخن بما يكفى لطيران الريشة ، وقد كنت أصف «كفاية» دائما بأنها ريشة فى هواء ، وأن قوتها فى فكرتها ، وليس فى جسدها التنظيمى، وأن دعوتها حلقت عاليا فى السماء مع سخونة وزهق الشعور العام ، ومع كونها فكرة خرجت عن نص معارضة بليدة راكدة ، مسخت ومسحت المجال العام لعقود طويلة ، وكان جديد «كفاية» فى صرختها ، وفى ردها لاعتبار السياسة ومعنى المعارضة الجذرية ، وفى ابتداع مقاومة جامحة على الأسفلت ، وليس فى الغرف المغلقة ، ولا فى غرف الدردشة الإلكترونية وصفحات «الفيس بوك»، بل بصلابة طبع مبشريها ودعاتها ، ونقاوتهم الوطنية والثورية ، وسيرة تضحياتهم الجليلة فى اختراق الصمت وفك أطواق الركود ، فى الصحافة الحرة ، وفى المظاهرات التجريبية الجسورة الصبورة الباسلة ، وفى ربطهم الوثيق الناصع للموقف الوطنى بالموقف الاجتماعى والموقف الديمقراطى ، وهو ما كون لحركة «كفاية» مصداقية هائلة ، أشاعت روح الإلهام فى قطاعات أخذت تتسع ، وانتقلت من الغضب السياسى إلى الغضب الاجتماعى ، ومع إدراك متوهج لأجواء القلق العام، ودون ادعاء وكالة عن الناس ، ولا استعجال لقطف الثمار من جذورها ، وهو ما جعل من صرخة «كفاية» فى النهاية صرخة لكل الناس ، وعلى نحو ما جرى فى ثورة يناير الشعبية العظمى ، وكلها شروط لا تتوافر فى دعوات شبابية لاستنساخ «كفاية» أخرى الآن ، حتى لو حرص دعاتها على استخدام كلمات قريبة الوقع السمعى من اسم «كفاية»، وباسم حركة «بداية» أو بغيره ، فالتاريخ لا تجرى حوادثه على هذه الصورة التكرارية الرتيبة ، ومحاولات استنساخ «كفاية» هى إهانة لعظمة وتفرد «كفاية» . ولاحظ هنا أننا نتحدث عن شباب نثق فى نقاوتهم ، وكثير منهم تأثروا بروح حركة «كفاية»، أو نشطوا على أطرافها ، أو تواجدوا على ضفافها، أو شاركوا فى حملة «تمرد» من منظور وطنى وثورى، وقد نشأت حملة «تمرد» من قلب حركة «كفاية»، وحمل راياتها واستماراتها الأولى شباب قيادى فى حركة «كفاية» ، مثلوا الجيل التالى لجيل «كفاية» المؤسس ، وقد انتهى بعض شباب «تمرد» من خارج «كفاية» بالذات إلى حالات انتهازية رديئة ، وانتقلوا من «التمرد» إلى «التمرغ» ، ودون أن يعنى تحولهم انتقاصا من نبل الفكرة الأولى ، ولا من ثوريتها، ولا من عبقريتها فى التقاط الشعور العام للناس، وتحويله إلى قوة اندفاع هائل بعشرات الملايين إلى الميادين ، فقد كانت حملة «تمرد» كما كانت كفاية الأم ريشة فى هواء ساخن ، وكانت قوتها فى فكرتها أيضا ، وفى خروجها عن نص «تصديق» الإخوان، فلم تكن قصة الإخوان أن رئيسهم حكم مصر لمدة سنة ، بل كانت القصة طويلة، ومن عمر حكم السادات بعد حرب أكتوبر 1973 ، والممتد بحكم مبارك ، كانت جماعة مبارك تحكم فى السلطة، وكانت جماعة الإخوان تحكم فى المجتمع، وتوحى للناس بأنها «البديل» فى السلطة ، وتتخفى بحقيقة «القرين»، وكان ضروريا أن تحكم ، وحتى ينكشف الوهم الاجتماعى السياسى ، وقد حكم الإخوان وحكم الشعب عليهم ، وبعد تجربة محنة دامت لعقود طويلة ، تسلطت فيها جماعة مبارك على الأبدان ، فيما تسلطت جماعة الإخوان على الوجدان، وهذه «العشرة» البائسة هى التى ولدت الثورة على مبارك والإخوان تباعا ، وهو ما لا ينطبق على حالة السيسى، ولا على حكمه الجديد ، والذى لم تتضح معالمه النهائية بعد ، حتى وإن كانت رئاسته قد شارفت على سنة كاملة ، وهى المدة ذاتها التى قضاها مرسى فى الحكم ، وقبل أن يجرى خلع الوهم الإخوانى طويل الأمد . نعم ، ثمة أزمة محسوسة لحكم السيسى، واتساع فى خرائط السخط والغضب واللوم والانتقاد، ولكن دون احتمالات توقع ثورة قريبة ، ولا شبه ثورة فى المدى المنظور ، والأسباب ظاهرة جدا، فالشعور العام ساخط على ما يجرى ، لكنه لا يزال يأمل فى السيسى ، ويناديه أن يفعل شيئا، وربما أن يقوم بثورة على نظام الحكم الموروث ، والذى لم تتبدل قواعده ولا مصالحه الكبرى ، فالسيسى رئيس جديد حقا ، لكنه لايزال يحكم بالنظام القديم، والذى جرى خلع رأسه دون أن يمس بدنه، وهنا جوهر المفارقة المولدة لغضب من نوع خاص ، غضب من السيسى وأمل فيه بذات الوقت، دواعى الغضب مفهومة ، فالفساد لايزال يحكم ويعظ، والعدالة الاجتماعية غائبة بالمطلق، وحياة أغلبية الناس الفقراء والطبقات الوسطى تزداد سوءا وعنتا ، وتحالف البيروقراطية العفنة ومليارديرات النهب لا يزال يسيطر على جهاز الدولة ، والمظالم اليومية تتضاعف مع تغول القمع الأمنى ، وزواج السلطة والثروة والإعلام لايزال قائما ، بل ربما يتوثق ويتوسع ، وكلها كوابيس تثقل الشعور العام ، وتوحى بأن شيئا ما لم يتغير ، وأننا قد نكون عدنا إلى سنوات ما قبل ثورة يناير ، خاصة مع تواتر الدعاية الكارثية نفسها، والعودة إلى عزف اسطوانات مشروخة ، من نوع منح الأولوية للاستقرار والاستثمار ، وكأن مصر يجرى اختصارها فى ضباط الأمن ورجال الأعمال، وصحيح أن الرئيس السيسى يكرر دائما أنه لا عودة إلى الماضى، وهو الوحيد فى الحكم الذى يتحدث باحترام عن ثورة 25 يناير 2011 ، ولا يكتفى كمرءوسيه بالحديث عن 30 يونيو 2013 ، وهى النغمة التى يعزف عليها الإعلام السائد ، والذى يصور ثورة يناير كمؤامرة ، ويصور 30 يونيو كنهاية لمؤامرة الثورة ، وكعودة إلى خطوط 24 يناير 2011 ، وإلى حكم مبارك دون مبارك ، ويريد للسيسى أن يكون فى صورة مبارك الأصغر سنا ، وأن يرد الاعتبار لشبكة مصالح جماعة مبارك ، بينما يبدو السيسى صامتا ، يتحدث فقط فى العموم والعناوين عن مصر الجديدة والثورة وأولوية الشباب ، ويترك الشياطين تمرح فى التفاصيل، يتحدث عن عمل وإنجاز يديره بنفسه، وعلى طريقة ملحمة قناة السويس وجلب الاستثمارات ومشروعات الطاقة والاستصلاح الزراعى ، يتحدث عن إنجازات حقيقية، وعن نجاحات غير منكورة فى سياسته الوطنية والعربية والخارجية ، وعن وعد بإجراء طفرة تبنى مصر الجديدة ، وقد تستغرق أعواما كما يقول، لكن مشكلة السيسى أن الناس يصدقونه، لكنهم لا يحسون بأثر وعوده فى حياتهم اليومية الجارية، مشكلة الرئيس أنه يسعى حقا لبناء مصر جديدة، ولكن قفزا على مفاسد مصر القديمة ، مشكلته أنه يريد البناء الجديد دون إزالة الأنقاض والركام، مشكلته أنه لا يتقدم بما فيه الكفاية لبناء نظامه، ويتردد فى توجيه الضربة الحاسمة لتحالف اللصوص ، والذين يتظاهرون بالحماس لرئاسته، لكنهم يستريبون فى نواياه ومقاصده النهائية ، ويكيدون له ، خاصة أنه لا يكشف خططه السياسية، ويحتمى بالصمت المدرب عليه كرجل مخابرات محترف، ويكثف فى الاعتماد على هيئات الجيش الصناعية والاقتصادية ، ويطور رأسمالية دولة جديدة ، قد تصح تسميتها برأسمالية الجيش، تزعزع عرش «رأسمالية المحاسيب» الموروثة عن أيام مبارك ، وتضيق عليهم فى فرص نهب جديدة ، وإن أبقت إلى حين على ثروات النهب القديم . الصورة إذن مركبة ومعقدة ، وفيها تشوش عظيم ، قد يفسر وقوع بعض الثوريين الحقيقيين فى خطأ التقدير، لكنه يفسر أكثر سلوك جماعات الفلول والثورة المضادة ، والتى تريد التبكير والتبشير بخلع السيسى ، وبدعوى إشعال ثورة جديدة ، تنشط فيها زرافات من المليارديرات والفضائيات والجنرالات ، وجماعات تمويل وتحفيز أمريكى، تخلط أوراقها وأموالها مع جماعات الشباب المحبطين، وربما مع إرهاب الإخوان ، فالذى أوله زيف آخرته «خيبة بالويبة» .