استعادة وعى المصريين هى أعظم مكسب للثورة إلى الآن، فقد كانت مصر فى غيبوبة ثقيلة مزمنة، امتدت لأربعين سنة متصلة من الانحطاط التاريخى، وكانت ثورة يناير الشعبية بشارة الإفاقة من الغيبوبة، والخروج من حالة انحطاط عام أعقبت حرب أكتوبر 1973، واستعادة الشعور بالألم، والأمة التى تشعر بالألم هى التى تصنع الأمل، ولا يخاف الطغاة أكثر من الشعب الذى يتألم . صحيح، أن الثورة لم تصل للسلطة بعد، ولا حققت شيئا جوهريا من أهدافها، وهو ما يثير الإحباط عند شباب الثوريين، ويدفعهم للتشاؤم، وربما لليأس ونعى الثورة، فثمة ظواهر زاعقة توحى بالرجوع إلى الخلف، وكأن ثورة لم تقم، وكأنه كتب علينا أن يحكم الإخوان والفلول بالتبادل، وهى ذات الثنائية اللعينة التى ثار ضدها الشعب، وخلع مبارك فى ثورة 25 يناير العظمى، ثم خلع «القرين» ممثلا فى حكم الإخوان، وبموجة ثورية أعظم فى 30 يونيو، فلولا 25 يناير ما كانت 30 يونيو، لولا إفاقة يناير ما كان وعى يونيو، فقد كانت مصر تفتح عينيها بعد طول الرقاد، وكان لا بد أن يجرب الشعب حكم الإخوان، وقد أوحوا بإشارة «البديل» لمبارك، وتخفوا بطبيعة «القرين» الشريك فى اختيارات الانحطاط ذاتها، وكان لابد من الصدمة، واكتساب الوعى بالإفاقة الأكثر يقظة، و«كبش» النار، وغسل «مصارين» البلد بشربة «زيت الخروع» الإخوانية، وهكذا كان، وخلع الشعب رأس النظام المباركى الإخوانى، ودون أن يجرى تغيير وخلع النظام من جذوره إلى الآن . نعم، لم تكتب لحظة نهاية النظام القديم إلى اليوم، ولم تصدر بعد شهادة الوفاة، ولا جرت مراسم الدفن بصورة صحيحة، ولا نزال فى زمن تشوش واختلاط هائل، فيه رئيس جديد يحكم بالنظام القديم ذاته، فيه رئيس طموح لبناء إنجازات مصر الجديدة، ولكن دون قطيعة تامة مع مصر القديمة، بل مهادنة لها، وقفزا على مفاسدها، وتأجيل الصدام مع مماليك البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب العام، وإثقال كاهل الفقراء والطبقات الوسطى، وتحميلهم وحدهم فواتير انهيار الاقتصاد، وهو ما يثير غضبا عظيما فى نفوس الناس، فلا توجد عدالة اجتماعية فى توزيع أعباء إنقاذ الموازنة المنهكة، ولا أخذ من كل برغوث «على قد دمه»، ولا استرداد للأموال والأصول المنهوبة، ولا فرض لنظام ضريبى عادل على أغنياء النهب، بينما يجرى الضغط بقسوة على أقوات غالبية المصريين، وخفض الدعم على السلع بهمة ونشاط، ورفع تكلفة الخدمات العامة المتردية أصلا، وهو ما يزيد من العنت، إضافة لتآكل الحريات العامة، وتضاعف معدلات القمع، وتراكم «تجاوزات» اعترف بها الرئيس السيسى نفسه، وفى سياق الحرب ضد الإرهاب، وهى معركة حقيقية لا تتأخر أغلبية المصريين عن دعم الجيش وقوات الأمن فيها، لكن الأغلبية ذاتها تستبطئ الخطى فى محاربة الفساد، مع أن الفساد أخطر من الإرهاب، وهزيمة الإرهاب مؤكدة لاريب فيها، لكن الفساد لايزال يحكم ويعظ، وبما يثير نفور الناس، ويتصاعد بالغضب إلى الحلوق، ودون أن يتدفق الغضب إلى الشارع، ولسبب بسيط ظاهر جدا فى وعى عموم المصريين، وهو «صدة النفس» من تحركات الإخوان الإرهابية، وانتحالهم لصفة ثورة يناير، ولم يكونوا أبدا طرفا فى الدعوة إليها، تماما كما ينتحل الفلول صفة 30 يونيو، ويريدون خلافة حكم الإخوان . ولن يقبل المصريون أبدا أن يكونوا نهبا لتداول سلطة بين الإخوان والفلول، لن يقبلوا أبدا بتزوير ثورتهم، والتى تعانى فصاما نكدا بين فعل الثورة وحال السياسة، فمشاهد الثورة تخلع القلب فرحا، وأحوال السياسة تقبض الروح كمدا، وتسيطر عليها أطياف اليمين الدينى والفلولى والليبرالى، والذين يفيدهم نظام انتخابى فردى جرى إقراره، يهدر الغالبية العظمى من أصوات الناخبين، ويستدعى تأثيرات المال والبلطجة والعصبيات العائلية والجهوية، وينتهى إلى برلمان معاد للثورة بامتياز، تماما كما كان برلمان الإخوان، وبما يبدو معه وعى المصريين العائد، وكأنه فى امتحان ومحنة جديدة، وكما لفظوا «شربة زيت الخروع» الإخوانية، فسوف يلفظون «شربة الدود» الفلولية، وعلى مراحل متدرجة من استعادة الوعى كاملا، وإلى أن ينتهى عذاب المصريين وثورتهم اليتيمة، ويقوم لها حزبها الوطنى الثورى الجامع، القادر على نقل حس الثورة إلى مجال السياسة، وعلى الفوز للشعب فى الانتخابات العامة، وفتح طريق سالك لكسب الديمقراطية الحقيقية والاستقلال الوطنى والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية، والذهاب بنجوم الأحلام إلى مداراتها الصحيحة، ووضع الثورة فى السلطة، حتى تعتدل الموازين المختلة، ويكمل المصريون مرحلتهم الثالثة فى استعادة الوعى . لم يعد المصريون شعبا يخاف، فقد ذهب الخوف المصرى إلى قبره الأخير، فالخوف طرفان، طرف يخوف وطرف يخاف، وقد يستعيد المخوف عدة التخويف، لكن الذى كان يخاف مشى ومضى، وفقد صبره البليد إلى الأبد، واستعاد وعيه بوجوده وحقوقه، ولن يقبل العدوان المتصل عليها، فلا تستهينوا من فضلكم بالشعب المصرى، والذى تدفقت ملايينه الحاشدة إلى الشوارع والميادين فى ثورتين عظيمتين، وقد يكتم غضبه بصورة موقوتة لدواعى مواجهة الإرهاب، لكنه لن يقبل مجددا لعبة استثارة الفزع كستار لسلب الحقوق وتكريس المظالم، فأمن البلد ضرورة شعبية، لكن مستقبل البلد لن يكون من جنس ماضيه، فقد ولد الشعب المصرى من جديد، خرج من الغيبوبة، واكتسب وعيا يكتمل مع فصول المعاناة المتصلة بعد الثورة، واستعاد نعمة الشعور بالألم، فاحذروا شعبا يتألم .