سهولة إعطاء انطباعات من هذا النوع لها دواعيها الملموسة، وبالذات فى الممارسات الأمنية ذات الطابع القمعى، والتى هى موضع إدانة وطنية جامعة من كافة القوى الثورية، وسواء لحقت الانتهاكات بالإخوان أو بغير الإخوان، وكلها مرفوضة تماما، كما لا يحق لأحد أن يفرق فى حرمة الدم، أن يفرق بين دم شباب الإخوان ودم شهداء الجيش والشرطة، فالدم المصرى كله حرام، وبعض الممارسات الأمنية تفوق فى ضراوتها ما كان يفعله حبيب العادلى شخصيا، لكنها مع ذلك لا تبرر القول بأننا عدنا إلى ما قبل الثورة، فلا شيء فى التاريخ الإنسانى يعود إلى الوراء، حتى وإن بدا كذلك لزمن موقوت، ولظروف متغيرة بينها الخطر الإرهابى الذى يجتاح المنطقة، والتى تشهد مصر صوره الشرسة، والمحكوم عليها بالهزيمة فى نهاية المطاف، وإن كانت أجهزة الأمن المصرية فى حاجة إلى تجديد شامل، وتغيير جوهرى فى أساليبها وهياكلها وطرائق عملها، وترك طرق الاحتجاز العشوائى لآلاف الناس، والتغول على الحقوق والحريات الطبيعية، فمصر فى حاجة إلى موازنة دقيقة بين الأمن والحرية، لاتتضمن فرض قيود أو إجراءات استثنائية على نمط حالة الطوارئ التى ظلت سارية طوال سنوات مبارك الثلاثين، ولا تعتمد فيها أجهزة الأمن على القوة الباطشة وحدها، بل على أداء مهنى محترف، وعلى بناء أجهزة معلومات قادرة على اكتشاف خرائط الخطر الإرهابى الجديد، والمدعوم من قبل دول كبرى وصغرى وأجهزة مخابرات دولية، والمزود بسلاح متطور دخل إلى مصر عبر حدود سابت مفاصلها خلال ثلاث سنوات مضت، وبدون معلومات وخرائط كافية، فقد يطول عمر مواجهة الخطر الإرهابى بأكثر مما ينبغى، وقد تتحول حالة أجهزة الأمن المصرية المتضخمة إلى ما يشبه حركة الفيل الأعمى، وتجور على حريات الناس المسالمين بما يقوى شوكة الإرهاب، ولا يصيبه فى مقتل نهائى . نعم، لابد من الإقرار بأن ثمة مشكلة مزدوجة تعيق الثورة المتعثرة أصلا، فالإرهاب عدو لقضية الثورة، والقمع النظامى عدو آخر، لكن أحدا فى مصر لا يملك فرصة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لا العناصر المتنفذة فى السلطة الحالية تملك، ولا الجماعات التى تتخذ من الإرهاب دينا وأيديولوجيا، والسبب ظاهر، صحيح أن الاختيارات الجوهرية الحاكمة لم تتغير، وظلت على حالها الموروث عن حكم مبارك، وبثلاثية اختيارات ملعونة تعطى الأولوية للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، وعبر ثلاث سنوات شهدت تغييرا متسارعا فى صور الحاكمين، من مجلس طنطاوى وعنان إلى حكم الإخوان، وإلى السلطة الانتقالية الحالية، صحيح أن ما كان لا يزال يحكم، لكن المحكومين تغيروا، وهذا هو المكسب الرئيسى للثورة إلى الآن، والذى يجعل العودة مستحيلة إلى خطوط 24 يناير 2011، فقد تغير مزاج المصريين تماما، وصار المزاج العام ديناميكيا نافد الصبر بامتياز، واكتسب وعيا ثوريا ظاهرا صنعته تجربة الثورة العظمى، وأضافت إليه محنة الثورة ذاتها، فلم تمض الثورة فى رحلة الخط المستقيم، بل مضت فى خطوط ودوائر حلزونية أوحت بالتراجع، ثم دخلت فى حوارى المتاهة مع حكم الإخوان المنتخب العابر، وكانت تلك المحنة ضرورية لاكتساب الوعى المضاف، ومن قلب المحنة ولدت النعمة، فالحريات العامة وتداول السلطة شيء ضرورى فى سيرة الثورة، لكن اختصار الثورة فى ممارسات ديمقراطية صورية يبدو مخلا جدا فى السياق المصرى، فقد تكون الديمقراطية ردا مطلوبا على الاستبداد السياسى، لكن الاستبداد السياسى على طريقة مبارك كان عرضا لمرض اسمه الانحطاط التاريخى، ومعالجة العرض دون علاج المرض قد تودى بالمريض إلى حتفه، أو تعيده إلى نومة أهل الكهف، التى عاناها المصريون طوال أربعين سنة مضت من الانحطاط التاريخى، والخروج من سباق العصر، وتحول المجتمع إلى «غبار بشرى» حائر على أرصفة التسول، وقد أتت تجربة الثورة المتصلة فصولها ومعاركها كحالة إفاقة للمصريين من الغيبوبة التاريخية، فمع الثورة، استعاد المصريون حس الشعور بالألم، واستعادة الشعور بالألم شرط جوهرى لصناعة الأمل، والشعب الذى لا يتألم لايصنع الأمل، ولا يرى طريقا سالكا إليه، وقد خرج الشعب المصرى من قمقم الخوف الذى احتبس فيه طويلا، واقتحم حواجز الخوف مع ميلاد ثورته العظمى فى 25 يناير 2011، ولولا خروج 25 يناير ما كانت الموجة الثورية الأعظم فى 30 يونيو 2013، لولا البدء بخروج عشرات الآلاف ما خرجت عشرات الملايين، فلم يعد من شيء يخيف المصريين، بل صار الخوف نفسه هو الذى يخاف من المصريين، وليس اجتياز حواجز الخوف وحده هو الذى يميز مزاج المصريين الآن، بل الإفاقة على وعى ثورى تكتمل حلقاته، لا يعيقه قمع ولا وحشية عابرة إلى زوال أكيد، ولا يعيقه خداع الصور فى مشهد السياسة، فقد كان مشهد السياسة قسمة بين جماعة مبارك وجماعة الإخوان إلى يوم 24 يناير 2011، جماعة مبارك كانت فى الحكم، وجماعة الإخوان كانت خارجه، كانت الجماعتان متنافستين لا متناقضتين، وكانت قواعد اللعبة تتضمن هندسة لعيش مشترك، وجاءت الثورة من خارج الجماعتين، واللتان حاولتا وتحاولان التناوب على حكم البلد بعد الثورة، وكأنه كتب على الثورة أن تقوم فلا تحكم، وأن يكون الحكم تناوبا بين جماعتى الثورة المضادة، فقيادة الإخوان تتطفل على ميراث ثورة 25 يناير، وقد جاءت إلى الحكم بعدها، وتعتبر 30 يونيو انقلابا أزاحها عن الحكم، فيما تعتبر جماعة مبارك أن 25 يناير مؤامرة أزاحتها عن الحكم، وتتطفل على الموجة الثورية الأعظم فى 30 يونيو، وتريد أن تسترد العرش المفقود، وقد تبدو إيحاءات «القص واللصق» فى المشهد المصرى مؤدية إلى اقتناع بإمكانية عودة جماعة مبارك للحكم، وهو اقتناع زائف يتناسى ويتجاهل الشعب المصرى صاحب القضية كلها، والقادر بإذن الله على قول الكلمة الفاصلة، وبيان استحالة العودة لبؤس مبارك القرين لبؤس الإخوان، وإحلال اختيارات الثورة فى استعادة الاستقلال الوطنى والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية . وما نقوله عن استحالة العودة لخطوط 24 يناير لا يعنى تجاهل المخاطر، فثمة حرب حقيقية تخوضها جماعات المصالح والمليارات المسروقة من قوت وثروة الشعب المصرى، وعبر مراكز سيطرة متنفذة فى جهاز الدولة الفاسد، أو فى فضائيات التزوير الإعلامى، أو فى جماعات تتظاهر بالمعارضة، وتريد احتواء الثورة، أو ركوب قطار السيسى المندفع بتأييد شعبى كاسح إلى قصر الرئاسة، فهؤلاء يريدون تزوير صورة السيسى، وعلى أمل جعله فى صورة «مبارك معدل»، وهو ما يبدو صعب التحقق، ليس فقط لأن السيسى لايريد، وينفر من هؤلاء الفاسدين المتطفلين على حملته الرئاسية، وهم أخطر عليه من جماعات الإرهاب، وهم وجوه مكروهة تحظى بالنفور العام، واستهانوا بالشعب المصرى الذى يطلبون وده الآن، وحتى يقفزوا إلى كراسى البرلمان صونا لمصالحهم غير المشروعة، وهو ما لن يكتمل فيما نظن، وإذا حدث فلن يستقر، ولأسباب مفهومة، فهؤلاء من علامات مأساة الانحطاط التاريخى، والمأساة لا تعالج بالمأساة، ووعى المصريين الجديد لايقبل خداعا، ثم أن أزمة الوضع المصرى وصلت إلى مداها الخطر سياسيا واجتماعيا، وتأملوا من فضلكم موجة الإضرابات الاجتماعية المتزايدة، ثم تأملوا ضيق الأمريكيين بظاهرة السيسى كلها، وتربصهم بنوايا الاستقلال الوطنى فى المشهد المصرى، وكلها نذر تتواتر إلى صدام أكيد، تصبح معه العودة إلى 24 يناير مجرد خرافة تاريخ .