أكتب هذا المقال يوم الأربعاء 25 أبريل 2012 وفور اطلاعي علي الأخبار والمقالات الصباحية. قرأت من بين ما قرأت مقالاً للكاتب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في جريدة الأهرام بنفس تاريخ اليوم وبعنوان: الماضي يقطع الطريق علي المستقبل، يقارن فيه حجازي بين ما كتبه رفاعة رافع الطهطاوي رحمه الله تعالي في: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، وبين ما كتبه الامام حسن البنا رحمه الله تعالي، وقارن الكاتب بين الزمنين فقال بالنص: إن زمن الطهطاوي يختلف اختلافاً جوهرياً عن زمن حسن البنا، زمن الطهطاوي قفزة هائلة إلي الأمام خرجت به من العصور المملوكية العثمانية وأدخلته في العصور الحديثة، وكذلك زمن البنا قفزة أخري لكن في الاتجاه المعاكس عادت به، وأخشي أن تكون عادت بمصر كلها إلي عصور الظلام. وما علينا إلا أن نقرأ من جديد ما كان يقول الطهطاوي في القرن التاسع عشر وما أصبح يقوله البنا في القرن العشرين". انتهي النقل من المقال، وهو مقال طويل خلط فيه الكاتب خلطاً شائناً، ولم يكن منصفاً في مقاله حيث ذكر مثلاً كتاباً للطهطاوي من المفروض أنه اطلع عليه، ولم يذكر اسم رسالة واحدة من رسائل الامام البنا ولا قولاً واحداً له. فما قاله حجازي عن الطهطاوي صحيح تماماً ونشكره علي ذلك وكتابات الطهطاوي وفلسفته أعظم مما قاله الكاتب أو رآه عبد المعطي حجازي، ولكن ما قاله عن الامام البنا عارٍ تماماً علي الصحة، وكأن الكاتب صاحب ضميرين أو قلمين ضمير يري به الصواب وضمير يري به غير الصواب. وهنا وفي مثل هذه الحالات من الضروري أن نستحضر قول الشاعر: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم الطهطاوي قامة فكرية وطنية عظيمة، رأي بأم عينيه الفساد والاستبداد والتشرذم في الأمة، ورأي ما عليه الغرب من تقدم فتحسر علي قومه"يا حسرة علي العباد"، وعمل لنهضتها من كبوتها بالفكر الصائب والرؤية المستنيرة، وخلف تراثاً عظيماً لم يستفد منه للأسف الشديد أصحاب الهوي وأهل الاستبداد المادي والفكري، رحمه الله رحمة واسعة. قرأ حجازي ما كتبه الطهطاوي ففرح به وأشاد به، كما فرح به كل من قرأ الطهطاوي إلا قليلاً ممن لا يفقهون ما كتب. ولعل الكاتب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي لم يقرأ ما كتبه الامام البنا بالكامل حتي يحكم عليه حكماً صحيحاً بدلاً من ذلك الحكم الجائر المنافي للحقيقة. ولا أريد أن أقول إن كان قرأه فأخشي ألا يكون قد فهمه. أقول لم يقرأ حجازي تراث البنا الفكري ومشروعه العظيم لإنقاذ مصر والوطن العربي والأمة من وهدتها. وهنا لابد من التفريق بين ما كتبه الامام البنا المؤسس لحركة الإخوان المسلمين وبين ممارسات بعض تلاميذه أو أتباعه أو أعضاء في التنظيم الإخواني أو حتي قيادة الدعوة أو التنظيم، كما ينبغي أن نفرق بين ما كتبه الطهطاوي وبين ممارسات بعض من قرأوه أو فهموه. يقول الامام البنا في رسالة التعاليم، وهي رسالة صغيرة الحجم، كبيرة الفائدة، فيها متون رصينة جداً، لا أظن أنها تستعصي علي فهم الكاتب الشاعر حجازي لو كان قد قرأها. ويسرني أن أذكر الكاتب حجازي أن الامام البنا عندما كان يتحدث عن الوطنية فقد كان يسميها وطنية الحنين، وعندما كان يتحدث عن القومية كان يسميها قومية المجد والعزة والإباء. كان الامام البنا وطنياً وعروبياً وإسلامياً. والوحدة الاسلامية أكبر من الوحدة العربية كما يعلم الجميع.. يقول الامام البنا في رسالة التعاليم".. وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولي بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص-فيما اختلف فيه- بطعن أو تجريح، ونكلهم إلي نياتهم وقد أفضوا إلي ما قدموا". ما أجمل أن يؤكد الامام البنا علي مفهوم عظيم يتلخص في أن العصمة للأنبياء فقط أما غير الأنبياء فيؤخذ من كلامهم ويترك فلا تعصب ولا سيطرة ولا هيمنة. كما يقول: والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلي خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون علي الوصول إلي الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلي المراء المذموم والتعصب. وهو هنا يدعو إلي البعد عن الخصومة والكراهية ويدعو إلي التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف دون حقد أو كراهية. كما يقول:"وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع". وهنا يدعو الامام البنا إلي العمل والابتعاد عن المسائل التي لا ينبني عليها عمل، ويؤكد ضرورة الابتعاد عن التكلف والتركيز علي ما فيه فائدة لنا بعيداً عما كان يراه الأرأيتمية، أي أولئك الذين يتوهمون شيئاً لا يمكن أن يقع ويطلبون بشأنه الفتوي أو التعليق علي مسائل وهمية أو أي مسائل من قبيل الترف الفكري. كان الامام البنا عنها بعيداً ينأي بنفسه عن أن يضيع دقيقة واحدة فيما لا نفع فيه. ويقول:"والاسلام يحرر العقل، ويحث علي النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها". وهنا دعوة صحيحة إلي تحرير العقل بل والنظر في الكون، مما يستوجب إقامة المؤسسات التي تبحث في الفضاء، كما تبحث في الأرض، أي في كل الكون. ولو فهمنا ما قاله الامام البنا وطبقناه وفق ضوابطه العلمية لما سبقتنا أمريكا من خلال مؤسسة ناسا وغيرها من المؤسسات. وهنا يشير الامام البنا إلي السعة التي يدعونا إليها الإسلام إذ يرحب بالصالح النافع من كل شيء، ولكن التفاعل من جانب المسلمين يجب أن يكون إيجابياً حتي لا نكون عالة علي الحضارات الأخري، وهو الحرج الذي لا نستطيع دفعه عنا جميعاً. ويشمل هذا الحرج الاسلاميين وغيرهم من العلمانيين والليبراليين بل ويشمل الجميع. ويتحدث الامام البنا عن إصلاح النفس فيري أن ذلك لا يتم حتي يكتسب الفرد عشر صفات فيكون: قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادراً علي الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهداً لنفسه حريصاً علي وقته، منظماً في شئونه، نافعاً لغيره، ويري أن ذلك واجب كل أخ علي حدة. ما هو رأي الكاتب حجازي في أن يكون الوطن والأمة بهذه الصفات، وما يلزم لذلك. هل عاد بنا الامام البنا إلي الوراء؟ وهل عاد بنا إلي عهود الظلام؟ ويقول الامام البنا عن مهمة عزيزة جداً من واجبات الإخوان والوطنيين:"وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي- غير إسلامي- سياسي أو اقتصادي أو روحي. كان الامام البنا مهموماً بالوطن وبالأمة هماً كبيراً. كما يدعو الامام البنا إلي أستاذية العالم، أي إلي قيادة العالم ولو حضارياً حتي تستطيع قيادته قيادة حقيقية فعلية، ويقول في نهاية رسالة التعاليم موجهاً الحديث إلي كل أخ علي حدة: "فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالي والعابثين. وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غاياتك، كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة، وأنت منا ونحن منك، وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك، وإن تصدرت فينا المجالس وحملت أفخم الألقاب وظهرت بيننا بأكبر المظاهر، وسيحاسبك الله علي قعودك أشد الحساب، فاختر لنفسك ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق. هل قفز بنا الامام البنا قفزة في الاتجاه المعاكس لما قاله الطهطاوي أو غيره من المصلحين؟ لقد تعلمنا من القرآن الكريم كل القيم الانسانية العظيمة ومنها"ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوي" فالعدل مع الجميع فريضة حتي مع وجود الكراهية.