ان للعلاقات المصرية الامريكية تاريخ مليء بالشك والتخبط، فقد ظلت واشنطن تتطلع الى القاهرة وتهتم بأخبارها، منذ استقلال الولاياتالمتحدة عن بريطانيا عام 1776، وقد لعبت مصر دور في أولى حروب أمريكا خارج ارضها الا و هي الحرب البربرية الاولي (1801 – 1805) كما يطلق عليها الغرب و هي حملة عسكرية شنها الامريكان – في زمن الرئيس الثالث توماس جيفرسون – على إيالة طرابلس العثمانية ( ليبيا ) بغتة تأديب حكامها بسبب قرصنة سفن تجارية أمريكية. وقد سمح الحكام العثمانيين لمصر بأن تنفذ البحرية الامريكية انزالاً عسكرياً في الإسكندرية ثم التوجه براً الى ليبيا لاحتلالها، وذلك في ابريل 1805 قبل شهر واحد من ثورة المصريين وخلع الحاكم العثماني وتنصيب محمد على حاكماً لمصر، و قد انتهت الحرب باحتلال امريكا لمدينة درنة لبعض الوقت قبل ان تقبل طرابلس باتفاق ينهي القرصنة.
وحينما وقع الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 وبدء الاستيطان الصهيوني الفعلى لفلسطين في نفس العام، لم يصدر موقف رسمي من الحكومة الامريكية، ولكن ساسة وافراد شجعوا هذا الاحتلال وذاك الاستيطان، وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة 1919 التي دعت الى ارسال وفد مصري لمؤتمر الصلح بقيادة سعد زغلول لعرض القضية المصرية، فأن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذى ينصبه البعض محرراً للشعوب لم يعترض على المطلب البريطاني بتهميش الوفد المصري وعدم عرض القضية المصرية بل و اعترف بالحماية ( الاحتلال ) البريطاني لمصر عقب 24 ساعة من وصول الوفد المصري لفرنسا وادان محاولات "الشعب المصري للحصول على قسط آخر من الحكم الذاتي بالالتجاء الى العنف" ! ، وقد عاد زغلول من باريس كما ذهب.
وقد سبق وان زار الرئيس الأمريكي كيرميت روزفيلت مصر بداية القرن العشرين بعد ان غادر السلطة، ووبخ المصريون علناً على مطالبهم بالدستور والاستقلال والجلاء!
ولاحقاً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية التنافس الأمريكي السوفيتي على التركة الاستعمارية، وتخوف واشنطن من الزحف الشيوعي على القاهرة، تعاونوا اولاً مع الملك فاروق، ولاحقاً حينما وصل الرئيس جمال عبد الناصر للحكم انقسمت واشنطن بين فريقين الأول يرى التعاون مع تيار القومية العربية مقابل دحرهم للشيوعية و فريق آخر رأى ان القومية العربية جزء من الايدولوجية الشيوعية التي يجب على أمريكا محاربتها.
و قد استمر الشد والجذب بين اركان النظام الأمريكي في سنوات دوايت ايزنهاور وجون كيندي الذى كان اكثر ميلاً في التعاون مع عبد الناصر ولكن بعد اغتياله حسم الفريق المعارض للتعاون مع القوميين العرب المعركة في واشنطن وانتهت محاولات اصلاح العلاقات بين القاهرة وواشنطن وانحياز واشنطن الكامل لتل ابيب.
واتت نكسة يونيو 1967 بمشاركة الطيران الأمريكي والبريطاني في ضرب المطارات المصرية، ثم ردت مصر اعتبارها في حرب أكتوبر 1973، فما كان من أمريكا الا ان مدت جسر جوي لامداد إسرائيل بالسلاح الفوري، ثم شارك الطيران الأمريكي وبعض الفرق الخاصة الامريكية بالإضافة الى الأقمار الصناعية المتطورة مع إسرائيل ضد مصر، وصولاً الى أوامر أمريكية صريحة لتل ابيب بعدم الامتثال لوقف اطلاق النار لتعديل موقفها على ارض المعركة.
ظفرت مصر ب 15 % من ارض سيناء بالحرب، ولكن المفاجأة الاستخباراتية وأداء القوات المسلحة خاصة سلاح الطيران وخطة الخداع الاستراتيجي جعلت العالم يدرك ان الامة المصرية لازلت حافظة لحيويتها.
في هذا التوقيت كانت أمريكا تستعد لخوض معركة حاسمة من معارك الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة كانت سلسلة حروب بالوكالة، حيث من المهم في كل إقليم ان يكون لك اكبر قدر ممكن من الأصدقاء والا تترك لعدوك طرف يمكن ان يتخذه صديق.
وحينما وصل جيمي كارتر لسدة الحكم في أمريكا كان اكثر استعداداً لفكرة ان مصر يجب ان تصبح في المعسكر الأمريكي مهما كان الثمن، وان الترتيبات المقبلة – وقتذاك – للشرق الأوسط لن تتحمل الصراع العربي الإسرائيلي وانه يمكن ضم سوريا والعراق ايضاً، مع إعطاء حكم ذاتي للفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك مقابل اجلاء الاتحاد السوفيتي من الشرق الأوسط وتحديداً من القاهرةودمشق وبغداد.
وفى مقابل فك ارتباط القاهرة نهائياً بالمعسكر الشرقي والاتحاد السوفيتي، سوف تتلقى مصر مساعدات عسكرية واقتصادية سنوية ثابتة، بالإضافة الى تقارب مصري – امريكي استراتيجي، و تنسيق مصري غربي في مختلف قضايا المنطقة.
وفى الواقع ان مصر لم تصل لهذه المعادلة منتصف السبعينات بسبب العرض الأمريكي بقدر ما كان انتصار أكتوبر هو من وفر لمصر ان تتلقى عرضاً كهذا من قوى عظمي، وكانت رؤية الرئيس السادات ان الاتحاد السوفيتي الى زوال، وانه من الأفضل لمصر ان تحسب على الطرف المنتصر في الحرب الباردة، لانه لو حدث وانهيار الاتحاد السوفيتي ومصر محسوبة على موسكو، فأن ويلات الانهيار السوفيتي سوف تصيب القاهرة حتماً.
ورحل السادات عن علمنا دون ان يرى ويلات انهيار الاتحاد السوفيتي لا تشق الإمبراطورية السوفيتية فحسب، بل يصل تأثير الانهيار الى أوروبا الشرقية ، ثم البلقان وتقسيم يوغوسلافيا.
ومن اجل إتمام رؤية السادات، اطلق مبادرة السلام، وكان هزلياً ردود الأفعال البعثية والناصرية والاخوانية التي يعتنقها بعض الليبراليين والاشتراكيين حتى اليوم، ففي واقع الامر ان الف باء سياسة انه عقب كل حرب تقوم الأطراف المتصارعة بعمل مؤتمر لتوقيع اتفاق سياسي يتم عبره تسجيل ما كسبه وخسره كل طرف، ويطلق على هذا المؤتمر بروتوكولياً مؤتمر الصلح او مؤتمر السلام.
وبالتالي لم يكن ذهاب الرئيس السادات لمائدة التفاوض امراً جديداً، فقد جرى هذا الامر منذ فجر التاريخ، منذ زمن الملك رمسيس الثاني مع الحيثيين وصولاً لسعد زغلول في مؤتمر الصلح بباريس!، ومن يتخلف عن حضور تلك المؤتمرات يخسر ما انجزه في الحرب، تماماً كما خسرت سوريا البعثية حتى اليوم فرصة الظفر بالجولان عبر مائدة المفاوضات بعد ان خسرت ورقة حرب أكتوبر بالتخلف عن مؤتمر مينا هاوس في القاهرة.
استغلوا وحتى اليوم جهل الناس بعلوم السياسة، ثم رددوا بأن ما جرى اعتراف بإسرائيل، وفى الواقع ما جرى لم يكن رفض اعتراف بل حالة انكار نفسية ، اذ ان الكيان الذى مكث على الضفة الشرقية لقناة السويس وكان على بعد اربع ساعات من العاصمة المصرية، او على بعض بضعة كيلومترات من العاصمة دمشق يوم رفض حافظ الأسد وقف اطلاق النار في أكتوبر 1973، لم يعد بحاجة بكل اسف الى اعترافنا، فالعالم كله اعترف به قوة إقليمية استطاعت هزيمة جيوش المنطقة جمعاء اكثر من مرة.
والاهم من ذلك ان جميع الدول العربية التي خاضت حرب فلسطين 1948 قد عقدت اتفاقيات الهدنة 1949، والتي تعتبر اتفاقيات سلام بلغة السياسة بين الأطراف العربية وإسرائيل، فالاعتراف الضمني قد تم، و اتفاقيات وقف اطلاق النار التي تعتبر اتفاقيات سلام قد تم، و الجلوس المباشر قد تم، بل و تم ما هو اكثر ثقيلاً من ذلك فقد تقابل خلف الستار العديد من الحكام العرب مع مسؤولين اسرائيلين، مثل الملك المغربي الحسن الثاني والرئيس السوري حسني الزعيم وملك الأردن عبد الله الأول والحسين بن طلال وغيرهم.
اما عن بنود الاتفاقية المصرية الإسرائيلية فلا بنود سرية، وقد حصلت مصر على 85 % من سيناء بدون حرب، مقابل شقة ايجار في عمارة سكنية مطلة على حديقة الحيوان، وكافة البنود الخاصة بالانتشار العسكري في سيناء كان يمكن وقت الجد كسرها وهو ما تم منذ 28 يناير 2011 لليوم.
اما من تخلف عن مينا هاوس ومؤتمرات السبعينات، فقد هرول عقب انهيار الاتحاد السوفيتي من اجل الظفر ببقايا ما كان سيعرض عليه في هذه القمة، الرئيس السورى حافظ الأسد ارسل وزير خارجيته فاروق الشرع لمقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي في قمة علنية بواشنطن و لم تفضى الى شيء، بعد ان عزم عن اطلاق رصاصة واحدة لاسترداد الجولان منذ عام 1973 حتى اليوم، و اقتنع شعبه ان استرداد الجولان يبدأ باحتلال لبنان، ثم دعم حركة حماس وشن الحملات الصحفية ضد مصر، هذا كان مفهوم استرداد الجولان في الرؤية البعثية.
وياسر عرفات الذى رأى أيضا ان الطريق الى فلسطين يبدأ باحداث أيلول في الأردن، ولما فشل في تفجير الأردن من الداخل لعب الامر ذاته في ثنايا الحرب الاهلية في لبنان، وبعد ان افلس وانهار الاتحاد السوفيتي هرول تحت ستار الظلام الى أوسلو ليظفر باتفاق الحكم الذاتي الذى كان يمكن ان يناله عام 1977، ولكنه لم يظفر به الا عام 1995، وللمفارقة أيضا في القاهرة حينما وقعت اتفاقية غزة اريحا، نفس ذات الورقة التي وضعت امام كراسي وفد منظمة التحرير الفلسطينية، كل ما جرى هو إخراجها من ادراج مكاتب الدولة المصرية.
لم يكن مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي موافقاً على ما جرى، وقد ضغطت أمريكا على بيجن، ورد بيجن والمحافظين الجدد ولوبي الصهيونية وإسرائيل في واشنطن بانه اتم ولايته الأولى والأخيرة بصعوبة وخسر في نوفمبر 1980 الانتخابات الرئاسية امام رونالد ريجان.
وعلى ضوء الهزيمة الدبلوماسية الإسرائيلية، اذ لم تحصد القاهرة ارضها المحتلة فحسب، بل حجزت لنفسها دور في المنظومة الامريكية، علماً بأن إسرائيل تريد والى اليوم ان تكون الصديق الأول والأخير لامريكا في المنطقة، و اى دور مصري في المعادلة الامريكية هو دور مرفوض، لذا بدات خطة لتشويه ما جرى ، سواء عبر كتابات صحفية او مؤلفات هنرى كسينجر، وكان مؤلماً ان أقلام مخضرمة بثقل الراحل محمد حسنين هيكل نقلت من كتب كسينجر دون النظر الى ان ما جرى هو الف باء السياسة عبر العصور.
والى اليوم تقف الصهيونية خلف تشويه الدور المصري او التقارب بين أمريكا ومصر، وكافة الكتابات التي تساق في هذا الملف منذ سنوات السادات ومبارك لليوم هي ديباجات صهيونية باقلام مصرية لا اكثر و لا اقل، مهما لعبت إسرائيل لعبة توزيع الأدوار وأبدت سعادتها بهذا الدور.
وعقب انتهاء الحرب الباردة، كان يمكن لامريكا ان تبدأ في إعادة جدولة المعادلات الامريكية في الشرق الأوسط، خصوصا دور القاهرة، ولكن العالم انشغل في مرحلة انتقالية اثناء سنوات بيل كلنتون، في تصفية يوغوسلافيا ورؤيته ان يتم حل النزاع في الشرق الأوسط سلمياً قبل ان تبدأ أمريكا العمليات العسكرية في الدول الشرقية.
ومع مجئ إدارة بوش الابن، بدأت أمريكا تعيد تقييم العلاقة مع القاهرة، فمن جهة زمن التهديد بالذهاب الى الاتحاد السوفيتي قد انتهي، ومن جهة اخري يرى المحافظين الجدد ان الأولوية لإسرائيل في المنطقة، ومن جهة ثالثة كانت القاهرة تقع في قلب الفوضى الخلاقة التي تريدها أمريكا.
ورغم معرفة القاهرة لجزء كبير من تفاصيل الموجة الامريكية التي استكملها أوباما في سنوات الربيع العربي، الا ان أداء القاهرة كان دفاعياً، واتسم بالضعف، ولعل سبب ذلك هو ضعف الجبهة الداخلية، والفواتير السياسية المكلفة للدولة بسبب صعود مشروع التوريث والسؤال الشعبي المستمر عن اسم الرئيس المقبل وهو تساءل منطقى ليس لاسباب دستورية فحسب ولكن لان الرئيس مبارك كان قد تجاوز الثمانون عاماً.
وحينما وقعت الواقعة في يناير 2011، بدا واضحاً ان واشنطن ترحب بما يجرى في القاهرة، حتى لو اشارت بعض التقارير ان إدارة أوباما لم تتوقع الانفجار الان، او انها لم تسيطر على بعضاً من فصوله، او ان عوامل خارجية غير أمريكية وداخلية مصرية تشاركت في الانفجار، ولكن في نهاية المطاف، لم تكن واشنطن في صف القاهرة يومذاك.
وزاد الامر تعقيداً الضغوط الامريكية خلال المرحلة الانتقالية الاولي، وقد اصبح واضحاً ان هنالك تملص امريكي واضح من العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، او نقلها من الدولة المصرية الى تنظيمات إرهابية مصرية.
وفى واقع الامر ان أمريكا كانت تريد من فوضى الربيع العربي ان تصنع من الشرق الأوسط اكبر قاعدة عسكرية للارهاب في العالم لتنفجر في وجه روسيا والصين وحتى الإسلام السياسي بشقه السني ممثلا في الاخوان وداعش وشقه الشيعي ممثلا في ايران، ولم تكن مصر هي الثمن فحسب بل كان هنالك استعداد للتضحية بكافة دول الخليج العربي في هذا الاطار.
ولعل هذا المخطط هو سبب تدخل روسيا عسكريا في سوريا، وكانت فكرة بوتين انه من الأفضل للكرملين ان يحارب في محيط دمشق وحلب بدلاً من ان يحارب في ضواحي موسكو وسان بطرسبرج.
ثم أتت الضغوط الامريكية لتسليم الحكم لتنظيم الاخوان، لتدرك الدولة المصرية ان المعالجات المصرية لم تعد تجدي، وانه يجب نقل مستوي التعامل من المهادنة الى التحدي الصريح، وذلك عشية ثورة 30 يونيو 2013.