أبناء سيناء: الإرهاب أوقف الحياة وشهدائنا مع الشرطة والجيش طهروها بدمائهم    4 أيام متواصلة.. موعد إجازة شم النسيم وعيد العمال للقطاعين العام والخاص والبنوك    بعد ارتفاعها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2024 وغرامات التأخير    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 3 مايو 2024 في البنوك بعد تثبيت سعر الفائدة الأمريكي    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    إسرائيل تؤكد مقتل أحد الرهائن المحتجزين في غزة    فلسطين.. وصول إصابات إلى مستشفى الكويت جراء استهداف الاحتلال منزل بحي تل السلطان    إبراهيم سعيد يهاجم عبد الله السعيد: نسي الكورة ووجوده زي عدمه في الزمالك    أحمد شوبير منفعلا: «اللي بيحصل مع الأهلي شيء عجيب ومريب»    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    جناح ضيف الشرف يناقش إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية بمعرض أبو ظبي    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    فريق علمي يعيد إحياء وجه ورأس امرأة ماتت منذ 75 ألف سنة (صور)    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    جمال علام يكشف حقيقة الخلافات مع علاء نبيل    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    إسرائيل: تغييرات في قيادات الجيش.. ورئيس جديد للاستخبارات العسكرية    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    موعد جنازة «عروس كفر الشيخ» ضحية انقلاب سيارة زفافها في البحيرة    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    ليفركوزن يتفوق على روما ويضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    طبيب الزمالك: شلبي والزناري لن يلحقا بذهاب نهائي الكونفدرالية    رسائل تهنئة شم النسيم 2024    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    حسام موافي يكشف سبب الهجوم عليه: أنا حزين    بعد تصدره التريند.. حسام موافي يعلن اسم الشخص الذي يقبل يده دائما    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    سفير الكويت بالقاهرة: رؤانا متطابقة مع مصر تجاه الأزمات والأحداث الإقليمية والدولية    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الإنارة جنوب مدينة غزة    د.حماد عبدالله يكتب: حلمنا... قانون عادل للاستشارات الهندسية    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    بسبب ماس كهربائي.. إخماد حريق في سيارة ميكروباص ب بني سويف (صور)    مباراة مثيرة|رد فعل خالد الغندور بعد خسارة الأهلى كأس مصر لكرة السلة    فوز مثير لفيورنتينا على كلوب بروج في نصف نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    تركيا تفرض حظرًا تجاريًا على إسرائيل وتعلن وقف حركة الصادرات والواردات    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    «يا خفي اللطف ادركني بلطفك الخفي».. دعاء يوم الجمعة لفك الكرب وتيسير الأمور    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    أستاذ بالأزهر يعلق على صورة الدكتور حسام موافي: تصرف غريب وهذه هي الحقيقة    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع يحاكم الأنثى على بغائها ويتسامح مع الرجل

- العاهرة الأرستقراطية صاحبة الوجه الملائكى حلت محل البغىّ ذات الفم المنتفخ والمساحيق الصارخة
- ثار المصريون ضد تنظيم البغاء فى عام 1925 فتم إلغاؤه نهائيا عام 1949
- البغى تكره أباها.. أما جسدها فهو مسلوب الإرادة.. فاقد الإحساس.. منتهك
- لم يكن النشاط الجنسى للأنسان فى فجر انسانيته على هذا القدر من الصرامة ولا هذا المستوى من التنظيم
- الفعل البغائى هو فى مجملة عدوان على الآخر وبالتحديد الأب أو بدائله
- فيما يخص المهنة التى يفضلنها نجد أن كلهن يفضلن مهن التمثيل أو المسرح
- فى تصورهن الحبيب دائماً خائن وقاس وغدار وتارك لهن فى أصعب المواقف
- أصبحت الدعارة نظاما متبعا فى المبيعات الكبيرة فى عالم الشركات
- جسد البغى ليس ملكا لها وإنما مجرد وسيلة لكسب المال
- الإعلانات الفاضحة، والفيديو كليب، والأغانى التى لا تحمل إلا الرسائل الجنسية هى عين البغاء
- فتيات أنيقات من طبقات اجتماعية راقية يصطدن زبائنهن بوسائل تكنولوجية متقدمة
- افتقاد البغىّ للحب خلال الطفولة، يلعب دورا كبيراً فى انحرافها فيما بعد
- يجب أن نكف عن تأنيث مهنة البغاء، فمن غير المنطقى أن يعاقب طرف واحد على جريمة اقترفها أشخاص




كانت البداية حين قابلتهن فى مؤسسة الدفاع الاجتماعى بمنطقة عين شمس، وكل منا حذر من الآخر، ولكنى احترمت صمتهن المُحيِّر أحياناً، وثرثرتهن الساخرة و«الخارجة» أحياناً أخرى، ومهارتهن فى الكذب علىَّ كثيراً، أقمتُ معهن علاقة مختلفة وقوية، من خلالها تعرفت على بناء شخصيتهن، واستكشاف تجارب إنسانية مليئة بالخوف، بالرغبة، بالحزن، بالندم، بالأمل فى المستقبل. لم يشغلنى أن أصدر عليهن حُكماً أخلاقياً. كنتُ ألمح فيهن بين الحين والآخر بقايا براءة الأطفال، براءة انهزمت أمام الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والأسرية القاسية.

فى دراسة هى الأولى مصرياً وعربياً (حتى تاريخ مناقشتها) 2007 التى يتم إجراؤها على قاصرات، التقيتُ ب (15 فتاة) تتراوح أعمارهن بين 13و17 سنة، على مدار شهرين تقريباً، وكلهن ممن صدرت أحكام قضائية بشأنهن. وكنت أود أن أدرس بغاء الذكور أيضاً لكننى لم أتمكن وقتها من الحصول على عينة منهم، حيث إن القانون لا يطبق على الذكر البغى وإنما على الأنثى وهذا من سمات التوحش المجتمعى والسقوط الأخلاقى على الرغم من أن مصطلح البغاء prostitution يقصد به أساساً بغاء الذكور أو الإناث، بينما الدعارة prostitution feminine هى بغاء الإناث، والفجور prostitution masculine هو بغاء الذكور.

إن مفهوم البغاء فى العصر الحالى، اختلف كثيراً عن المفهوم التقليدى، فلم تَعُد البغىُّ بالصورة القديمة التى كانت عليها، كما تناولتها الوسائط الإعلامية المختلفة، فقد طرأ تغيير ملحوظ على مهنة البغاء، كما طرأ على جوانب كثيرة من الحياة، لم نَعُد نلاحظ الصورة القديمة للبغىِّ إلا فى «البغايا الغلابة»، اللاتى لا يمتلكن إلا وسائل ضعيفة لاصطياد «الزبون» نظراً لانخفاض المستوى التعليمى والثقافى، والاجتماعى، والمادى لديهن؛ يتسكعن فى الشوارع، أو يقفن أمام دور السينما، أو يذهبن للملاهى الرخيصة، بحثاً عن أشخاص يمارسون معهن الجنس مقابل مبلغٍ زهيد، أو هدية، أو ملابس، أو مشاعر وهمية بالحب، أو حتى وجبة شهية، يكون ذلك أقصى أحلامهن، إلا إذا وقعن فى أيدى القوَّادات، والقوَّادين، فربما يتغير الحال قليلاً. وهذه الفئة من البغايا هى التى يسهُل الإمساك بهن، وتطبيق القانون الجائر عليهن، ويدفعن وحدهن فاتورة انخفاض مستوى المعيشة، وتخلى الوالدين عنهن ودفعهن للبغاء غالباً، ليخرج القوَّاد، سواء كان من الأسرة أم خارجها، سالماً، ويُفرَج دائماً عن الشريك.

أما بغايا العصر الحديث، فإننى أرى أنهن ينحصرن فى فئتين: الفئة الأولى، فتيات أنيقات من طبقات اجتماعية مرتفعة غالباً، يملكن من الوسائل والأدوات ما يجعلهن يمارسن البغاء دون خوفٍ كبير من السقوط فى يد القانون، فلا يعملن غالباً بمفردهن، وإنما ضمن شبكة منظمة وقوية، يقودها غالباً «ناس كبيرة»، تضمن للعاملين بها حقوقاً كثيرة، ويستخدمن الوسائل التكنولوجية الحديثة فى اصطياد زبائنهن، مما يجعلهن لا يقعن بسهولة وإن كان يحدث ذلك أحياناً، كما أنهن يعملن غالباً فى مهن أخرى يتخذنها كستار يحول دون انكشاف أمرهن لمدة طويلة. وهؤلاء البغايا، أتصور أنهن امتداد لفئة «البغايا الغلابة» أو المتسكعات، مع تَحسُن أو ارتفاع فى المستوى الاقتصادى، والاجتماعى، ويمكن أن نطلق عليهن «البغايا الأرستقراطيات».

وأذكر مفارقة طريفة حدثت أثناء وجودى بالمؤسسة لمقابلة الفتيات، جاءت فتاة بملابس متحررة، ولكنها مهندمة، تعكس مستوى مادياً مرتفعاً، وعلمت أنها قد قُبض عليها فى قضية آداب، تعاملت مع المكان بتعالٍ شديد، وثقة كبيرة بأنها لن تظل هنا وقتاً طويلاً، وبالفعل حين ذهبت للمؤسسة فى اليوم التالى لم أجدها، ومن خلال حديث دار بينى وبين إحدى الأخصائيات الاجتماعيات، قالت لى: «اللى له ضهر مينضربش على بطنه، إنتى فاكرة إن اللى زى دى تقعد هنا كتير؟ لها ناس تخرجها من النار».

أما الفئة الثانية، فهى فى تصورى تختلف من حيث ترويجها لمفاهيم جديدة عن البغاء، ساعدها على ذلك، حدوث تشوه كبير فى المفاهيم الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وتراجُع دور المؤسسات المختلفة. الأمر الذى أدى فى نهاية المطاف إلى الاعتقاد أن الدعارة هى ممارسة الجنس مقابل أجر وبدون تمييز (وهذا ما ينُص عليه القانون)، وبالتالى غضُّ البصر عن سلوكيات، ممارسات، ومهن أخرى، هى عينُ البغاء، بداية من مهن كثيرة أصبحت تعتمد بالدرجة الأولى على عرض الجسد مقابل المال، أو الحصول على وظيفة أرقى، أو وضع اجتماعى مميز، يدخل ضمن ذلك الإعلانات الفاضحة، والفيديو كليب، والأغانى غير الهادفة، والتى لا تحمل إلا الرسائل الجنسية ضمنًا أو مباشرة. ونرى مهناً أخرى يدخل ضمن آلياتها الترفيه عن العملاء، والتنازل عن بعض القيم التى أصبح يُنظر إليها باعتبارها قيماً رجعية تعوق التقدم والحصول على فرص كبيرة.

وبوجه عام، أصبح المناخ السائد مليئاً بالقيم «البغائية»، ولا يجد كثير من الأشخاص أزمة أخلاقية حقيقية فى أن يبيعوا أنفسهم، ليس فقط بالمعنى الجسدى المحدود، وإنما بالمعنى الأشمل للكلمة، ولا أقول إن ذلك لم يكن موجوداً من قبل، وإنما كان هناك نوعُ من التوازن لا يجعل الأمر فجاً كما هو الآن.

يرى هنريكس Henriques أن البغاء يشمل كل ألوان النشاط الجنسى المشترى بالمال ووفقا لذلك، فالبغاء يتألف من أى أفعال جنسية يعتاد ممارستها من قبل أفراد من الجنس نفسه أو من جنس مخالف، لهدف غير إنسانى، مضافاً إلى ذلك الأفعال الجنسية التى يعتاد ممارستها بقصد الكسب والربح والتى تؤدى بواسطة أشخاص بمفردهم أو مع حيوانات أو أشياء وتقدم للمشاهد كشكل للإشباع الجنسى (أفلام الجنس) يمكن اعتبارها أفعالاً بغائية، وقد يكون هناك تجاوب انفعالى أو قد يكون غير موجود، ونلاحظ أن هذا التعريف يضم أشكالاً أخرى من الانحراف الجنسى مثل الجنسية المثلية، مضاجعة الحيوانات، أفلام الجنس، وغيرها بالإضافة إلى أنه لا ينفى وجود التجاوب الانفعالى الذى يرفضه الكثير من الذين يتطرقون لتعريف البغاء مثل إبراهام فلكسنر الذى يعرف البغاء بأنه «الاتصال الجنسى الموسوم بالمقايضة وعدم التمييز وعدم التجاوب الانفعالى».

وفى دراستى، وحتى أتجنب الوقوع فى خلط المفاهيم، أخدت بالتعريف القانونى للبغاء والذى يتضمن طبقا لنص المادة 9/3 من القانون أركانا ثلاثة: ممارسة البغاء، على وجه الاعتياد (فلا يعاقب القانون على فعل البغاء وإنما على الاعتياد عليه)، القصد الجنائى (أى هبة الشخص نفسه للغير عن إرادة، وعلم بانعدام العلاقة الشرعية أو العاطفية بينه وبين هذا الغير). فإن هذا التعريف القانونى يعتمد على أن:

البغاء فعل تؤديه البغىّ للعميل بغرض إمتاعه جنسياً وجنسياً فقط (وإن لم يخل الأمر من وجدان كثيراً ما يتصل بالعميل) وبطريق مباشر وذلك فى مقابل مادى.

تؤدى البغىُّ فعلها غير مميزة بين الأشخاص ما دام شرط العطاء المادى متوفرا.

تقوم البغىّ بأداء دورها البغائى بواسطة جسدها؛ حيث لا يعد عرض الجسم لإثارة الرغبة فعلاً بغائياً، ينفرد الفعل البغائى بهذه الجوانب الثلاثة، مما يبرز لنا اختلافه عن الفعل الجنسى السوى مما يمكننا من تعميق أكبر لسيكولوجية الجنس فيه.
تاريخ البغاء
لم يكن النشاط الجنسى للإنسان فى فجر إنسانيته على هذا القدر من الصرامة ولا هذا المستوى من التنظيم، ولا هذا الشكل من الدقة. لقد احتاج الإنسان إلى آلاف السنين لينتقل من حيوانيته إلى بشريته، ومن وحشيته إلى إنسانيته، وصاحب انتقاله هذا، ارتقاء فى نشاطه الجنسى، وبدخول الإنسان عصر تطوره الثانى، عصر البربرية، قد حدث تطور مهم فى حياته الجنسية، ألا وهو تكوين أو شكل من أشكال العائلة، وتطبيق أول مبادئ تحدد العلاقات الجنسية.

وقد ارتبط بظهور التكوينات الاجتماعية البشرية الأولى، ظهور الدين كأحد قوى الضبط الاجتماعى، وكأحد نتائج الضبط الاجتماعى أيضاً. ففى العصر الحجرى الحديث وجد نظامان اجتماعيان أساسيان، هما : النظام الأمومىMatriarchal وكان يشيع فى المناطق الصالحة للإنتاج الزراعى البدائى، والنظام الأبوى Patriarchal وكان يشيع فى مناطق الرعى. وامتزج النظامان لظروف طبيعية مرت بالأرض فى تلك الفترة وأدت إلى هجرات جماعية كبيرة وبذا ظهر أول نوع من التقديس للمرأة الإلهة، والرجل الإله. وقوام هذه الديانات هو عملية الإخصاب، وما ارتبط بها من معتقدات خرافية، جعلتها منحة من الإله للمرأة الخصبة. وبتطور هذه المعتقدات، أصبح فض بكارة العذارى احتفالا مقدساً، تمنح الفتاة فيه نفسها لمن منحه الإله قوة الإخصاب وقدسية الجنس، ولم تكن تحصل الفتاة على اكتمال أنوثتها إلا بمنحها نفسها لمثل هذا الشخص، ويحق لها الزواج بعد ذلك.

وتشير بقايا تراث هذه الفترة، وعادات المجتمعات البدائية المعاصرة، إلى أن إزالة البكارة يختلف عن أول جماع تباشره الفتاة، فإزالة البكارة جزء من تأهيل المرأة للزواج، ويبَاشر بأداة وبواسطة شخص مقدس؛ حيث يكون الجماع الأول، أيضاً جزءاً مكملاً ومنفصلاً فى الوقت نفسه من هذا الاحتفال.

وعلى ذلك لم يكن الأساس فى هبة النساء أنفسهن لرجال غرباء هو شيوع حالة من الفجور أو الظواهر الجنسية الحيوانية أو هو ملكية الرجال للنساء، وإنما كان الأساس هو فى تلك العلاقة التى يصورها هؤلاء بين الكائن البشرى والقوة الإلهية المخصبة والتى اعتقدوا فيها وبنوا عليها طقوسهم المقدسة. ولا يُعرفُ تماماً للآن سرُّ هذا التقديس الذى أصبغوه على إزالة البكارة، فهل كان الرجل يمثل الإله والمرأة تمثل الإلهة، وعلى ذلك فاتصالهما معا يمثل اتحاداً إلهياً بين كائنين خالدين لا يموتان؟ وعموما فقد ظل هذا التقديس قائما حتى بعد قيام نظام الكهنة، فأصبح الكاهن يمثل الإله، وحلت البغىّ المقدسة محل المرأة التى تُزال بكارتها وكذلك تولدت من هذه المعتقدات عبادة الأعضاء التناسلية، ففكرة تمثيل الإله بعضو ذكرى وتمثيل الإلهة بعضو أنثوى، لم تكن وليدة البدائية الأولى للإنسان، حيث لم يكن قد فكر هذا الإنسان بعد فى وجود القوة الخلاقة. وتطورت طقوس إزالة البكارة شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت فى كثير من الجهات تتم داخل المعبد، وقد أضحت القوة المقدسة مستمدة من المكان، لا من الشخص مزيل البكارة. وفى بعض الأحيان كان الرجل لا يلجأ إلى الوقاع الجنسى لتقديس المرأة، بل يؤدى ذلك بطريقة رمزية كأن يضربها بيده أو بأداة مقدسة.

إن سومر ذات الحضارة التى تعتبر من أقدم حضارات العالم كان يلحق بهياكلها عدد من النساء، منهن خادمات، ومنهن سرارى للآلهة أو لممثليهم الذين يقومون مقامهم على الأرض ولم تكن الفتاة السومرية ترى شيئاً من العار فى أن تخدُمَ الهياكل وتسرِّى عنهم، وكان أبوها يفتخر بأن تهب جمالها ومفاتنها لتخفيف ما يعترى حياة الكهنة المقدسة من ملل وسآمة، وكان يحتفل بإدخالها هذه الخدمة المقدسة، وكانت عقائد البابليين تصور لهم أن الآلهة تذهب ليلاً إلى النساء المؤمنات فى فراشهن لتستولدهن أبناء وقد استمر البغاء المقدس فى بابل حتى القرن الرابع قبل الميلاد إذ أمر بإلغائه الإمبراطور قسطنطين سنة 325 ق. م وعرفت كلدانيا وسوريا وفينيقيا هذا النوع من البغاء المقدس، وكانت الآلهة عشتروت هى آلهة الخصب أو الأم الإله، وكانت البغايا هن خادماتها، وكن يشتركن فى الحفلات التى تقام لإخصاب الكائنات والأرض وكان يطلق عليهن Kadishtu أى المقدسات. وكان البغاء المقدس لدى الليديين ثم لدى الفرس تمارسه النساء فى معبد الإلهة Mithra.

وفى قبرص كانت المعابد مفتوحة لعبادة فينوسVenus تبلغ العشرين معبدا، بلغت الدعارة فيها ما لم تبلغه فى مكان آخر، ويقول هيرودت: إن كل امرأة فى قبرص كان عليها أن تمارس الدعارة بتقديم نفسها لغرباء فى مذبح المعبد قبل زواجها.

وفى الهند يبدو التقارب بين الدين والجنس أشدُّ وضوحاً، حسبما ورد فى الملاحم والنصوص الهندية الكلاسيكية، إذ اعتبرت أن العلاقات الجنسية، خارج نطاق الرباط الزوجى، فى ما يخص الرجال طبعاً، أمراً مقبولاً بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الحياة. فقد كانت ثمة محظيات من منزلة رفيعة، مكرسات للإشباع الجنسى للرجل، وكانت الفتيات بمنزلة الهيتيرى عند اليونان، وفتيات الغيشا لدى اليابانيين. كن على ثقافة عالية، يتلقين دروساً فى فنون الإثارة الشهوانية حتى يصبحن مؤهلات لخدمة زوار المعبد لقاء أجر، لأن واجباتهن كانت تشتمل على التمثيل، الخياطة، تنسيق الأزهار، وسواها من الفنون المنزلية، إضافة إلى الغناء والرقص الذى غالباً ما كان يُنظر إليه بوصفه عملاً لا أخلاقياً، إلى أن ساهمت الإصلاحات الحديثة فى نزع هذه الصفة عنه، وقد كان لزاماً على الدولة أن تدفع أجوراً لمعلمى البغايا.

وعرفت اليونان القديمة ثلاثة أنواع من البغايا، كان لكل منها مجاله وحقوقه ومستواه الذى يعيش فيه، فطبقة الديكترياد كانت أحط طبقات البغايا، وكن يقمن غالباً فى بيوت البغاء التى أنشأها سولون وأخضعها لنظام خاص، وطبقة الهيتيرا، وكانت أرقى طبقات البغايا، وطبقة الأوليتريد، أى العازفات وكن يشبهن فنانات الأوبرا المشهورات فى عصرنا الحاضر. وانتشرت فى روما أنواع الفسق والفجور بدرجة لم تعرفها غيرها من المدن القديمة، فكان بين العبيد فى بيوت الأغنياء مخنثون لإرضاء شهوات الرجال، وخصيان لإرضاء شهوات نسائهم ولم تكن الحمامات، ودور السيرك، وقاعات الولائم إلا بيوتا للبغاء، وانتشر أيضاً بغاء الذكور انتشاراً مريعاً، وعرف المجتمع أنواعاً لا تحصى من البغايا، بل كان من هؤلاء البغايا زوجات وبنات للأباطرة الرومانيين.

وفى الجزائر تم رصد الظاهرة منذ القرن السادس عشر، حيث «كان القاضى المسمى مزوار هو الذى يقوم بعملية التسجيل من خلال إثبات أسماء البغايا العموميات وجنسياتهن. وكان دائماً مغربيا هو الذى يشغل هذا المنصب الذى وإن كان يجلب على صاحبه أموالا طائلة فإنه يعد من أبشع المهن، ذلك أن هذا المغربى نفسه كان يقوم أيضاً بوظيفة الجلاد، ومن ثم يشنق ويخنق أو يغرق المجرمين من الجنسين، ويُعد دمج الوظيفتين أمراً دالاً، إذ يصبح هذا الشخص حامياً للبغايا، وفى الوقت نفسه يمكنه أن يشنقهن فى أى لحظة بمنحهن الوضع الاعتبارى للزانيات، وبالرغم من أن الزنا فى الفقه الشرعى أمر يصعب غالباً تبيُّنه فإن هذا الجلاد يفسح لنفسه المجال لمزاولة كل أشكال القهر والتعسف على البغايا.

ويبدو أن البغاء كان على نطاق ضيق فى مصر القديمة، وكان من العادات المتبعة أن ُتختار أجمل بنات الأسر الشريفة فى طيبة وتنذر لآمون، فإذا أضحت لكبر سنها عاجزة عن إرضاء الإله، أُخرجت من خدمته بمظاهر التشريف والتعظيم وتزوجت ولقيت الترحيب والإجلال فى أرقى الأوساط. وكانت البغايا المقدسات يتألفن من طبقة من الكاهنات يُطلق عليهن «حريم الإله»، أو حريم آمون وكان هؤلاء يُقسْمَّن إلى طوائف ترأس كل منها «رئيسة الحريم».

وقد ظل البغاء المقدس موجودا فى مصر حتى عهد الرومان؛ حيث كانت المعابد تشتمل على طائفة من الأرِقَّاء الذكور والإناث، يعملون ليجلبوا لهذه المعابد دخلها، وينفرد النساء منهم باحتراف الدعارة، وذلك كسبا للثواب أو تكفيرا عن ذنوب الحياة الدنيا، وكانت هذه موردا رسميا معترفا به فى المعابد.

وقد انتشر فى أوروبا فى العصور الوسطى حق السيد فى إزالة بكارة الفتيات فى إقطاعيته ليلة زفافهن، وقد ورث السيد هذا الحق عن ملوك وأمراء وحكام هذه العصور. وظل كثير من العادات القديمة موجودا فى الشعوب البدائية، ففى جزيرة سامو فى المحيط الهادى تزال بكارة المرأة بسبابة اليد اليمنى أو بعصا، وفى الفلبين تزيل البكارة إحدى العجائز (وهذا شبيه بما يحدث فى بعض القرى فى بلادنا)، ولدى بعض الهنود يستعمل الحجر أو العاج أو قضيب من الخشب فى إزالتها. وكان بعض قبائل الأستراليين يحملون عذاراهم ليواقعهن عدد من الشبان المنتقين قبل أن يقدموهن لأزواجهن. وهكذا تبدو أهمية الدور الذى يلعبه الرجل الغريب فى إزالة البكارة، ولم يقم الزوج بهذا الدور إلا نادراً، بل إن بعض القبائل كانت تعتبر إزالة الأقرباء للبكارة فى مرتبة زنا المحارم، باستثناء شعوب قليلة، حيث يقوم الأب نفسه بإزالة البكارة.

واشتهرت فى مصر القديمة أسماء بعض البغايا، وعرفت بهن بعض المدن وأشارت التوراة إلى وجود البغايا اللاتى يغطين وجوههن بالبراقع ويقبعن فى الطرقات لاصطياد الرجال وذلك قبل ظهور موسى عليه السلام بأربعة قرون تقريباً وإلى استمرار بيوت البغاء بعد ذلك فى أرض إسرائيل. وفى الجاهلية، كانت البغايا يقمن فى خيام أو فى بيوت يرفعن عليها أعلاما حمراء، وكذلك يطلق عليهن ذوات الرايات، وكن يؤدين الضرائب المفروضة عليهن، ويتخذن بيوتهن بالطائف خارجا عن الحضر فى محلة يقال لها حارة البغايا.

وعقب دخول العرب مصر، ظل البغاء خفيا فترة من الزمن ثم بدأ يظهر جهراً، ويغلب أن المكوس التى فرضها الملك العزيز بالله عماد الدين أبو الفتح فى أواخر القرن السادس الهجرى كانت تتضمن مكوساً على البغايا. وفى عهد الملك المعز أيبك التركمانى، فرضت الضرائب على بيوت الخمر والحشيش والزوانى، غير أن الظاهر بيبرس أمر بإغلاق الحانات وتشتيت الخواطى ومحترفى اللواط وحط المال المقرر على البغايا وكان مقداره ألف دينار فى اليوم، وعقب موت الظاهر عاد البغاء إلى ما كان عليه وكانت تحتكره فى ذلك الوقت امرأة يقال لها الضامنة، تتولى جباية الضرائب من البغايا لقاء ما تلتزم بدفعه للحكومة، وكان يطلق على ذلك ضمان الغوانى أو ضمان المغانى.

وجاء السلطان قلاوون وألغى هذا الضمان وأعيد من بعده وظل حتى ألغاه الملك الأشرف زين الدين شعبان ثم الملك الظاهر برقوق وظل ملوك مصر فى أيام المماليك ثم أيام العثمانيين بين مبيحين للبغاء أو محاربين له، فكان كلما نزلت الكوارث بالبلاد، لجأوا إلى مطاردة البغايا وإنزال أبشع العقوبات بهن، فإذا ما طاب الحال، استعادت البغايا حالتهن التى كن عليها. وظلت بيوت البغاء موجودة فى أيام العباسيين يديرها النساء والرجال رغم ما كانت تفرضه أحكام الشريعة الإسلامية من عقوبات شديدة.

وفى القرن السابع عشر خضعت البغايا لنظام جديد، إذ كان يسجل أسماءهن ويحصى عددهن رئيس الشرطة (الصوباشى) وكان يحتفظ بسجل يجمع كل أسماء محترفى البغاء من النساء والذكور وكانت الضرائب تجبى منهم جميعاً. وبدأ الفرنسيون عام 1898 عقب دخولهم مصر يلبسون البغاء صورته الموجودة فى بلادهم، فاختلط فى بيوت البغاء الخمر والغناء والموسيقى وجعلوا على من يدخل هذه البيوت مبلغاً معيناً يدفعه، ولا يعفى منه إلا من يحمل ورقة من السلطات الفرنسية يؤذن له فيها بالدخول، وظلت الضرائب على البغايا فى عهد محمد على حتى ألغاها فى عام 1837م، ثم بدأ البغاء يخضع للتنظيم والتسجيل منذ عام 1882 طبقاً للوائح بيوت العاهرات.

ولم تَعرِف مصر تنظيم البغاء إلا بعد دخول الفرنسيين إليها، إذ أقاموا عام 1798م أبنية خاصة بغيط النوبى المجاور للأزبكية فى القاهرة، وحينما احتل الإنجليز مصر، بادروا بإصدار قرار بضرورة الكشف الطبى على العاهرات منعا لانتشار داء الزهرى.
وما كاد يبدأ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حتى قامت الثورة ضد تنظيم البغاء ويرجع الفضل الأول فيها إلى جوزفين بتلر، التى حملت لواءها فى إنجلترا منذ عام 1869، وانضم إليها الكثير من أدباء وفلاسفة ذلك العصر. ولم يبعد الأمر كثيراً عن مصر فقد بدأ الرأى العام يثور ضد البغاء منذ عام 1925 وتم إلغاء التنظيم نهائيا عام 1949.
البغاء فى علم النفس
يذكر جلوفرGlover أن البغاء يعد مرحلة متأخرة من مراحل التطور الجنسى وأن افتقاد البغىّ للحب خلال الطفولة، يلعب دورا كبيراً فى انحرافها فيما بعد، وهو بالتالى، يقلل من أهمية العامل الاقتصادى فى احتراف البغاء، فافتقار المرأة للحب فى نطاق أسرتها خلال مرحلة الطفولة، يؤثر عليها نفسياً فيما بعد، فتشعر بعدم الأمان، فالمال لدى البغىّ يعنى الأمان والطمأنينة فهى تقدم ما تكسبه من مال لتشترى به مكانا فى قلب إنسان تعشقه، فكأنها تشترى بالمال شعوراً بالحب لدى الآخر. ويؤكد جرينولد Greenwald أن كل البغايا نشأن فى أسرة مفككة تفتقر إلى العلاقات الحميمة المستقرة بين أفرادها، وأن معظمهن يشعرن بأنهن مرفوضات من جانب الوالدين. كما وصف مجموعة من العوامل التى تؤثر فى اختيار المرأة طريق البغاء، منها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية ويرى أن أخطر الأسباب هو الإحساس العميق المبكر بالحرمان، نتيجة رفض الأم وكراهيتها لابنتها، مما يشعرها بحاجة ماسة إلى البحث عن الدفء والحب عند الرجال والنساء تعويضا عما افتقدته من حب أسرى. ويؤيد هولندر Hollender أن البغاء يعكس وجود عقبات فى النمو الانفعالى لدى البغىّ، والذى توقف عند مرحلة تماثل الحالة التى يكون عليها النمو الانفعالى للوليد البشرى عندما يعجز عن التفرقة بين أمه وتمييزها عن أى شخص آخر، فلا يدرك أمه إلا مجرد جسم يحمل له ما يخفف من التوترات الفسيولوجية مثل الجوع والبلل، وهكذا تصبح المرأة عاجزة عن بدء أى علاقة حميمية بحيث لا تلبى غير الصلات الجسدية فقط مثلها مثل الطفل.

ويرى صلاح مخيمر أنه نتيجة للإحباط من جانب الأب، الذى يبعث على التثبيت العشقى المشوب بالعدوانية، تشرع الفتاة فى غواية كل رجل لتوقعه فى أحضانها مما يجيب عن تثبيتها العشقى الأصلى، ولكنها فى الوقت نفسه تشبع عدوانيتها بأن تنتقم لنفسها، ليس فقط بما تبتزه من أموال، ولكن بإنكارها لقضيبه أثناء الجماع، فى تفضيل أحياناً لبديل الأخ ونعنى به عشيقها الذى تلتقى به آخر الليل وتبلغ فى أحضانه النشوة بل وتعطيه ما ابتزته من أموال وفى الوقت نفسه وعلى مستوى أعمق تكون بممارستها هذه، قد بلغت أقصى صور الانمحاق لقيمة ذاتها وتشعر على حد تعبير دانيل لاجاش بالبطولة فى الشناعة، فى اتهام لأبيها بأنه بإهماله لها وعدم تجاوبه مع حبها قد أوصلها إلى هذا المصير. وأن السبب الذى يدفع المرأة للبغاء، هو: التوحد مع أمٍّ بغىّ، أو متحررة فى علاقاتها الجنسية مع الرجال بل وأحياناً مع أب بغى أو زير نساء، وإن كان فى حالات أخرى تعيش الفتاة أخيولة الأم البغىّ وذلك ضمن عدوانيتها عليها ثم تتوحد معها (التوحد مع المحسود) رغم أن الأم لا تكون بغياً، ولا متحررة فى علاقاتها مع الرجال.

ويقرر مخيمر أنه ألتقى فى خبرته الإكلينيكية بعدد كبير من الحالات، كانت ممارسة البغاء فيها ترجع أساساً إلى ممارسة جنسية كاملة أو مبتورة مارسها الأب مع ابنته فى فترة باكرة من حياتها، هذا إلى جانب حالات يلعب فيها الدور الأساسى، ضعف النسق القيمى.

وإذا كان البغاء هو تسليم الجسد مقابل أجر؟ فكيف لا يكون البغاء فى ذروته عندما يكون استسلام النفس مقابل أجر، وصور النفاق التى تنتشر فى الحياة السياسية المعاصرة ليست غير صورة قصوى من البغاء يبيع فيها الإنسان نفسه لقاء أجر. من هذا كله يتضح ما عليه مفهوم البغاء من رحابة لا تحدها حدود، ولكن المفهوم قد تأثر عبر التاريخ بالحياة الطبقية للمجتمعات، فانكمش التعريف بحيث يقتصر على أولئك الفقيرات اللائى يبعن جسدهن بمقابل نقدى محدد، بينما تفلت سائر النساء الأخريات، وبما فى ذلك أشكال البغاء الراقية سيان فى ذلك المحترفات الثريات، بنات الأسر اللائى يصدرن عن دوافع نفسية فى ممارسة البغاء، وتلك الجموع المستترة التى تبيح جسدها مقابل مزايا اجتماعية دائمة، وغير ذلك الكثير.

ويتفق فى ذلك جارى جوردن، حينما يقرر أن التعامل بالجنس أصبح يتخذ أرقى أشكاله ويحل الاستثمار محل البغاء العام، فتختفى الصورة القديمة للبغى ويحل محلها صورة لسيدة الحفلات الراقية التى تعمل من أجل الصالح العام ووفق نظام دقيق تحدده أقسام البيع والعلاقات العامة فى الشركات، أى أن العاهرة الأرستقراطية ذات الوجه الملائكى تحل محل البغىّ ذات الفم المنتفخ والمساحيق الصارخة.

أصبحت الدعارة اليوم نظاما متبعا فى المبيعات الكبيرة فى عالم الشركات؛ حيث تستغل هذه الشركات الجنس خلال المنافسة لترويج السلع، وتستخدم البغايا للحصول على عقود الشراء وإرضاء العملاء والحصول على توقيعاتهم. وهؤلاء البغايا لا يعتبرن أنفسهن بغايا، وإنما يسمين أنفسهن «فتيات ترفيه»، وهن أكثر حظا من التعليم وأكثر تهذيباً وجمالاً، ومعظمهن يقمن بالخدمات من خلال وظيفة السكرتارية أو غيرها من الوظائف المحترمة أما المبلغ الذى تحصل عليه فتاة الترفيه فيكون وفق نظام العمولة المتبع فى أقسام البيع. والحقيقة أن فتاة الترفيه هذه، ليست إلا عاهرة، ورجل الأعمال الذى يستخدمها ليس سوى قوَّاد، والألفاظ لا أهمية لها.

توصلت نتائج دراستى بعد تطبيق المقابلة والاختبارات النفسية إلى أن اضطراب العلاقة بالآخر جانب واضح جداً لدى كل البغايا عَيِّنَة الدراسة بما يتضمن من التناقض الوجدانى (الحب مع الكراهية فى الوقت نفسه) مع الأم أو بدائلها، وصورة الأب المحبطة والعدوانية ومتعاطى المخدرات والخمور، بل والقواد لها أحياناً، والمتسم بالقسوة والممثل للسلطة بأسوأ أشكالها، وهذه الصور السيئة تمتد إلى كل النماذج الأنثوية والذكرية.

ظهرت المشاعر تجاه الأب، عدوانية بجانب سخط عليه ونفور منه. وجاءت علاقاتهن الجنسية فيما بعد فى الفعل البغائى غير محققة لرغباتهن أو تصورهن عن العلاقة بالآخر، فظهر اضطراب العلاقة بالآخر وتشوهها فى أوضح صوره؛ حيث الانتقام من الأب والأم أو بدائلهما دائماً فى كل الاستجابات وذلك إما بإبعادهما عن حياتهن، أو سفرهما أو موتهما، أو الهروب منهما ومن الأسرة كلها وترك المنزل والصراع القائم دائماً وعدم الانسجام مع الشركاء الآخرين سواء كان الحبيب أو الأصدقاء.

فى تصورهن، الحبيب دائماً خائن وقاس وغدار وتارك لهن فى أصعب المواقف، وباقى النماذج التى تقابلهن فى الحياة إما سيدات سيئات السمعة وتستغلهن فى البغاء أو رجال مغتصبون أو مستغلون لهن أو معتدون عليهن أو حتى صديقات سوء، حتى الإخوة لم ينجوا من هذه العلاقة المشوهة، وافتقدن جميعاً لعلاقات الحب والعطف والحنان والإحساس بالأمان والاحتواء، فالعلاقة بالأب والأم والتى دمرت خلال التنشئة الخاطئة، تركت جروحا قد لا يداويها الزمن.

نجد فى إجاباتهن أيضا السرقة والقتل والموت والتدمير وخيانة الشريك والنزعات العدوانية تجاه الآخر الذى يتمثل فى الأب أو بدائله، والأم أو بدائلها، أو الحبيب. ومن ناحية أخرى نجد الانتحار، والتعرض للاغتصاب، وعقاب الذات وإدانتها والحط من شأنها دائماً، والإحساس بالذنب، والألم والوحدة والمشاعر الاكتئابية، والتعرض للسجن أو الموت. فالقسوة على الذات وإيلامها مشوبة أيضاً بالقسوة على الغير وإيلامه وكما سبق أن أشرت، الفعل البغائى هو فى مجمله عدوان على الآخر، وبالتحديد الأب أو بدائله، والحط من شأنه وفى الوقت نفسه الحط من قدر نفسها وامتهانها وتلذذها بعذاب الآخر لها بل وأحياناً تعمد إيقاع الألم بنفسها أو طلبه من الآخر.

وفيما يخص المهنة التى يفضلنها، نجد أن كلهن يفضلن مهن كالتمثيل، أو المسرح، أو مضيفات طيران، وغيرها من المهن التى تتطلب نزعة استعراضية، ونجدهن يدركن ذلك أحياناً ويبررن هذا الاختيار ليتيح لهن نوعاً معيناً من الملابس والشهرة وانتشار أخبارهن وصورهن بين الناس، ولفت انتباه الآخرين، وجمع المال، والتعامل مع عدد كبير من البشر.

أما صورة الجسد لديهن، فهى ممزقة، وكريهة. جسد مسلوب الإرادة، فاقد الإحساس والمشاعر، ومنتهك، وغالباً ما يتم الاعتداء عليه من قبل الآخر أو يتعرض للموت أو الاغتصاب أو الضرب، أو الانتحار، وكثيراً ما عبرن عن صورة أجسامهن بعبارات كثيرة، مثل «بنت شكلها وحش، مقرفة، جسمها مش حلو»، وغيرها من التعبيرات التى وردت فى استجاباتهن.

إضافة إلى تعرض الجسم للعدوان سواء من البغىِّ أم من الآخرين، لنجد أنفسنا فى النهاية أمام صورة جسم مشوهة، ومضطربة وهو الأمر المتوقع حيث إن صورة الجسم تتطور تطوراً سوياً أو غير سوى إلى حد كبير من خلال تفاعلها مع الآخرين، فإذا كان هذا التفاعل مضطرباً، ينتج عنه صورة جسم مضطربة ونحن أمام نموذج بغىٍّ سلمت جسمها لرغبة الآخر ومتعته وليس لرغبتها هى، وبالتالى فإن جسمها ليس ملكاً لها وإنما مجرد وسيلة لكسب المال وكف جميع وظائفه الطبيعية وتعطيل كل رغباته الحقيقية، بجانب تعرضه للإهانة والعدوان كثيراً.

وكما يقول أحمد فائق، فإن الجسد فى العلاقة البغائية يلعب دورين خطيرين: الأول واضح ومباشر، والآخر غير مباشر، فجسد البغىّ مزدوج الوظيفة وبالتالى مزدوج المعنى. الوظيفة الأولى لجسد البغىّ، هى تلك التى تمارس فى فعل البغاء؛ حيث هو جسد للآخر ولرغبة الآخر، وتلك الوظيفة فى مظهرها تبدو الوظيفة السوية لجسد المرأة أو موضوع الحب مع اختلاف كونه جسداً مستحيلا على صاحبه وليس مجالا لرغبته هو. أما المعنى الكامن وراء تلك الوظيفة، فهو كبت الوجدانات الخاصة بالبغىّ وكف المشاعر التى قد ترتبط بتلك الوظيفة، كما أن هناك معنى آخر يتعلق بالعميل، فالجسد من خلال هذه الوظيفة يكف مشاعر الحب لدى العميل والتى قد تتخذ اتجاهها نحو البغىِّ، كما أنه يوجه رغبة العميل إليه ويقصرها عليه. أما الوظيفة الثانية لهذا الجسد، فتلك التى تمارس فيها البغىُّ كبت الرغبة الجنسية الخاصة بها وكف مشاعر العداء التى يحتمل أن يوجهها العميل إليها وحثه على توجيهها إلى جسده وحده والمعنى الكامن للجسد فى هذه الحالة كونه جسدا يتضمن رغبات خاصة تحرمها على نفسها أو تحرمه منها.. البغىّ تعيش بجسدين، واحد يكبت ويسقط على العميل وهو جسد كريه يخلو من مشاعر الحب تجاه الجنس الآخر، وتعيش الجسد الأول فى فعل البغاء، وهو جسد معرض لكل اضطهاد وسوء معاملة.

ويوضح شوزىMaryse choisy أن أصل الانحراف يعود فى الأساس إلى نقص الحب من جانب الأب لابنته، وهؤلاء البنات المحبطات، يلجأن إلى ميكانيزم دفاعى أساسى يطلق عليه «الدفاع بالابتعاد» وهو ما تعبر عنه البغايا على أنه تبلد انفعالى، بمعنى أن نتيجة تجربة هؤلاء البغايا فى الحب خلال مرحلة الطفولة، كانت الإحباط الشديد، مما جعلهن يؤثرن الابتعاد، ويدفعن بعواطفهن فى اتجاه التبلد، ومع هذه اللا مبالاة الزائفة يوجد حقد قديم وعدوانية مكبوتة، فكيف تنتقم البنت من أبيها؟ تسعى إلى أن تحط من قدر ابنته، أى من قدر نفسها، وهكذا فإن تحقير النفس وتحقير الآخر فى فعل واحد.

فى ظل هذه المنظومة الاجتماعية الخرِبة، يصبح من العبث اتخاذ التدابير القانونية تجاه فئة بعينها من البغايا، دون الاعتبار لجوانب أخرى فى المشكلة. ومن هذه الجوانب المهمة: كونهن قاصرات خرجن من أُسر فقدت كل وظائفها، بل أصبحت عائقاً كبيراً فى طريق النمو النفسى السوى، وهذا يعنى أن انحرافهن يأتى ضمن منظومة كبرى من الانحراف المجتمعى بكل مؤسساته، الأمر الذى يدعونا لإعادة النظر فى أمور كثيرة، منها: التأكد من أن المؤسسة التى يودعن بها بعد القبض عليهن، ما زالت مؤسسة إصلاحية كما يُفترض أن تكون، وأنها لم تصبح مؤسسة عقابية، يُمَارَس فيها كل أشكال العنف والقهر، وتتميز ليس فقط بقلة الإمكانات المادية والبشرية، وإنما أيضاً بقلة الوعى بما تتطلبه هذه الفئة الضعيفة، التى فقدت كل سُبل الحياة الكريمة.

جانب آخر مهم، لا بد أن نكف عن محاولة تأنيث مهنة البغاء، فمن غير المنطقى أن يُعاقب طرف واحد على جريمة اقترفها أشخاص كثيرون. ففى كل القضايا التى سُجلت فى البغاء، وتم الحكم فيها، لم يُعاقب الرجل «البغى»، رغم أن القانون الوضعى، ومن قبله القانون الإلهى، يؤكدان على ضرورة العقاب للطرفين، باعتبار الرجل شريكاً أساسياً فى الجريمة، فلصالح منّْ يتم هذا الظلم الفادح المنافى لكل الشرائع السماوية، وكل القوانين المنطقية؟ إضافة إلى ضرورة إعادة النظر فى العقوبة الموقعة على القوَّاد خاصة إن كان ممن يُفترض فيهم رعاية وحماية الأبناء، مثل الآباء والأمهات، وأولى الأمر.


دكتوراة علم النفس الإكلينيكى.
استشارية علاج نفسى ومحللة نفسية
حائزة على جائزة دار الصدى الإماراتية للصحافة والنشر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.