* لا تريد مصر شيئا من ليبيا، إلا أن تكون واحة للأمن، لا مصدرا للخطر على الداخل المصرى، فمصر ليست فى خيار بين أن تتدخل أو ألا تتدخل، وقد لا تريد السياسة المصرية، ولا تفكر فى الدخول البرى للأراضى الليبية، وهو موقف صحيح تماما، ودون التدخل البرى، هناك ألف خيار وخيار للقاهرة فى ليبيا، وعليها أن توسع خياراتها، وأن توسع نطاق حلفائها الليبيين، وأن تسعى لحكومة ليبية موسعة، وألا تستثنى أحدا سوى الداعشيين، ومن يبادرها بعداوة من الدمى الأمريكية، وأن تضرب فى الزمان المناسب وفى المكان المناسب، وبالكفاءة نفسها التى ظهرت فى ضربتنا الجوية الأخيرة. * سقطت أوراق التوت عن العورات، وانكشفت عداوة أمريكا العارية لمصر، ورغبتها فى تحطيم الدولة المصرية، بل واغتيال الرئيس السيسى نفسه لو استطاعت . * تحركت واشنطن بخشونة وتعمد ظاهر بعد الضربة الجوية المصرية لأوكار «داعش» فى ليبيا، واستقطبت توابعها من دول الغرب الأوروبى فى بيان تعبئة ضد التحرك المصرى، يدعى رفض التدخل العسكرى الدولى ضد الإرهاب فى ليبيا، ويفضل ما يسميه حلا سياسيا، يدمج الإخوان ودواعشهم فيما يسمونه بحكومة الوحدة الوطنية . ولا جديد فى العداء الأمريكى لمصر، فواشنطن مفزوعة من التحولات الكبرى الجارية فى السياسة المصرية، ومن شراكة القاهرة الاستراتيجية الفعالة مع الصينوروسيا، ومن إحياء البرنامج النووى السلمى المصرى، ومن القفزات الهائلة فى تسليح الجيش المصرى، ومن إلغاء الجيش المصرى عمليا لمناطق نزع سلاح سيناء، والتى كانت قد فرضت بالملاحق الأمنية لمعاهدة العار المسماة بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتى عقدت برعاية أمريكية، وضمنت واشنطن لإسرائيل فيها حق الوصاية على مصر، وتبعتها المعونة الأمريكية الضامنة لإضعاف مصر وجيشها، بينما تبدى القاهرة الآن قمة اللامبالاة بالمعونة الأمريكية، والسخرية من تهديدات أمريكا بخفض أو قطع المعونة، فلم تعد مصر بحاجة إلى قيود المعونة المذلة، ولا إلى ملياراتها المسمومة، ولم تعد مصر تعتبر أن لها علاقة خاصة بواشنطن، ولا أنها مضطرة إلى مسايرة الأمريكيين فى السياسة العربية والإقليمية والدولية، وصارت مصر تنسق مع روسيا بأكثر مما تلتفت إلى واشنطن، ولم تعد القاهرة تتشاور مع واشنطن، ولا تستمع إلى أوامرها، كما جرت العادة عبر أربعين سنة خلت، فقد وضعت حوادث 30 يونيو 2013 وما بعدها حدا نهائيا لسيرة احتلال أمريكا السياسى لمصر، فقد تحرك الجيش المصرى لمرتين داخليا عبر الأربع سنوات الأخيرة، تحرك لنصرة ثورة الشعب المصرى فى 25 يناير 2011، وكانت واشنطن وقتها على الخط، تعرف وتوافق، ثم تحرك الجيش المصرى مرة ثانية لنصرة ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013، ودون أن توافق واشنطن أو يؤخذ رأيها هذه المرة، وهو ما جعلها فى صف واحد مهزوم مع حكم الإخوان المنزاح، فقد تحطمت التصورات الأمريكية للمنطقة مع ما جرى فى القاهرة، ولم تثمر محاولات واشنطن لاحتواء النظام الجديد فى مصر، فقد تكون فى مصر ألف مشكلة ومشكلة، وقد نختلف مع النظام القائم فى قضايا داخلية جوهرية، لكننا فى قضية الوطن قبضة يد متحدة، وأمريكا هى المكروه الأول عند الرأى العام المصرى، واندماجها الاستراتيجى مع إسرائيل يضاعف من عداوة المصريين، وتخريبها لمصر عبر عقود يؤكد العداوة، ويرسخها، ويمنحها نفسا سياسيا إضافيا، يهفو إلى استعادة الاستقلال الوطنى كاملا، ووصل ما انقطع مع سيرة النهوض المصرى الجبار فى الخمسينيات والستينيات، وحتى حرب أكتوبر 1973، وإخراج المارد الوطنى المصرى من القمقم، وإعادة ترتيب أوراق المنطقة المضطربة، وبصورة تجعل الكلمة العليا لمصر، فهى القائد الطبيعى التاريخى لتطورات المنطقة العربية، والقاعدة الحاكمة استراتيجيا معروفة، فمصر هى حجر الزاوية ووتد الخيمة، وإذا صعدت مصر صعدت المنطقة، وإذا غابت مصر غاب دور العرب فى صناعة التاريخ، وهو عين ما جرى فى عقود الهوان الأخيرة، والتى صارت المنطقة فيها رهينة لأدوار هجينة أمريكية وإسرائيلية وإيرانية وتركية، وكان طبيعيا أن تفزع أمريكا مع الضربة الجوية المصرية لقواعد الإرهاب فى ليبيا، ليس لأن الضربة تخالف قواعد الشرعية الدولية، فالضربة شرعية تماما، وتمت بالتنسيق مع الحكومة الليبية الشرعية المنتخبة المعترف بها دوليا، وهو ما أفزع أمريكا أكثر، فهذا أول تحرك عسكرى مصرى منذ حرب أكتوبر يتم دون أن تعلم به واشنطن مسبقا، وهى التى اعتبرت نفسها لعقود فى مقام «الوصى الشرعى» على تصرفات الحكم المصرى، وبقدر ما توجهت الضربة إلى مخازن سلاح ومراكز سيطرة وعمليات داعش، فإنها توجهت بالقدر نفسه إلى الوصاية الأمريكية الموهومة، خاصة أن الحركة المصرية النشيطة، نجحت فى خلخلة المعادلات القديمة، واستطاعت إقامة تفاهم محسوس مع حلفاء قلقين لأمريكا فى روما وباريس، فضلا عن تحالفاتها الجديدة المتطورة مع روسياوالصين، ومع حفظ الحد الواجب من علاقاتها المميزة بأهم دول الخليج، ودون غلق نوافذ الحوار تماما مع إيران، وهو ما يتيح للتحرك المصرى مساحات مرونة مستجدة، لاتعلق فيها قرارها على رغبات الآخرين، وتستند فى الأساس إلى قوتها الذاتية، وإلى الأولويات الوطنية المباشرة فى كسب الأمن وحفظ كيان الدولة المصرية، فقد رفضت القاهرة مرارا عروضا أمريكية وبريطانية بالمساعدة الجوية والإلكترونية فى مواجهة جماعات الإرهاب بشرق سيناء، واحتفظت للجيش المصرى وحده بحق الحركة الطليقة المستقلة على أرضه، ودون وصاية ولا نصائح مسمومة، ولا إدعاءات بمساعدات تخفى أطماعا وأدوارا فى الداخل المصرى، فمصر تخطط وتنفذ لنفسها وبنفسها، وتستعيد إدراكها الغريزى بدوائر أمنها الوطنى والقومى، فى الدائرة الكبرى المتسعة لحدود العالم العربى من الماء إلى الماء، وفى الدائرة الصغرى الألصق التى تضم فلسطينالمحتلة والسودان وليبيا، وفى هذه الدائرة الأمنية الأضيق، فإن مصر لا تنتظر نصائح الآخرين، ولا التشاور معهم، وهى تعرف ما يتوجب عليها عمله بالضبط، وتدرك أن انهيار ليبيا خطر مباشر داهم على أمن الداخل المصرى وعلى سلامة الدولة المصرية . نعم، ليبيا قضية الليبيين، لكنها أيضا قضية وطنية مصرية، ومن كل الزوايا التاريخية والجغرافية والأمنية والاجتماعية، فمصر هى التى أسست الجيش الليبى بعد الاستقلال زمن الملك السنوسى، وكونت كتائبه الأولى أوائل الخمسينيات بمنطقة «أبو رواش» بالجيزة، وكانت إزالة القواعد الأمريكية والبريطانية فى ليبيا مكسبا مباشرا لمصر فى أواخر زمن القائد جمال عبد الناصر، حول ليبيا من مصدر تهديد مباشر إلى عمق آمن وسند أخوى لمصر، وعلاقات التصاهر والتزاوج والقرابة بين الشعبين المصرى والليبى هائلة، فثمة ما يزيد على مليون زيجة مصرية ليبية مشتركة، ولك أن تتصور هذا الحجم المهول من امتزاج الدماء، فوق التداخل البشرى القبلى الممتد على جانبى الحدود، فوق إقامة ما يزيد على مليون ليبى فى مصر، ومن شعب ليبى يزيد مجموع تعداده عن الستة ملايين بقليل فى الوطن والمنافى القسرية، وقد زادت ظاهرة الامتزاج المصرى الليبى فى العقود الأربعة الأخيرة، لكنها كانت قائمة طوال الوقت قبلها، وكان الملك السنوسى وقت حكمه يقيم نصف شهور السنة فى مصر، وقبل أن ينتقل للإقامة الكلية فى مصر مع صعود حكم القذافى، وبرغم توترات كانت تثور أحيانا زمن ديكتاتورية القذافى، ولأسباب متنوعة، ظلت الصلات الشعبية تزداد وثوقا، ولم يتعكر صفوها إلا بعد انهيار الدولة الليبية تحت ضربات أمريكا وحلفها الأطلنطى، وبدء فوضى دخل من ثقوبها الغرباء الإرهابيون، وبدعم أطراف إقليمية معروفة بعدائها لمصر وخدمتها المزمنة للسياسة الأمريكية، وهو ما تضاعفت وتيرته بعد ثورة إزاحة حكم الإخوان فى مصر، والفشل المدوى لجماعة إخوان ليبيا فى انتخابات البرلمان الأخيرة، كان طبيعيا أن يكون الإيقاع المصرى هو الأقوى فى الدراما الليبية، وكان طبيعيا أن تكون الحكومة المنتخبة هى الأقرب لمصر، وهو ما جرى شيء منه فى تونس الأبعد جغرافيا عن مصر، وهكذا تكونت ملامح المعركة الجارية الآن على الأراضى الليبية . ولا تريد مصر شيئا من ليبيا، إلا أن تكون واحة للأمن، لا مصدرا للخطر على الداخل المصرى، فمصر ليست فى خيار بين أن تتدخل أو ألا تتدخل، وقد لا تريد السياسة المصرية، ولا تفكر فى الدخول البرى للأراضى الليبية، وهو موقف صحيح تماما، ودون التدخل البرى، هناك ألف خيار وخيار للقاهرة فى ليبيا، وعليها أن توسع خياراتها، وأن توسع نطاق حلفائها الليبيين، وأن تسعى لحكومة ليبية موسعة، وألا تستثنى أحدا سوى الداعشيين، ومن يبادرها بعداوة من الدمى الأمريكية، وأن تضرب فى الزمان المناسب وفى المكان المناسب، وبالكفاءة نفسها التى ظهرت فى ضربتنا الجوية الأخيرة . نعم، خيارات مصر السياسية والعسكرية كثيرة فى ليبيا، وليس من بينها اختيار الاستعانة بواشنطن، فأمريكا هى الطاعون كما كان يقول محمود درويش، والجديد : أن مصر تقول الآن عمليا «طظ فى أمريكا، والله المستعان. نشر في عدد 741 بتاريخ 23/2/2015