أولوية السيسى كما بوتين للاقتصاد والجيش، وقد استعاد بوتين نهضة السلاح الروسى، وهو ما يفعل السيسى مثله بالضبط، بنجاحه فى مد سيطرة الجيش المصرى حتى الحدود التاريخية مع فلسطينالمحتلة، وإلغاء مناطق نزع السلاح فى سيناء، وهو ما يحدث لأول مرة فى مصر منذ ما قبل هزيمة 1967، وبخطة مدروسة لتطوير تسليح الجيش المصرى، ودفعه قدما إلى تخطى مكانة الجيشين الإسرائيلى والتركى، وجعل الجيش المصرى أقوى جيوش المنطقة بإطلاق، وتطوير صناعة السلاح الذاتية، وصياغة تكامل حثيث بين الصناعات العسكرية والصناعات المدنية. مع زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى مصر، وتحقيقها لاختراق نوعى مثير فى علاقات القاهرةوموسكو، امتلأت الصحافة العالمية الأمريكية بالذات بتعبيرات تقارب وتشابه بين شخصيتى الرئيس المصرى والرئيس الروسى، ومن نوع وصف السيسى بأنه «قيصر مصر»، ووصف بوتين بأنه «أبو الهول الروسى»، وبدت التعليقات فى غاية القلق من علاقات مصر الجديدة مع روسيا، وتأثيرها المتزايد فى تحولات المنطقة والعالم . وقبل مايزيد علي عشرة شهور، كتبت ونشرت مقالا بعنوان «هل يكون السيسى بوتين مصر؟»، لم يكن السيسى وقتها قد أصبح رئيسا، لكنه قبلها كان قد زار موسكو بصفته وزيرا للدفاع، والتقى الرئيس بوتين، وظهرت حالة كيمياء خاصة تربط الرجلين، وعبر بوتين عن حماس ظاهر لفكرة ترشيح السيسى للرئاسة المصرية، رغم أن الترشح لم يكن مطروحا رسميا وقت الزيارة، وعبرت واشنطن وقتها رسميا عن الضيق الشديد بتصريحات الرئيس الروسى، فلم تكن واشنطن ترغب فى ترشح السيسى للرئاسة، ولا تستريح للتقارب المصرى الروسى بعد إزاحة حكم الإخوان بثورة 30 يونيو 2013، والذى سبق زيارة السيسى الأولى إلى موسكو، وتكريس صيغة (2+2)، أى لقاءات وزيرى الخارجية والدفاع الروسيين مع نظيريهما المصريين، وهى صيغة علاقات مميزة تنتهجها موسكو مع أطراف دولية ذات أهمية خاصة، ومع زيارة السيسى الثانية لموسكو بعد أن أصبح رئيسا، تطورت العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وعلى الطريقة ذاتها التى ارتقت إليها علاقة مصر مع الصين حليف روسيا، ثم جاءت زيارة بوتين الأخيرة إلى القاهرة، وما صاحبها من حفاوة مكافئة لما لقيه الرئيس السيسى فى موسكو، جاءت الزيارة لتحول النوايا إلى إجراءات، وإلى اتفاقات كبرى فى مجالات السياحة والصناعة والطاقة الذرية والتعاون العسكرى بأوسع نطاقاته . وطبيعى جدا أن تغضب واشنطن، خاصة أن السيسى أقام عشاء رسميا لبوتين على قمة «برج القاهرة»، وهو البرج الذى أقامه عبد الناصر كشاهد أبدى على فشل المخابرات الأمريكية فى رشوته، وبدت الرسالة الرمزية بليغة، فالتقارب المصرى مع روسيا يسحب من رصيد العلاقة مع واشنطن، وينهى وضع أمريكا كدولة ذات وزن أكبر فى العلاقة مع مصر، ويخلخل قواعد ما يسميه البعض بالعلاقة الخاصة بين واشنطنوالقاهرة، والتى توصف أحيانا بالعلاقة الاستراتيجية، أو بالدقة علاقة التبعية التى اتصلت على مدى أربعين سنة خلت، والتى بدأت عقب حرب أكتوبر 1973، بالزيارة الشهيرة للرئيس نيكسون إلى القاهرة، والتى تلقاها الرئيس السادات وقتها باعتبارها فتحا عظيما، يكرس انقلابه على اختيارات عبد الناصر، وينهى صداقة القاهرة المميزة مع الاتحاد السوفيتى، وباعتبار أن أمريكا تملك 99% من أوراق اللعبة على حد تعبير شهير للسادات، زاده مبارك من بعده إلى مئة بالمئة، وصار السفير الأمريكى هو الحاكم بأمره فى القاهرة، وصارت واشنطن فى وضع «الوصى الشرعى» على السياسة المصرية، خاصة بعد عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وما تبعها من قيود المعونة الأمريكية الضامنة، واحتكار واشنطن لتسليح الجيش المصرى بحسب شروطها، وهو نسق علاقات لم يعد مستقرا، ويتعرض للتفكك التدريجى الآن، خاصة بعد اتجاه واشنطن للتلاعب بورقة الإخوان، والضغط بورقة تقليص أو حجب المعونة، وردت القاهرة بلا مبالاة، وتصرفت بوعى ظاهر، وحولت الأزمة إلى فرصة، وقلصت تدريجيا من الاعتماد على الأمريكيين، وأفسحت لنفسها فى حقل السياسة الدولية والعربية والإقليمية، وأقامت تكاملا مدروسا بين فوائض القوة العسكرية المصرية وفوائض المال الخليجى، ودون أن تغلق نوافذ حوار قد يتطور مع إيران، ودخلت كطرف مباشر على خط الأزمة السورية، وعلى نحو يتحدى النفوذ التركى «العثمانلى» هناك، فالسياسة المصرية تخوض حربا حقيقية بوسائل الدبلوماسية الناعمة، وتكسب أرضا جديدة كل يوم، غايتها استعادة الدور المصرى فى المنطقة وفى العالم، وتوظيف طاقة الانفتاح الخارجى لدعم أوضاع الداخل المنهكة، وكسب حرية قرار أكبر، واسترداد الاستقلال الوطنى، وتقليص العلاقات مع أمريكا عمليا، وهو ما يفسر تعاظم وزن العلاقات المصرية مع روسيا، وفى مجالات جوهرية، انحط فيها الأداء المصرى على مدى أربعين سنة من الأسر فى سجن أمريكا، وآن الأوان لوصل بعض ما انقطع مع سيرة النهوض المصرى العظيم فى الخمسينيات والستينيات، فثمة قفزة هائلة فى اتفاقات التسليح، صفقات مميزة مع فرنسا على طائرات «رافال»، وصفقات أهم مع روسيا على أحدث جيل من قاذفات «الميج»، وعلى صواريخ «إس / إس 300» و«إس / إس 400»، وعلى تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وعلى تشغيل مصانع الحديد والصلب، وعلى البدء فى إنشاء محطة الضبعة النووية، واستئناف البرنامج النووى السلمى المصرى، والذى توقف منذ دخول مصر إلى حظيرة واشنطن، فقد كانت النية معقودة على البدء بمشروع الضبعة عام 1974، وتوقف المشروع بالضغط الأمريكى على مدى أربعين سنة، كانت إيران تصعد فيها على مدارج التفوق العلمى والصناعى والنووى، بينما مصر تتراجع وينزوى دورها، وتنحط مكانتها، وها هى مصر تعود الآن، ولو متأخرة عن المواعيد، وبقاعدة علمية قابلة للإحياء والتطوير، وبملامح تصوغ صورة «مجمع صناعى علمى عسكرى» قادر يبنى مصر الجديدة . وقد تكون ظروف روسيا مختلفة فى الكثير من جوانبها عن ظروف مصر، فروسيا دولة هائلة المساحة، ولديها موارد طبيعية جبارة من البترول والغاز بالذات، وهو ما لا يتوافر فى مصر التى تملك مزايا أخرى، لكن المغزى العام للتطورات فى البلدين متشابه إلى حد كبير، فقد كادت روسيا تضيع نهائيا، بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل التسعينيات، والتى تبعها عقد كامل من التحلل فى ظل رئاسة يلتسين المخمور دائما، بينما سيرة الضياع المصرى أقدم، وهو ما تحاول مصر بالكاد أن تخرج من نفقه المظلم الآن، وقد نجح بوتين فى مهمة إنقاذ روسيا، وفرضها كطرف منافس لأمريكا فى حركة الحوادث الدولية، وبدون الصبغة الأيديولوجية القديمة التى امتاز بها الدور الروسى فى العهد السوفيتى، وهو ما قد يشير إلى وجه شبه بين دور بوتين ودور السيسى، خاصة أن كلا الرجلين من طراز ابن الدولة، فقد جاء بوتين من جهاز المخابرات، وجاء السيسى من المورد نفسه، ولعبت المقادير دورها فى تصعيد الرجلين، بوتين كان مسئولا عن جهاز الأمن الفيدرالى فى مكتب رئاسة يلتسين، وجرى تعيينه قائما بأعمال الرئيس أواخر 1999، ثم أصبح رئيسا منتخبا لأول مرة عام 2000، وتبادل مقعد الرئيس مع «الدوبلير» ميدفيديف، ثم عاد إلى الرئاسة مجددا، بينما السيسى كان مديرا للمخابرات الحربية فى عام مبارك الأخير بالسلطة، وهو صاحب خطة كانت موضوعة لتحرك الجيش فى مايو 2011، سبقتها ثورة 25 يناير 2011 الشعبية، والتى انحاز لها الجيش سريعا، وببيان 2 فبراير الذى وضع بخط يد السيسى، ثم جرى ما جرى، وشاءت الأقدار أن يعينه الرئيس الإخوانى مرسى وزيرا للدفاع، وإلى أن ذهب حكم الإخوان، وصار السيسى رئيسا بشعبية لافتة، وهكذا جمع «مكر التاريخ» بين صعود بوتين وصعود السيسى، وبدت المهمة إنقاذية فى الحالتين، وبروح انضباط شخصى وبراجماتية سياسية ميزت الدورين، وهو ما قد يفسر جانبا من «كيميا» خاصة تربط بوتين مع السيسى، وقد سبقت ظاهرة بوتين حضور السيسى على مسرح السياسة، وهو ما قد يجعل بوتين موضعا لإعجاب ظاهر عند السيسى، ويجعل أولوية السيسى كما بوتين للاقتصاد والجيش، وقد استعاد بوتين نهضة السلاح الروسى، وهو ما يفعل السيسى مثله بالضبط، بنجاحه فى مد سيطرة الجيش المصرى حتى الحدود التاريخية مع فلسطينالمحتلة، وإلغاء مناطق نزع السلاح فى سيناء، وهو ما يحدث لأول مرة فى مصر منذ ما قبل هزيمة 1967، وبخطة مدروسة لتطوير تسليح الجيش المصرى، ودفعه قدما إلى تخطى مكانة الجيشين الإسرائيلى والتركى، وجعل الجيش المصرى أقوى جيوش المنطقة بإطلاق، وتطوير صناعة السلاح الذاتية، وصياغة تكامل حثيث بين الصناعات العسكرية والصناعات المدنية، وإفساح المجال لدور قيادى لما قد تصح تسميته برأسمالية الجيش، والإدارة المركزية الصارمة لمشروعات كبرى فى قناة السويس واستصلاح الأراضى وصناعات السيارات والتعدين والأسمدة، وهو تطور يدفع موضوعيا إلى صدام محتمل بين «رأسمالية الجيش» و«رأسمالية المحاسيب» الموروثة عن مبارك، وهو صدام لا يبدو أن السيسى يستعجله، لكن تجربة السيسى لن تتقدم بدونه، فقد فعلها بوتين مبكرا، وأطاح بحيتان «اللوبى اليهودى»، وحطم شوكة كبار المحتكرين، وهو الدرس الذى يعرفه السيسى، وقد يكرره على طريقته .