عقب وصول الاستعمار الأوروبي إلى القارة الأمريكية، راحت الدول الأوروبية تتنافس على إقامة المستعمرات في أمريكا الجديدة، ولاحقًا اصبح لكل دولة أوروبية كبري مستعمرة في أمريكا، مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا والنرويج وإسبانيا وروسيا، ويكفي القول بأن نيويورك كانت تابعة لمستعمرة هولندا الجديدة وكان اسمها «نيو أمستردام» قبل أن تصبح نيويورك. ولاحقًا نظم المستعمرون الأوروبيون في المستعمرات البريطانية الثلاث عشرة أنفسهم بشكل أفضل من باقى شعوب المستعمرات الأوروبية، عبر مجالس منتخبة، و المحرك الأول لهذا التنظيم المتفرد في المستعمرات البريطانية عن باقى المستعمرات الأوروبية هو التجارة تحديدًا، حيث تضمنت هذه المستعمرات عددًا من الشركات وجماعات الضغط وشبكات المصالح ورجال الأعمال الذين أدركوا حتمية تنظيم المجتمع بشكل يساهم في تداول التجارة بين المستعمرات وباقى الامبراطورية البريطانية والقارة الأوروبية. مع زيادة الضرائب البريطانية على المستعمرات في أمريكا ثار أبناء المستوطنات البريطانية وتم تكوين مجموعة من الميلشيات الموجودة ومن ثم اندلعت الثورة الأمريكية وحرب الاستقلال الأمريكي، وفي نهاية المطاف استقلت المستعمرات البريطانية الثلاث عشرة وأعلنت قيام الولاياتالمتحدةالامريكية واُنتخب قائد الجيش القاري جورج واشنطن رئيسًا للدولة الأمريكية الجديدة. لم تكن الشركات الكبرى في المستعمرات بعيدة عما جرى، بل كانت السبب الأول في الحرب وثورة الاستقلال الأمريكي، بداية من دعم سياسيين بأعينهم في المجالس المنتخبة في المستعمرات يدعمون النزعة الانفصالية، وصولا إلى تمويل الميلشيات والكونجرس القاري ثم الجيش القاري نواة كونجرس أمريكا اليوم وجيشها العتيد. وسجلت شبكات المصالح والشركات الامريكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر سابقة هي الأولى في التاريخ، وهي أن تؤسس مجموعة شركات دولة كاملة، إذ جرت العادة أن تؤسس الجيوش أو الأسر النبيلة الدول في العصور السابقة، ولكن أن تتوحد مصالح رأسمالية وتسلخ جزءًا من أكبر امبراطوريات عصرها وتؤسس دولة لها برلمان منتخب وجيش وتبدأ في تصنيع ثقافات وقوميات ولغة مستقلة، كان هذا الحدث فريدًا من نوعه عبر التاريخ. ومع مرور العقود والأزمنة توسعت تلك الشركات والتحمت مع مثيلاتها في باقى أركان العالم، وظهرت الشركات متعددة الجنسيات وعابرة المحيطات والقارات وصولا إلى ظاهرة «الأمركة» التي تم تسميتها لاحقًا ب«العولمة»، وأصبح لهذه الشركات الكبرى وشبكات المصالح دور رئيسي في صياغة سياسات العالم، وتلقفت راية الاستعمار من دول الاستعمار القديم وأصبحت هذه الشركات وشبكات المصالح هي الاستعمار الجديد. هذه الشركات وشبكات المصالح اليوم هي المدير والمنتفع الأول من تجارة السلاح والجنس والمخدرات والأدوية والغاز والنفط والمياه والطاقة والآثار، وفي المرتبة الثانية هناك شركات حينما تبلغ قدرًا معينًا من الثراء يكون لها دور، أغلبها يعمل في مجال الطعام والترفيه والزراعة والمشروبات والإعلام والصحافة والنشر، وفي المرتبة الثالثة هناك وكلاء إقليميون ومحليون للشركات الكبرى بلغوا قدرًا من الثراء والنفوذ يمكنهم أن ينفذوا مصالح مشتركة مع الشركات وشبكات المصالح الكبرى. يظن البعض، خاصة في الشرق الأوسط، أن الصهيونية والماسونية وإسرائيل واليهودية السياسية والمسيحية السياسية والإسلام السياسي والمحافظين الجدد في أمريكا وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وما يسمي «مخابرات الفاتيكان» وبعض الجماعات السياسية والدينية السرية حول العالم هم قادة هذه المنظومة بينما هم في واقع الأمر مجرد أدوات لها فحسب. لا يخضع الغرب كاملا ً لهذه المنظومة – التي يمكن أن نطلق عليها اختصارًا «العولمة الأمريكية» – فهناك العديد من ساسة الغرب عبر التاريخ رفضوا الانخراط في هذه المنظومة، وبالمثل فأن أغلب من انخرط في هذه المنظومة لم يندمج بشكل كامل بل حاول بشكل أو بآخر الظفر بامتيازات شخصية وأخري تتعلق بوطنه في إطار لعبة بالغة التعقيد. وفي أمريكا تحديدًا رغم أنها أول من ابتدعت هذه المنظومة فإن سيطرتها على الحكومة الأمريكية لم يكن سهلا ً وإن كانت المنظومة قد سيطرت بالكامل على نخبة واشنطن أو كما يطلق عليها رسميًا «واشنطن دي سي»، وحذر من سيطرة هذه المنظومة على كرسي الرئاسة بمسميات مختلفة زعامات بقامة جورج واشنطن وبنيامين فرانكلين وصولا إلى الرئيس دوايت أيزنهاور الذى حذر في خطابه الأخير من المجمع الصناعي العسكري إحدي أذرع شبكات المصالح داخل أمريكا، وأيضا الرئيس جون كينيدي الذي حاول تصفية الكثير من نفوذ شبكات المصالح داخل أمريكا ورفض عددًا من مخططاتهم حيال الشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي ما جعل اغتياله أمرًا طبيعيًا. قبيل اغتيال كينيدي كان له خطاب شهير يتحدث عن محاولة جارية للسيطرة على أمريكا من قبل جماعات مجهولة، ويظن عشاق نظرية المؤامرة في أمريكا من قبل الشرق الأوسط أن كينيدي كان يتحدث عن الماسونية، بينما المسألة كانت أخطر من ذلك بكثير. مع صعود إدارة الرئيس رونالد ريجان في يناير 1981، حققت شبكات المصالح سيطرة شبه كاملة على المؤسسات الأمريكية السيادية مثل البيت الأبيض والبنتاجون والكونجرس والخارجية الأمريكية والمخابرات المركزية دفعة واحدة، واستمر هذا المشهد بشكل أو بآخر طيلة سنوات حكم «آل بوش وآل كلنتون وآل أوباما»، وعمل في هذه الإدارات جوقة من الرجالات التابعين لشبكات المصالح. عقب 35 عاما ً من هذه السيطرة كانت النتيجة كارثية على المجتمع الأمريكي، وتولد فريق معارض لهذه السيطرة ، هذا الفريق ليس ضعيفا ً بل هو أيضا ً له شبكات مصالح و له اذرع قوية خارج أمريكا و داخلها ، هذا الفريق يرى حتمية تخليص أمريكا من عصابات نخبة واشنطن وسيطرة نفوذ جماعات الضغط و شبكات المصالح و الشركات الكبرى ، بالاحري عملية هيكلة لعلاقة أمريكا الحقيقة مع العولمة الامريكية. المجتمع الأمريكي تفهم في سنوات أوباما تحديدا ً هذه الفرضية ، و كان رده مدويا ً في صناديق الاقتراع في نوفمبر 2016 ، بانتخاب الرئيس و نائبه و مجلسي الكونجرس من شخصيات اغلبها مضادة لهذه المنظومة. المنظومة ردت سريعا ً بأن طبقت كتالوج الربيع العربي في شوارع أمريكا ، تماما كما فعلتها يوما ً في القاهرة و بني غازي و حلب و الموصل و صنعاء و تونس و المنامة وغيرها ، و اتوقع ان منظومة العولمة الامريكية لم تتوقف لتشاهد في مقاعد المتفرجين دونالد ترامب يقوم بتفكيك نفوذها في جهاز الدولة الامريكية ، مستكملا ً مشاهد التفكيك التي جرت و تجري في بريطانيا على ضوء اختيار الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي في مشهد متصل بما جرى يوم انتخاب ترامب ، ترامب و بريكسيت خطوتان في نفس الطريق ضد نفس المنظومة. سوف تسعي المنظومة الى اشعال سنوات ترامب ، سواء عبر ترتيب اضطرابات دائمة في الشارع او اثارة قضايا الأقليات عبر السود او القضايا الحقوقية عبر الشواذ والنسويات ، بالإضافة الى آلة الاعلام و الصحافة التي لن تهدأ لحظة حيال ترامب وادارته حيث من المتوقع ان يستمر هذا التنمر و التحيز الإعلامي و الصحفي مع كل كلمة يقولها ترامب حال توليه المسئولية ، وصولا ً الى استنفار كافة العلاقات مع اركان نخبة واشنطن ، خصوصا داخل الكونجرس الأمريكي الجهة الوحيدة التي تمتلك القدرة القانونية ليس على عرقلة ترامب بل و تمتلك القدرة على عزله من الرئاسة. عزل ترامب من الرئاسية الامريكية قبل إتمام ولايته الاولي عام 2020 قد يحدث اذا انهارات شعبية ترامب في الشارع الأمريكي بشكل يجعل تحرك رجالات المنظومة داخل الكونجرس ممكنا ً ، او يمكن الانتظار الى عام 2018 حيث انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكي فاذا ما احرز الديموقراطيين انتصارا ً كبيرا ً و مدويا ً وقتذاك يمكن ان يتحركوا لعزل الرئيس ترامب ، و في جميع الأحوال فأن انتصاره مرة اخري في انتخابات الرئاسة في نوفمبر 2020 هو خط أحمر لمنظومة العولمة الأمريكية. ما يعني ان المؤامرة اليوم انتقلت الى شوارع أمريكا ضد مؤسسات أمريكا الحاكمة ، ليدرك المراقبين ان المؤامرة لا تحدث برعاية الدولة الامريكية بل المؤامرة كانت تسيطر على الدولة الامريكية و انه حال التمرد فأن أمريكا سوف تصبح تحت مدفعية المؤامرة، و لا يمكن ان ننسي حقيقة ان منظومة العولمة الامريكية و ان خسرت بعض مؤسسات الحكم في أمريكا الا ان المعارضة الامريكية و نخبة واشنطن لا تزال موالية لها بالإضافة الى عددا ً من الدول الأوروبية و الدول المهمة في الشرق الأوسط، ما يعني ان تمويل و تسليح ورعاية المؤامرة مثلا في الشرق الأوسط سوف يستمر على يد بعض الدول الأوروبية و الإقليمية في المشرق مدعوما ً بشبكات المصالح التي لا تزال لها قوة داخل أوساط واشنطن دي سي. و الى حين حسم الحرب الاهلية بين شبكات المصالح في أمريكا بعزل ترامب او اغتياله او حتى خسارته في الانتخابات الرئاسية 2020 ، أو حدوث معجزة بانتصاره عليهم و إقرار برنامجه الاصلى للقضاء على نفوذ جماعات الضغط السياسي و فساد نخبة واشنطن ، فأن هذه المنظومة سوف تبحث عن الطرف الأضعف في شبكة التحالفات الامريكية الجديدة من اجل تقويض نفوض دونالد ترامب حول العالم. و اذا كان اهم أصدقاء ترامب المرتقبين هم مصر و الأردن وإسرائيل و الامارات بالإضافة الى التيارات اليمينية في أوروبا بالإضافة الى انفتاح غير مسبوق على روسيا ، فأنه من كافة تلك الأسماء يبدو النظام المصري المنفتح على إدارة ترامب هو الحلقة الأضعف التي يمكن ان يتم اللعب عليها من اجل ان يخسر ترامب اهم نظام حليف له في الشرق الأوسط. منظومة العولمة الامريكية يمكن ان تصل لمساحة تفاهم مشتركة مع مشايخ الامارات وحكام الأردن و إسرائيل ، بينما في مصر اوصد الرئيس عبد الفتاح السيسي هذا الباب ، ما يعني انه و بينما يظن الالاف ان المؤامرة على مصر انتهت بانتخاب ترامب فأنها في واقع الامر سوف تدخل مرحلة اشد عنفا ً و بسبب انتخاب ترامب ، بمعني انهم اذا لم يقدروا على الاحتفاظ بالبيت الأبيض فأنهم سوف يسعون لتعويض هذه الخسارة في جبهة اخري ، و تقليم اظافر ترامب بتدشين نظام في اهم دولة بالمشرق غير متعاون معه. ولكن امام القاهرة حزمة من المميزات في انتخاب ترامب ، أهمها ان مؤسسات الدولة الامريكية تنحاز للقاهرة علنا ً ضد المؤامرة ، خاصة البيت الأبيض و البنتاجون والمخابرات المركزية ، و في الواقع ان سنوات ترامب هي فرصة أخيرة امام القاهرة لتجفيف منابع المؤامرة في مصر ، خاصة ان التاريخ علمنا انه عقب كل مرحلة صعود للعلاقات المصرية الامريكية تأتي مرحلة اضمحلال شرسة ، مرحلة عبد الناصر – كينيدي اتي بدها الرئيس ليندون جونسون بنكسة يونيو 1967 ، مرحلة السادات – كارتر اتي بعدها الرئيس ريجان بحادث المنصة ، مرحلة مبارك – بيل كلنتون اتي بعدها الرئيس بوش الابن بالحرب على العراق و الرئيس باراك أوباما بالربيع العربي، ما يعني حتمية ان تتحصن مصر من الانتكاسة المتوقعة في العلاقات المصرية الامريكية عقب رحيل ترامب من سدة الحكم.