في الركن الثالث من أركان منطق أرسطو بعد السببية والعقلية، أن الظاهر يعكس الباطن، والباطن ينعكس علي الظاهر .. أي إذا أردت أن تعرف ماهية إنسان ما فيكفي أن تنظر إلي شكله ومظهره (ظاهره) فتعرف باطنه، فإذا كان جميل الطلعة فمعناه أن أفكاره المضمرة جميلة كذلك، والعكس صحيح. وهذا الركن من أركان منطق أرسطو هو الذي قاد إلي القياس في الفكر الإسلامي للحكم علي الشيء في عدم وجود نص صريح. ومن هنا عرف هذا الركن من منطق أرسطو بالشكلانية والصورية لأن الظاهر لا يكفي للحكم علي الجوهر، ذلك أن التجربة الإنسانية أثبتت عمليا أن الظاهر لا يعكس حقيقة الباطن، وأن الإنسان الغافل هو الذي يقع في وهم تطابق الظاهر والباطن. وهذا ما ينطبق علي كل إنسان يظهر خلاف ما يبطن. وفي هذا الخصوص فإنقيادات الإخوان المسلمين تعد نموذجا لهذا النوع من الممارسة منذ ظهرت جماعتهم علي مسرح الحياة. وعندما كتب ميكي افيللي كتابه "الأمير" أي "الحاكم" في عام 1517 أراد أن يؤكد علي عدم وجود تطابق بين الأخلاق والسياسة، أي عدم تطابق الظاهر مع الباطن، فقد قال: لا ينبغي للحاكم أن يتمسك في سياساته وعلاقاته لبلوغ أهدافه بالقيم الدينية أو الأخلاقية المتعارف عليها بين الناس، وكان هذا يعني فصل الأخلاق عن السياسة، وأن الغاية تبرر الوسيلة. ويروي عن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأشهر أنه في زيارة لإحدي الدول زار قبر أحد أشهر السياسيين فيها وهناك أشار مضيفه إلي القبر قائلا: هنا يرقد السياسي النزيه فلان الفلاني، فقال تشرشل: هذه أول مرة أري فيها اثنين يدفنان في صندوق واحد: السياسي والنزيه، أي لا يجتمع الاثنان معا. والذين يعملون بالسياسة لا ينكرون هذه الخصوصية علي الأقل بينهم وبين أنفسهم، إلا الإخوان المسلمين الذين يحرصون علي إقناع الناس بأنهم يتصرفون طبقا لما تفرضه الأخلاق ومبادئ الدين وأن ظاهرهم هو باطنهم. وواقع الأمر أن الإخوان المسلمين مارسوا السياسة علي مدي نشاطهم ويمارسونها بكل ما تفرضه من وسائل المناورة والخداع والكذب والمداراة لتحقيق الغايات، ولكن عندما يتحدثون للناس يتكلمون عن الفضيلة والأخلاق الحميدة. فقد كان حسن البنا يلعن الإنجليز والملك وحاشيته أمام مريديه، ويحذر أعضاء الجماعة من التعامل معهم، وفي الوقت نفسه يتقاضي معونات مالية سرا من القصر الملكي لتأييده ضد حزب الوفد، وأيضا من الإنجليز. ولما احتج محمود أبو زيد عثمان صاحب جريدة "النذير" وعضو الجماعة علي هذا المسلك في يناير 1939 تقريبا قال البنا: "إن الدعوة ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلي الجميع أن يطيع"، ومن هنا تم صك مبدأ "السمع والطاعة" لمن ينضم للجماعة. ثم قال: "إن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية"، فخرج محمود أبو زيد وأسس جماعة "شباب محمد" وأخذ معه مجلة النذير. وفي أثناء المعارك السياسية التي شهدتها مصر ابتداء من مظاهرات الطلبة والعمال في فبراير 1946 احتجاجا علي رفض إنجلترا التفاوض مع الحكومة المصرية بشأن الجلاء، استقطب إسماعيل صدقي رئيس الحكومة آنذاك جماعة الإخوان المسلمين لصالح القصر وضد الوفد، وساعتها خطب مصطفي مؤمن أحد شباب الجماعة من كلية الهندسة وقال: «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا". وكان الرد علي هذا الخطاب هتافات ضد حسن البنا تهتف: يسقط صنيعة الاستعمار. والله مع الشعب .. فهتف الإخوان: الله مع الملك. ولما اكتشف احمد السكري والدكتور إبراهيم حسن تصرفات عبد الحكيم عابدين اللاأخلاقية وهو زوج أخت حسن البنا، وعدم تصرف البنا بشدة معه خرج الاثنان من الجماعة (عام 1947). وبعد اغتيال حسن البنا (12 فبراير 1949) ذهب خليفته حسن الهضيبي إلي القصر الملكي لتجديد ولاء الجماعة وليضمن وقوف الملك بجانبهم ضد الحكومة التي انتقمت من الجماعة لاغتيال النقراشي (28 ديسمبر 1948). ولما انطوت صفحة الحكم الملكي بقيام ثورة يوليو 1952 لم تتغير أساليبهم في اللعب بالأخلاق لتحقيق مصالح مادية دنيوية. فلما تم إلغاء الأحزاب السياسية في 17 يناير 1953 فكر جمال عبد الناصر في إنشاء تنظيم لملء الفراغ السياسي الذي أصبح اسمه "هيئة التحرير" حاول المرشد العام المستشار حسن الهضيبي إثناء عبد الناصر عن إقامة هذا التنظيم قائلا له: يمكن للإخوان المسلمين ملء هذا الفراغ، فقال له ناصر: لا تنس أن هناك من المصريين من لا يقبل الانضمام إلي هذه الجماعة، وهي إشارة للمسيحيين. وفي مناسبة أخري طلب الهضيبي من ناصر إصدار قرار بتعميم ارتداء الحجاب فاستغرب ناصر القول، وأمام إلحاح المرشد قال له ناصر: كيف تطلب تعميم الحجاب وابنتك الطالبة بكلية الطب غير محجبة، وكأنه يريد أن يقول له: اتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم. وفي سعيهم للسلطة لإقامة "الحكومة الإسلامية" لم يتورعوا عن التنسيق مع الإنجليز ضد حكومة ثورة يوليو 1952 ففي أثناء تفاوض جمال عبد الناصر باسم مجلس قيادة الثورة مع الإنجليز ابتداء من أبريل 1953 سعت السفارة البريطانية لاستقطاب عناصر معادية للوضع الجديد في مصر لإثارة القلاقل أمام المفاوض المصري حتي تظهر الأمور بمظهر الاضطراب وعدم الاستقرار فيتخذها الإنجليز حجة لإيقاف التفاوض والبقاء في مصر. ولم تجد السفارة إلا الإخوان المسلمين صيدا ثمينا يحقق الغرض وتم الاتصال بهم بواسطة الدكتور محمد سالم الموظف بشركة النقل والهندسة الذي اتصل بصالح أبو رقيق (عضو مكتب الإرشاد) وأبلغه برغبة السفارة في عقد لقاء بين بعض المسئولين بالجماعة وبين تريفورز إيفانز مستشار شئون الشرق بالسفارة بهدف استطلاع رأيهم في المفاوضات. وفي مايو 1953 تأكد ناصر من حدوث هذا الاتصال فأظهر استياءه للمرشد العام، لكن دون جدوي. وفي أوائل يونيو (1953) بدأ الاخوان خطة لتشكيل تنظيم سري اخواني بين ضباط الجيش والبوليس. واستجاب لهم بعض ضباط الجيش وأخذوا يجتمعون بهم بشأن الإعداد لحكم الإخوان والدعوة إلي ضم أكبر عدد من الضباط للعمل تحت إمرة الإخوان، وأخذوا عليهم عهدا وقسما أن يطيعوا أوامر المرشد التي يصدرها. كما استجاب لهم بعض ضباط البوليس وعملوا علي إثارتهم ضد ضباط الجيش (أصحاب الثورة) حيث أوحوا لهم أنهم أحق بالحكم من ضباط الجيش بدعوي أنهم علي اتصال بالجماهير أكثر من ضباط الجيش. كما سعت الجماعة لتجنيد أكبر عدد من ضباط الصف لإثارتهم ضد الضباط رؤسائهم بدعوي أن ضباط الصف هم القوة الفعلية وليس الضباط، أي العمل علي اختراق صفوف الضباط من ناحية، ودق إسفين بين الجيش والشرطة وبين ضباط الصف ورؤسائهم مما يسهل للإخوان السيطرة علي الموقف، وكلها وسائل لا أخلاقية لبلوغ الهدف. واتصل عبد الناصر بالمرشد العاممعاتبا لعله يدرك ان نشاطه تحت المراقبة لكن المرشد لم يتراجع. وبعد مرور شهر علي انتهاء أزمة مارس 1954 وفي شهر مايو أرسل المرشد العام رسالة إلي عبد الناصر وطالبه بعودة الحياة النيابية وإلغاء الإجراءات الاستثنائية والأحكام العرفية وإطلاق الحريات، وكانت المفاوضات مع الإنجليز قائمة (انتهت في 27 يوليو بالتوقيع علي اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولي) والأمر يتطلب عدم فتح جبهات يستثمرها الإنجليز في فرض شروطهم. وأكثر من هذا أن المرشد لم ينتظر رد عبد الناصر علي رسالته، بل لقد تم توزيعها علي شكل منشورات. وزادت المنشورات بعد التوقيع علي اتفاقية الجلاء ضد جمال عبد الناصر حيث اتهموه بأنه "فرش بيته بمفروشات القصور الملكية المصادرة ..". وأنه عضو في الجماعة الماسونية، وأن والدته يهودية ..إلخ، وهكذا تدنت لغة الجماعة في الخصومة عندما فقدت الحجج المادية أو العقلية لانتقاد عبد الناصر. وفي اللقاء الأسبوعي للجماعة كل ثلاثاء (يوم 24 أغسطس 1954) شرح المرشد العام للإخوان موقفه من اتفاقية الجلاء فهتف أحد الحاضرين "الموت للخونة". وبعد ذلك بثلاثة أيام وفي 27 أغسطس وبعد صلاة الجمعة بمسجد شريف بالروضة ألقي حسن دوح خطابا في جمهور المصلين حرضهم فيه علي مناوأة الثورة، ودعا إلي العنف. وعندما اشتدت الخصومة مع عبد الناصر التي انتهت بمحاولة اغتياله كما هو معروف في 26 أكتوبر 1954 ورغم إنكار الإخوان تلك المحاولة، استمروا في اصطناع وسائل لا أخلاقية للقضاء علي عبد الناصر ويكفي أن نشير إلي أن يوسف ندا الذي هرب خارج مصر مبكرا قال: إن نظام عبد الناصر عدو وأريد محاربته وكل الأسلحة مباحة وبالتالي يجوز الكذب والإدعاء. وإذا كان هذا هو تاريخهم في المراوغة فليس بغريب أن تكون جينات المراوغة قد استقرت في أجيالهم التالية التي ظهرت بعد إفراج السادات عنهم وعودتهم للنشاط. وليس ببعيد أن هذا الأسلوب من كبارهم مسئول إلي حد بعيد عن تعدد الانشقاقات بينهم حين يكذب بعضهم علي بعض فيخرجون من الجماعة ويكونون جماعة اخري بنفس الجينات التي استقرت فيهم بيولوجيا، وهذا هو ما شهدناه في معركة انتخابات مجلسي الشعب والشوري، وما نشهده حاليا في معركة الترشح لرئاسة الجمهورية وتأسيس لجنة وضع الدستور. وفي كل هذه المعارك كان الظاهر غير الباطن في لغتهم. فخطابهم الانتخابي اعتمد علي ابتزاز المشاعر الدينية الأصيلة بين المصريين حيث نادوا بتطبيق الحدود فلما واجهوا انتقادت كثيرة قالوا لن نطبق أحكام الشريعة وإنما سوف نطبق مبادئ الشريعة، وكأن الأحكام لا صلة لها بالمبادئ، وإنما هو التلاعب بالألفاظ. وأعلنوا أنهم لن يترشحوا لمنصب الرئاسة بل لقد فصلوا عبد المنعم أبو الفتوح الذي أعلن ترشحه، وفي الساعات الأخيرة دفعوا بخيرت الشاطر للرئاسة ضد ما التزموا به أمام الجماهير إلا إذا كان هذا تم بتنسيق مع جهات سيادية فأثبتوا بذلك أسلوب المناورة ومنهج البنا بالعمل تحت اولوية الحكام.وفي هذا الخصوص اعلن كمال الهلباوي المتحدث بأسم الجماعة في اوروبا استقالتة بعد ان تيقن من اعتياد الجماعة علي الكذب ..واخيرا..هل لنا ان نذكرهم بقول الله تعالي "يا ايها الذين امنوا لم تقولون مالا تفعلون,كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون" نشر بالعدد 591 بتاريخ 9 ابريل 2012