هو حالة شبيه بالإعلان الشيوعى، وهذا ما يعطى أهمية لكتاب فوكوياما من أهم ما صدر على الصعيد الايديولوجى في الغرب الأمريكي، بعد عدوان المؤسسة الأمريكية على العرب، وتفكك الاتحاد الاسوفيتى، وزوال كل ما كان يعنيه مصطلح المعسكر الشرقى، ولعل تميزه ذاك لا يصدر أولا ً من طرافه البحث او طرافه البحث وغزارة المادةن بقدر ما هو وثيقة أو ( بيان) أول تعلنه الليبرالية في ثوبها الجديد، وهى تتطلع الى الانفراد بالحالة الايدلويجية العالمية في وقت انفرادها بالعالم استراتيجيا، والغريب هنا أن الكتاب أعتمد على نظريات علم الفيزياء الحديثة أو الفوضى في تفسيره للتاريخ السياسى والاحداث التي حدثت على مر التاريخ. لذلك لا يعتمد فوكوياما في كتابه على قوة المنطق الفكرى ولا الحقيقة التاريخية، بقدر ما يستند الى ما تحصل من أمر واقع، بحسب المصطلح الاستراتيجي. لكن ذلك لا يعنى أن الكاتب لم يحاول حشد ما يستطيع من الموضوعات الفكرية والتاريخية التي تساعده على أثاره اطروحته. ولو ذظرنا قصة الكتاب، وكيف أنه ظهر أولاً في شكل مقال نُشر في مجلة المركز الذى يشتغل فيهالمؤلف، ثم أن ردود الفعل الكثيرة والمتعددة التي أثارها على ضفتى الاطلسى، أغرته بتحويل المقال الى كتاب .. ولو تذكرنا هذه القصة، فإننا ندرك مدى التعمد الذى يختفى وراء تحويل المقال الى كتاب كامل، والحقيقة أن المقارنة بين المقال والكتاب تبرز مباشرة كيف أن المؤلف لم يستطع أن يثرى موضوعه بأكثر مما اتى به المقال فكرياً، بقدر ما زاده كمياً، سواء بالتفصيل أو الشروح واستعراض المعارف السياسية الرائجة في الخطابات الإعلامية المعهود، ضمن إطار شبه فلسفى. وقد كان يمكن لهذا الكتاب أن يمراً عابراً دون أن يترك أثراً يذكر مثل المئات من أمثاله، المعتبره في قائمة البيانات الإيلديولوجية والجدل السياسي اليومى، لولا أن المؤلف قام بقفزة كبرى، من مستوى الحدث التاريخى الى أوسع المفاهيم الفلسفية، محاولا بذلك أن يفلسف الأمر الواقع، وان يرفع وقائعة الى مستوى التعليل المطلق، وأن يجعل ما هو صنف الوقائع العسكرية والسياسية، كما لو كانت نتائج كلية لمفهوم الليبرالية، بالرغم من أن الخطاب الفلسفى لليبرالية يعانى دائماً من مشكلة التأسيس، أو بالأحرى من البحث عن المفهوم. الكتاب يكشف عن تعطش حقيقى في صميم هذا الخطاب الفلسفى الأمريكي الى إعادة تأسيس مذهب ليبرالى جديد يختلف عما ألفته الاعمال الانجلو ساكسونية السابقة. وينبغى هنا الاحتراس، إذ لا يمكن لمحاولة فوكوياما إن ترقى الى مستوى المنعطفات الفلسفية الأصيلة التي حققها أمثال ديوي وراولز ورورتى. فهو لا يتنطع الى بناء مذهب متماسك، بقدر ما يدلى بجملة التحليلات والحجج التي تفيد فقط كمناقشات سياسية ويومية. هذا الباحث الامريكى ذو الأصل الياباني يتشبث بالجانب التيموسى النفسى - المبدأ الذى تحدث عنه افلاطون- ، لدى الفرد والجماعة ثم التاريخ، متأثراً بثقافته القومية المعروفه عن شعبه، وما يريده الكاتب هو أثبات غير صحيح بأن الليبرالية لا يحركها المبدأ الاقتصادى فقط، وفى هذا فإنه يغالط الواقع والحقيقة التاريخية التي تقول أن الليبرالية قامت على أكتاف الرأسمالية التي روجت لمبادئ تسويقها للسلع وصنعت انماطاً من البشر والمجتمعات بلا إرادة اجتماعية أخلاقية حقيقة في مقابل الانصياع الكامل بدافع الفردية الى الغرائزية في التفكير بالشكل الذى يدفع أبناء المجتمعات الرأسمالية الى الاستهلاك بشراهه دون وضع اعتبارات لأفكار الاعتدال أو الادخار، فيصبح فقط مجرد مجتمع يتجه بإنتاج حياته وعائده الى جيوب الرأسماليين الذين يعطونك الراتب بيد ويأخذونه منك في شكل سلع من اتجاه اخر. وكما جرت العادة في الأمثله السابقة من الأفكار والنظريات الغربية المتوارثه، جاء كتاب (نهاية التاريخ) ليصعد من نظريته لإنتهاء الفكر الانسان عن التجديد الى الحديث عن ماهية الانسان وطبيعة التركيب الاجتماعى مرورا بتفسير غريب لحركة التاريخ والعلاقات الدولية، ويحاول أن يقسم العالم قسمين أمم وصلت الى منتهى الغاية التاريخية واستقر خارج التاريخ الانسانى حراً بلا قيود، وأمم أخرى ما زالت تعيش في تناقضات التاريخ ومازالت أثيره لمعطياته. ان فوكوياما يبشر في طرحه بمشروع التقسيم الجيوسياسى تحت القناع الفلسفى المضحك، وهو تقسيم الإنسانية الى دول ما قبل وما بعد التاريخ وهو في ذلك أراد ان يدعم إعلان رئيسه بوش عن ( النظام العالمى الجديد) بالوثيقة الفكرية التي تخيل أنها ستؤسس شبكة التنظير القادم لعصر ما بعد نهاية التاريخ، لكن الحقيقة أن هذا الكتاب لا يخرج عن كونه مجرد اعلان ايديولوجى لإستراتيجية القرن الأمريكي الجديد، القائمة على المغالطات الأخلاقية التي اعتادتها الليبرالية الجديدة، والتي كان نتاجها تغليف العنصرية بشكل أخلاقى، وإتاحة استخدام العنف مغلفاً بتقسيم ( جيو تيموسى) يميز بين عالم حكم عليه بالأسر داخل كتب التاريخ الى الأبد، وعالم اخر متحرر من نفسه وخرج من حلقة التاريخ، وحق له واستحق التمتع بكمالات الرغبة والوعى معاً. الموعودون بجنة " نهاية التاريخ" هم القبيلة البيضاء الشقراء وحدها ( وربما الصفراء كذلك؟) مجتمع النمور النيتوشى، اما الأخرون معظم الإنسانية، فلم يعد تصنيفهم في خانة المتخلفين يكفى للتعبير عن مرحلة التصفية الأخيرة – إذ ان هذ المصطلح سيظل يوحى بإستمرار رسالة المتقدم في الاخذ بيد المتخلف هو ( عبء الإنسان الأبيض) بينما المطلوب من هذه التصفية هو القطيعة المطلقة بين سكان الجحيم ( التاريخى) المحكومين أبدياً بمصيرهم، والنخبة الفائزة بالنعمة الخلاصية وحدها من دون العالمين. وبالرغم من أن البعض قد يتصور أن موضوع الكتاب قد اصبح بلا جدوى بعد ظهور قوى دولية مناوئه للإنفراد الأمريكي الغربى بسلطة القرار الدولى، إلا أنه من المهم أن نفهم هذا الإطار النظرى للفكر الأمريكي المعروف بالليبرالية الجديدة لنعى جيداً كيف ينظر الأمريكيين الى الفوضى في عالمنا، وكيف ينظر المفكر الاستراتيجي الأمريكي والضمير الفكرى الغربى ببرود لعمليات القتل الجماعى في منطقتنا العربية.