بينما أحرك مؤشر البحث على صفحة جوجل لتحميل كتاب عن الليبرالية، جذب انتباهي مقال في أرشيف جريدة "المصري اليوم"، وقد تم نشر هذا المقال من نحو شهر لكاتبة شابة ظهرت صورتها أعلى المقال (مكشوف عنها الحجاب). اللافت للنظر هو عنوان المقال، وهو: (الليبرالية فطرة الله)، ولقد تجشمت وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب، وتجرعت مرارة الصبر على قراءة المقال إلى آخره، (والصبر كالصبر مر طعمه لكنه للصابرين دواء) الخلاصة أنه تبين لي أن الدافع وراء إطلاق هذا العنوان الفج المنكر هو أن النظرية أو المذهب قد تساوى مع المثال في ذهن الكاتبة الموقرة، وأعني أن الليبرالية عندها تساوي الحرية، بيد أن الحرية حقيقة فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فالناس جميعا ولدتهم أمهاتهم أحرارا، ثم اجتالتهم شياطين الإنس والجن فعبدوا الخلق من دون الخالق، أو تحرروا من عبادة العباد لكنهم عبدوا أنفسهم وذواتهم من دون الله. وفي الكتاب: ((فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون))، وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فرؤيتنا يا أستاذة أن الإسلام الدين الذي جاء به كل الأنبياء هو فطرة الله، لأنه دين واحد من منبع واحد ومشرب واحد وثقافة واحدة ولأنه نتاج رباني، والله تعالى يقول: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ويقول: (ألا له الخلق والأمر)، اللهم إلا أن تكون الليبرالية لديك تعني الإسلام، وشتان بينهما؛ إذ الليبرالية فكرةٌ إنسانية فلسفية غربية وضعية، وليت الأمر توقف عند ذلك فحسب، ولكنها فكرة تولدت من صنع عَقولٍ بشرية شتى مختلفة المشارب والثقافات متعددة من حيث الظروف الزمنية والبيئة المكانية، لذا تعددت تعريفاتها وأصيبت بالغموض والإبهام، إلا أنها في مجملها تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت، إلا ثابت عدم الثَّبات، ولذا فالليبرالية لا مرجعية لها ولا ثوابت، وهذا يكشف مدى تردد الليبراليين العرب بين مفهوم المصطلح الفلسفي وبين انتسابهم للإسلام المناقض لهذا المصطلح من الجذور والأصول. فالأصل أن الحرية مثال، وأن المثال مشترك إنساني، وأن المشترك الإنساني يستحيل اختزاله في مذهب أو اتجاه، ولكن عدم الوعي بالبعد الوظيفي للمثل مدخل لفضح أي دعاية أيديولوجية إطلاقية، تساوي بين النظرية والمثال الذي تصبو إليه وتنشده كغيرها من الأيديولوجيات. يقول الدكتور الطيب بوعزة في كتابه "نقد الليبرالية": (والخطاب الدعائي المصاحب لليبرالية الذي يكاد يرادف بينها وبين معنى الحرية والعدل والمساواة والسعادة، فيجعل من ثم ناقدها عدوا للتحرر، وداعيا إلى الاستبداد، ومناهضا للعدل وداعيا إلى الظلم ... خطاب يذهل عن إدراك المعنى الفلسفي والديني للحرية والعدالة والحقيقة والجمال والسعادة...، فهذه المفاهيم هي مثل عليا تتوزع عليها فعاليات الإنسان المعرفية والخلقية والجمالية، والكائن الإنساني مسكون –بحكم إنسانيته- بنزوع نفسي نحوها، بيد أن المثل، من حيث طبيعتها تبقى مثلا؛ إذ بذلك تبقى أفقا يجتذب الرؤيا والفعل البشريين، فنضمن من ثم إمكان ترقي الإنسان. فمنتهى الإفلاس هو أن يزعم مذهب من المذاهب البشرية أنه جسد مثالا من المثل، وأن لا مجال من بعده إلا إعلان "نهاية التاريخ"!! وهو بالفعل المنزلق الذي سارت فيه الليبرالية الجديدة في طبعتها القاصرة مع فوكوياما عندما يقول: "إننا بلغنا نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية الذي يتمثل في كونية النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي كشكل نهائي للحكم الإنساني"). وجاء في بحث بعنوان: "الليبرالية نشأتها ومجالاتها" لعبد الرحيم بن صمايل السلمي: (ولعل أبرز نتاج فكري يدل على الغرور الكبير بهذا المبدأ عند الغربيين كتاب (نهاية التاريخ) لمؤلفه فرانسيس فوكوياما وهو أمريكي الجنسية ياباني الأصل، وقد ظهر فيه بوضوح مدى الغرور الكبير بهذا المنهج (الليبرالية) حيث اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فحسب). أه. رغم إن صنوه "يوروفسكي" أستاذ مادة التاريخ والسياسة العامة بجامعة كومنولث فيرجينيا يقول: (إن أي فرد لا يملك أن يدعى أن النموذج الأمريكي –رغم نجاحه الباهر في الولاياتالمتحدة – هو النموذج الذي يجب أن تحذو حذوه كل الأنظمة الديمقراطية). فاستقرار الهوية الإسلامية مكسب أهم، و ظرف موات لإقامة تجربة ديمقراطية ناجحة، يقول "يوروفسكي": (لأن كل بلد له الحق في أن يقيم نظام الحكم الذي يناسبه انطلاقا من ثقافته وتاريخه). يقول الدكتور بوعزة: (وبالنظر إلى المذهب الليبرالي من هذا المدخل المنهجي، فإننا نراه مفلسا؛ لأنه يساوي بين "المثال" و"المذهب"، فيستحيل بذلك إلى وثوقية سياسية وفلسفية مغلقة، ولن يكفي للتغطية على انغلاقه أن يزعم بديمومة الحراك والتطور نحو أفق مفتوح، وآية ذلك أنه قبل سنوات فقط رأينا ورأى الليبراليون كيف أفلس المذهب الاشتراكي المركسي بحكم وثوقيته التي أحالته إلى أقنوم جامد، رغم كونه يرتكز فلسفيا على الجدل، والحراك القائم على النفي، ونفي النفي). واللافت للنظر أيضا هو خوف الدكتور الطيب بوعزة من أن تكون نتيجة بحثه الناقد لليبرالية أن يوصم بأنه عدو للحرية والتحرر؛ مما حدا به أن يقدم بين يدي البحث قائلا: (ليس نقدنا لليبرالية نقدا للحرية، ولا دعوة إلى الاستبداد وترجيحه إلى التحرر، بل إن موقفنا المبدئي هو مع كل دعوة إلى التحرر المسئول؛ فحرية الكائن الإنساني هي خصيصة ميزه بها الله عز وجل، وجعله بها حقيقا بمهمة الاستخلاف في الأرض، تلك المهمة/ الأمانة التي تستوجب الحرية وتستوجب المسئولية الأخلاقية. فالحرية هي معنى مثالي آفاقي تقترب منه التجربة الإنسانية ولا تتملكه، وبوصف الحرية مثالا من المثل السياسية الإنسانية؛ فإنها بذلك ترتفع عن أن تختزل في مذهب أو فلسفة أو اتجاه من اتجاهات الفكر، أو نمط من أنماط الحياة، ومن ثم فنقدنا لليبرالية ليس نقدا للحرية؛ لأنه لا ترادف بينهما، بل من ناحية الاصطلاح المنطقي لا نجد بينهما علاقة شمول ولا تضمن ولا تطابق). أه. ثم يقول الدكتور بوعزة في نهاية بحثه: (والنتيجة التي يسعى البحث إلى التأسيس لها وتوكيدها هي أنه مع صميم نزوعنا نحو مثال الحرية أن نقول اليوم: لابد من تحرير الإنسان من الليبرالية). أه. الطريف أن الأستاذة "كاتبة المقال" ختمت مقالها بقصة ابن أختها، الطفل الصغير الذي لا يكل ولا يمل من الشقاوة والحركة، وتعبث الغيرة من أخته الصغرى برأسه فتجعله دائم الصراخ مثيرا للمشكلات، حتى جاءت خالته الأستاذة فنفثت في روعه أنه حر (ليبرالي)، وأنه أصبح كبيرا بدليل أنه يفوق أخته الصغرى في الطول، وأن الكبير حر (ليبرالي) يستطيع أن يأخذ قراره ويرسم مصيره بنفسه دون أن يخطط له أحد أو يعبث برأسه. العجيب أن الطفل امتثل للنصح فأخذ يقفز هاتفا فرحا: أنا حر أنا حر، ثم لم يلبث أن هدأ وأصبح وديعا مطيعا (ليبراليا)!! هكذا!! يبدو أن الغلام قد فطن لمبدأ الحرية وانصاع لمفهوم المواطنة في المنزل بينه وبين أخته! يا سبحان الله!! بركاتك يا ليبرالية!!!! [email protected]