باليقين أن مظاهر الرحمة الإلهية لا يمكن عدّها أو إحصاؤها إلا أننا نشير هنا إلى بعض العناوين العامة التي تمثل بعضاً من أبواب هذه الرحمة : السيئة بواحدة والحسنة بعشر : ينص قانون العدل والإنصاف الإلهي على أنّ من أطاع وعمل صالحاً فإن الحسنة تُجَازى بمثلها، وإذا أساء وعصى فإنّ السيئة أيضاً تجازى بمثلها ، لكنّ رحمة الله الواسعة وألطافه غير المتناهية شاءت مضاعفة الثواب على الحسنة مع إبقاء جزاء السيئة على حاله ، فإذا أطاع العبد وأحسن فالحسنة بعشر أضعافها من الثواب . وفي ذلك الحديث عن رسول الله(ص) : كانت الأمم السابقة حسنتهم بحسنة واحدة وسيئتهم بواحدة، وجعلْتُ لأمتى الحسنة بعشر أمثالها... وفي نصوص أخرى ما يؤكد على أنّ العشرة أضعاف هو الحد الأدنى من الثواب والنعيم، وقد يتضاعف إلى السبعة مائة ضعف ، ففي الحديث عن رسول الله (ص (كل أعمال ابن آدم بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلاّ الصبر فإنه لي، وأنا أجزي به، فثواب الصبر مخزون في علم الله عز وجل .. نية الحسنة حسنة: والباب الآخر من أبواب رحمة الله تعالى بعباده أنه يثيب على مجرد نية الخير ولا يحاسب على نية العصيان، فإذا همّ العبد بالطاعة أو بعمل الخير ثم لم يوفق للقيام به فإن الله يعطيه على حسب نيته، أما إذا همّ بالمعصية وفكّر فيها ثم انصرف عنها، فإنه تعالى لا يجازيه ولا يعاقبه على نيته، ففي الحديث : إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإنْ هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهمّ بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه . بسط التوبة إلى آخر العمر: ومن أوسع أبواب الرحمة الإلهية وأجلى معانيها فتح باب التوبة أمام العبد العاصي على مصراعيه، ليعود إلى ربه متى شاء وأحبّ حتى لو فعل وارتكب واقترف من الذنوب والمعاصي ما تنوء الجبال بحمله، فإنه لو تاب توبة نصوحاً فإن التوبة كفيلة بمحو تلك الذنوب وإسقاط تبعاتها، قال تعالى: كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم .. والآيات والروايات الواردة في قبول التوبة أكثر من أن تحصى. وربّما يقال: إنّ قبول التوبة واجب على الله سبحانه وليس في ذلك رحمة وتفضل، بمعنى أنه لو تاب العبد من ذنبه مخلصاً في توبته، ولم تقبل توبته وعوقب على ذنبه كان ذلك ظلماً، والحق تعالى قد تنزه عن الظلم. وقد يجاب على ذلك: بأن ما ذكر هو رأي في المسألة وهو بالتحديد رأي المعتزلة، إلا أنّ ثمة رأياً آخر في المقام تبناه الأشاعرة وجمع من الفقهاء ومفاده: أن قبول التوبة تفضل من الله وليس واجباً ، وبصرف النظر عن هذا الجواب القابل للتأمل، فإنّ الرحمة الإلهية إنْ لم تكن بيّنة وواضحة بالنسبة لأصل قبول التوبة، فإنها تتبدى بشكل جليّ لا لبس فيه، في المتسع الزمني الذي منح للعبد كي يعود إلى ربه، ففي القوانين الدنيوية قد يُفتح باب التوبة أمام العصاة والمجرمين، لكن إلى أمدِ محدود وبشروط خاصة، أما عند الله سبحانه فإنّ باب التوبة مفتوح إلى نهاية العمر وبلوغ الروح الحلقوم، ففي الحديث عن رسول الله ( ص ) : منْ تاب قَبْل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: إنّ سنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه ، ثم قال: وإنّ شهراً لكثير، مَن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه ، ثم قال: وإنّ يوماً لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ، ثم قال: وإنّ ساعة لكثير، من تاب وقد بلغت نفسه ها هنا وأشار بيده إلى حلقه الشريف ، تاب الله عليه . وقد يواجهنا في المقام إشكال ومفاده : أنه كيف نوّفق بين ما صرحت به الروايات من فتح باب التوبة إلى أن تبلغ الروح الحلقوم ، وبين قوله الله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً .. إلاّ أنّ بعض الروايات جمعت بين الآية والرواية، حيث فسّرت حضور الموت في الآية بمعاينة أمر الآخرة، فقبل المعاينة يكون باب التوبة مفتوحاً حتى لو بلغت الروح الحلقوم ، وأما بعدها فإنه يغلق . ونشير إلى أن للتوبة ضوابط وشروطاً ذكرها العلماء، من أهمها: أن تكون خالصة لله سبحانه، وأن تصدر عن قلب نادم على ما صدر عازم على عدم العود، وأن يخرج العبد من حقوق الناس قبل أن يطلب من الله المغفرة. العفو عن صغائر الذنوب: وفي دلالة أخرى على عظيم الألطاف الإلهية والمواهب الربانية، نجد أن بعض الذنوب يُسامح بها العبد ولا تحتاج حتى إلى التوبة والاستغفار، شريطة اجتنابه صنفاً آخر من الذنوب، وبيان ذلك: أن الله سبحانه قد ضمن لمن اجتنب كبائر الذنوب أن يتجاوز له عن صغائرها، قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً .. وفي آية أخرى يقول تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم إنّ ربك واسع المغفرة... ولابد أن نشير أن حديثنا السابق عن أن رحمة الله سبحانه قضت بغفران صغائر الذنوب وتكفيرها في حق من اجتنب الكبائر، لا يعني أن الكبائر من الذنوب التي لا سبيل إلى تكفيرها والخروج من تبعاتها، فهناك أكثر من باب للتخلص من تبعات الذنوب الكبيرة، منها: باب التوبة الذي أسلفنا الحديث عنه، ومنها: باب الشفاعة وسيأتي في مقال قادم . غفران كافة الذنوب إلاّ الشرك: ومن هذه الأبواب المرجوة إمكانية شمول عفو الله ومغفرته للعاصي، لأنه وإن كان مستحقاً للعقوبة، إلاّ أنّ إمكانية العفو تبقى واردة، وعلى الإنسان مهما بلغت ذنوبه أن يحسن الظن بربه ويثق برحمته الواسعة، ويطمأن إلى وعده بأنه يغفر كافة الذنوب إلا الشرك، قال تعالى:إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .. إنّ الذنوب بأسرها بما فيها الكبائر قد تقع في محل عفو الله وصفحه، ولا يجوز أن ييأس العاصي من رحمة الله، فإنّ اليأس من أكبر الآثام ويُعبّر عن سوء الظن بالله تعالي . فالتوازن مطلوب و واضح في الآيتين : يقول الله عز وجل يقول: إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون .. ويقول عز وجل : فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون . وفي ضوء ذلك، فإنه يجدر بالمؤمن العاقل بل يتعيّن عليه أن يعيش دائماً بين الخوف والرجاء، فلا يصل خوفه إلى حد اليأس من روح الله، ولا يبلغ رجاؤه إلى حد الأمن من مكره تعالى، وقد ورد فيما أوصى به لقمان لابنه أن قال: "يا بني خفْ الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين خفت أن يعذبك الله ، وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر الله لك . ولا يتوهمن متوهم أن الحديث عن غفران الذنوب بأجمعها سوف يجرّئ العباد على ارتكاب المعاصي أكثر فأكثر اتكاءً على سعة عفوه وعظيم مغفرته تعالى، والوجه في بطلان هذا التوهم : أنّ الحديث هنا هو عن إمكانية العفو لا حتميته، والعبد العاصي حيث أنه لا يستطيع أن يجزم أو يطمأن أنه أهلٌ لعفو الله إذا لم يتب إلى الله من ذنوبه ويعمل صالحاً فسوف لن يتجرأ على المعاصي إذا كان عاقلاً وحريصاً على حفظ نفسه من المهالك .. إن الرجاء الحقيقي لرحمة الله دافع للعمل وباعث نحوه ليس مثبطاً عنه. وتحجج بعض العصاة الذين يصرون على ارتكاب الذنوب بسعة عفو الله وعظيم رحمته هو من الأماني الشيطانية الكاذبة والمخادعة، وفي ذلك يقول الإمام الحسين بن علي عن قوم يعملون بالمعاصي ويقولون : نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال الحسين : هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني كذبوا، ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه .. وللحديث بقية بمشيئة الله تعالي .