"انت فين يا بابا"، كلمات تحرك الحجر، فما بالك بأب تستغيث ابنته به على بعد آلاف الكيلو مترات، وهو غير قادر على مساعدتها، وتضع القنصلية الألمانية عوائق وحواجز ومتاريس غير طبيعية أمام الأب كى لا يرى ابنته الوحيدة. عائشة محسن رشاد، مصرية أبا عن جد، لكنها لا تعرف عن مصر سوى اسم أبيها، وتخضع الآن للاعتقال فى ملجأ ألمانى، بعد أن فرضت السلطات الألمانية وصايتها على عائشة. قصة عائشة، بدأت بقصة حب عادية للغاية بين شاب مصرى وفتاة ألمانية اسمها ساندرا، لكن غير العادى، أن الأب يحاول فك أسر ابنته على مدار 12 عاماً، دون جدوى. يتذكر محسن مشهد عائشة وعمرها ست سنوات، وهى تركض إليه، فاتحة ذراعيها، وعلى وجهها ابتسامة شديدة البراءة، وتقول بالألمانية «بابا جه بابا جه»، تتساقط الدموع عفوية من عيون محسن، وهو يحكى كيف استمر يحاول على مدار السنوات الاثنى عشر الماضية، أن يجعل ابنته تعيش فى كنفه، وتحت رعايته ووصايته، لدرجة أن المحاولات تجاوزت عددها العشرين محاولة. فى نهاية 2002 رفضت «ساندرا» أن تنفذ الاتفاق الذى تم بينها وبين محسن، بأن حياتهما ستبدأ وتنتهى فى مصر، فهو كالسمك لا يستطيع أن يعيش خارج مصر، فوافقت فى البداية، وتم الزواج ووثق فى الخارجية المصرية، لكن بعد أقل من أسبوعين، تراجعت ساندارا عن الاتفاق، وقررت أن تلملم متعلقاتها ومتعلقات رضيعتها، وتطير فجأة إلى ألمانيا رغما عن رغبة الأب. اكتشف الأب سفر زوجته وابنته الرضيعة، فقرر أن ينهى علاقته بساندرا، لكن دون أن يفتعل أزمة تمنعه من رؤية ابنته، فتقدم بأوراقه للقنصلية الألمانية للسفر بتأشيرة زيارة ليرى ابنته، لكن القنصلية رفضت بدون إبداء أسباب، وبدل المحاولة قام بعشرة كلها موثقة بخطابات وشكاوى للخارجية المصرية حتى قرر الاعتصام فى القنصلية، وهدد بالانتحار داخل القنصلية إذا لم يرفعوا الظلم عنه، ويمنحوه تأشيرة ولو لثلاثة أيام يرى فيها ابنته. سألته هل كنت تنوى الانتحار فعلا؟ قال لى ماذا كنت ستفعل لو سمعت ابنتك تسألك «إنت مش عاوز تشوفنى ليه يا بابا؟ إنت مش بتحبني؟!!، عادت الدموع تنهمر من محسن. ولأول مرة بعد سبع سنوات من المحاولات المستميتة وافق القنصل على لقائه، ومنحه التأشيرة، على أن يدفع ضماناً مالياً يقترب من 25 ألف جنيه، دفعها على الفور. وما أن نزل من المطار حتى أخذ يركض كالمجنون، إلى أن وضع نفسه فى أقرب تاكسى وتوجه إلى منزل إبنته، وظل يعانقها أكثر من ربع ساعة، فى وصلة بكاء لم يستطع أن يمنعها إلا بعد أن أمسكت عائشة بطرف ثوبها الأبيض الذى سبق وأن أرسله إليها من مصر، لتمسح دموعه، وهى تقول له «ما تسبنيش تانى يا بابا، خدنى أعيش معاك فى مصر». لم يكن يعرف محسن أن هذه الكلمة سوف تحول حياته إلى جحيم ما بعده جحيم، بعد أن سمعتها الأم، التى خشيت أن يتركها زوجها ويأخذ منها ابنتها. وأثناء ما كان محسن يقضى الشهور الثلاثة من صباح كل يوم حتى المساء يلاعب ابنته ويركضان سويا فى الحديقة، ويشترى له الايس كريم بالشيكولاتة التى تحبه، كانت «ساندرا» تحاول معه من جديد، أن يعود إليها ويعيش معها كزوجين، لكنه لم ينس أنها أخذت منه ابنته الوحيدة، وجعلته يكتوى طيلة هذه السنوات بنار فراقها، وجحيم السعى للحصول على التأشيرة. وفى نهاية الإجازة، أصرت ساندرا أن تحصل على رد حاسم وقاطع، بالعيش معها كزوجين، فاضطر محسن ليصارحها، بأنه لن يعود إليها أبدا. عاد محسن إلى مصر، لكن وبعد أقل من شهرين، ذهب شقيقه إلى «عائشة» فى منزل والدتها كى يعطيها مصروفها الشهرى ونفقة المعيشة، فوجئ بأن عائشة غير موجودة، وأخبرته الأم، أنها قامت بالتنازل عنها لدار الأيتام، انتقاما من محسن، لأنه رفض العودة إليها. لم يصبر محسن أن يمر على مكالمة شقيقه أكثر من ثلاث ساعات، حتى كان على متن القطار المتجه الى القاهرة، وذهب إلى القنصلية الألمانية وتقدم بطلب تأشيرة زيارة، لكن القنصلية رفضت، فأعاد محسن المحاولات من جديد واتصل بالخارجية المصرية، التى قامت مشكورة بدورها الطبيعى فى عدم فعل أى شئ ايجابى، لأى مواطن مصرى فى أزمة. وبعد أكثر من عام ونصف، أعاد تهديده بالاعتصام فى القنصلية، فرضخ الألمان، ومنحوه التأشيرة، وفى اليوم التالى سافر إلى ألمانيا، ليبدأ رحلة البحث عن «عائشة» وبعد شهر وثلاثة أيام، ردت عليه الإدارة العامة رعاية الأيتام، بأن ابنتك فى دار مدينة فورزبورج، فانطلق إلى هناك، وعلى أبوب الملجأ، رفض الأمن أن يسمح له برؤية ابنته، وهددوه بالاتصال بالشرطة إذا استمر فى وقفته أمام الملجأ. فعاد مضطرا، وهو ينظر إلى شباك بعيد تخيل أن إبنته تقف وراءه و«تشاور» له من خلفه، فأشار وهو يرحل، ليبدأ رحلة تقديم طلب الرؤية، ثم دراسة الطلب ثم جاءته الموافقة بعد أسبوعين، بأنه سيرى ابنته بعد عشرة أيام، أى بعد انتهاء مدة التأشيرة بأسبوع. فى هذه الفترة قرر أن يصبغ انفصاله عن ساندرا بالصبغة الرسمية، وقام برفع دعوى طلاق، فقد كانت عائشة السبب الوحيد الذى يجبره على احتمال هذا الوضع، وفى الوقت نفسه تقدم بطلب رعاية لابنته، وترك الأمر للمحكمة أن تبت فى مكان الحضانة فى ألمانيا أو مصر. وقبل انتهاء مدة التأشيرة تقدم بطلب لمد الإقامة لشهر إضافى حتى يمثل أمام المحكمة، وكى يمثل أمام ابنته ويضعه فى حضنه. فى الموعد المحدد ذهب محسن وفى يده علب الهدايا والألعاب، لكن عائشة دفعتها كلها، وارتمت فى حضنه، وقالت له، «أنا مش عاوزة لعب، أنا عاوزاك إنت يا بابا». حكمت المحكمة بأحقية الأب فى الرعاية فى ألمانيا تحت إشراف مكتب رعاية الأيتام، لكن السلطات الإدارية رفضت تنفيذ الحكم بحجة أنه لا يملك إقامة دائمة فى ألمانيا، وحتى يحصل عليها، عليه أن يعود إلى القاهرة، ويتقدم بطلب جديد فى القنصلية للحصول على الإقامة بناء على هذا الحكم. عاد محسن إلى القاهرة، وفى اليوم التالى تقدم بطلب إقامة فى القنصلية الالمانية بالقاهرة. وبعد مماطلة دامت ستة أشهر ويومين، رفضت القنصلية الطلب، فتقدم بالتماس، فرفض، فتقدم باعتراض، فرفض، فطلب مقابلة القنصل، فطلبوا منه خطاباً من دار الأيتام الألمانى بعدم الممانعة، فحصل عليه وقدمه للقنصلية، وانتظر شهرا حتى وصله الرفض، فاعترض، فطلب مقابلة القنصل، فطلبوا منه أن يأتى بخطاب ثان من دار الأيتام، ففعل، وبعد شهر رفضوا، فطلب مقابلة القنصل، فطلبوا منه حساباً بنكياً جديد، ففعل، ثم طلبوا موافقة ثالثة من دار الأيتام، فردت دار الأيتام وقالت لن نمنحك الموافقة الرابعة، واعتبر هذه الموافقة مفتوحة للأبد، فرفضت القنصلية فى النهاية. لم تنته قصة عائشة، رغم تعنت القنصلية الألمانية، ورغم إهمال الخارجية المصرية، لأن هناك أباً مصمم أن يفعل المستحيل، حتى لا تعتقد ابنته الوحيدة أنه تركها وحيدة فى دار أيتام، وأبوها على قيد الحياة.