• كل يوم قضيناه مع هيكل فى الرحلة المطولة فى القارة الآسيوية كان يوما له معنى • وداعا يا هيكل والشكر متجدد على أيام لها معنى أضفناها معا إلى حياة استحقت دائما الأفضل من بين الناس ومن بين الأيام • كان يعتقد أن الورقة والقلم وجهاز التسجيل فى يد الصحفى كافية لمنع المسئول من التصريح بما يخفى على الأقل لإثارة حرصه • منشأ الثقة بيننا سبق نشوب حرب 1973 وتدعمت بها وبعدها • سألنى عن انطباعى عن صدام.. قلت: رأيت فى عينيه ما يخيف ولا أظن أننى قابلت من قبل إنسانا لا يبذل جهدا لإخفاء الشر المتطاير من عينيه بل لعله كان يمعن فى إظهاره • سمعت من هيكل قبل لقاء بورقيبة توقعاته منه بل وربما الكلمات بنصها والوقائع كما هى محفورة فى ذاكرة الرجل العجوز أيامى، كأيام كل الناس، ليست كأسنان المشط، منها ما مر وكأنه ما مر، ومنها ما توقف طويلا ليترك ما يؤثر به فى أيام جاءت بعده. منها أيام أدت وظيفتها ورحلت وأيام أدت وظيفتها وأبت إلا ان تبقى حية، مقيمة لا ترحل، تلك أيام لها معنى. يوم له معنى، ذلك اليوم الذى قضيته على أحد شواطئ الإسكندرية بدون ترتيب مسبق مع أستاذ درس لنا النظرية السياسية، وكان قد انتهى لتوه من تصحيح ورقة امتحانى. أراد أن يناقشنى فيما ورد فى ورقتى وكشفت فيها عن مواقفى من أفكار عدد من الفلاسفة. دار النقاش باللغة الإنجليزية التى كان يفضل التدريس والتخاطب بها بعد إقامة طويلة فى إنجلترا. كان يوما له معنى لأنه اليوم الذى اقتربت فيه من نفسى التى لم تكن قد كشفت لى بعد عن مكنونها وخفاياها. محمد حسنين هيك ••• يوم آخر له معنى، كان اليوم الذى دعيت فيه إلى غداء فى نادٍ للأجانب فى مدينة نيودلهى، جلست إلى جانبى فتاة تصغرنى بأربعة أعوام، كان مقدرا لها ولى أن نعيش معا ونرزق بابن وابنتين وان نغامر معهم وبهم فى حياة لم تعرف الاستقرار إلا قليلا. ثلاثتهم الآن، بفضل يوم عشته فى الهند، هم أحلى وأغلى ما بقى لى فى حياة طويلة ومثمرة. ••• يوم آخر له معنى، هو ذلك اليوم سيئ السيرة والسمعة حين حل علينا فى مدينة بيونس ايرس نائب وزير الخارجية المصرية. تصادف أن يصل يوم الخامس من يونيو عام 1967، وشاء حظه ان أكون الشخص المكلف بإبلاغه بما انتهى إليه اليوم الأول فى الحرب. أبلغته الأخبار المقيتة بكل الهدوء الممكن، واستأذنته فى نهاية الابلاغ ان اسأل سؤالا، السؤال الذى حمل فى طياته نيتى صنع مستقبل مختلف لنفسى وعائلتى. سألته... بالله عليك، ألم يكن أفضل لك ولمصر ولنا جميعا لو تمسكت وانت الطيار المتميز بطائرتك وموقعك فى سلاح الطيران ولم تتدخل فى السياسة. بدخولك السياسة خسرك الجيش المصرى والوطن ولم تكسبك السياسة. عرفت فى ذلك اليوم قيمة ومعنى اليوم الذى قضيته مع أستاذ النظرية السياسية على شاطئ الإسكندرية قبل اثنى عشر عاما، يوم تعرفت وأنا ابن التاسعة عشر على نفسى وموقفى من السلطة وفهمى للعدالة والحرية. عرفت أيضا معنى وقيمة اليوم الذى سعيت فيه على مائدة غداء فى عاصمة الهند لتحمل مسئولية الاقتران وإقامة عائلة. ••• يوم آخر له معنى، كان اليوم الذى استقبلنى فيه هيكل مرحبا بقبولى دعوته للعمل بمركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام، ومبديا استعداده للاستماع إلى اقتراحاتى لتطوير المركز والارتقاء به إلى مستوى التطورات فى منطقة الشرق الأوسط وتوثيق العلاقة بين النظريات الجديدة فى العلوم الاجتماعية والعمل الصحفى. كان اليوم الذى أطلق الفرصة لأيام أخرى كثيرة ليكون لها معنى. تلك الأيام امتدت من صيف 1971 حتى مطلع هذا الشتاء، شتاء 2016. كان أروع ما ربط بعضها بالبعض الآخر كحلقات فى سلسلة فريدة المعدن والصياغة وأكسبها معنى هو «عبقرية» الطرفين فى صنع علاقة تجمع بين العمل والصداقة، علاقة احترمت الخصوصيات واستغنت عن المصالح وانبنت على الصراحة والثقة المتبادلة. لا أخجل من، ولا أتردد فى، استخدام كلمة العبقرية، فالمحافظة على علاقة صداقة مع إنسان له صفات ليست عادية ويتمتع بذكاء غير مألوف ويخضع لضغوط استثنائية ويعرف كل ما أعرفه وأكثر ويقرأ كل ما أقرأ وأكثر ويطمئن على غير عادته إلى ان ما نتبادل من دخائل وتفاصيل سوف يظل دائما بعيدا عن متناول الآخرين، وما أكثر هؤلاء الآخرين؟ علاقة لا شك تحتاج رعايتها والمحافظة عليها إلى موهبة خاصة، وبالأحرى تحتاج إلى «عبقرية» من كلا الطرفين. هيكل مع مطر خلال أحد الاحتفالات
••• كل يوم قضيناه مع هيكل فى الرحلة المطولة فى القارة الآسيوية كان يوما له معنى. عودنا أنفسنا خلال الرحلة التى جمعتنا معه على ان يجتمع الفريق فور عودته إلى الفندق من زيارة إلى رئيس أو وزير أو رجل أعمال أو مواطن عادى فى منزله، لنتبادل ما جمعنا، كل على حدة، من ملاحظات وما سجلنا من كلمات. لم يحدث الا نادرا خلال هذه الاجتماعات أن فاجأناه بملاحظة شىء أو كلمة فاتت عليه أو لم ينتبه لها. كان الاجتماع دائما بالنسبة لى درسا فى مهنة لم أحلم يوما بشرف ممارستها أوالانتماء لها. كنت أخرج من كل اجتماع أسأل الرفاق، ومنهم الصحفى العتيد حمدى فؤاد والدبلوماسى المحنك سميح صادق والمفكر عالمى المستوى محمد سيد أحمد، كيف فاتنا ما لم يفته علما بأننا نسجل كل كلمة وكل ملحوظة وهو لا يمسك بقلم. كان يعتقد، على حق، أن الورقة والقلم وجهاز التسجيل فى يد الصحفى كافية لمنع المسئول من التصريح بما يخفى، كافية على الأقل لإثارة حرصه. عرفت ما لم أكن أعرف. عرفت أن حرص المسئول عدو لدود للصحفى وخصم عنيد لا يلين أو يضعف إلا أمام مهارة صحفية وتدريب جيد. ••• تعلمت فى الصغر أن الفضول رذيلة فقد نشأت على قواعد أخلاقية تنبذ الفضول وتحذر من الوقوع فى براثنه. كان للاستاذ رأيه فى موقفى من الفضول ولم يكف يوما عن ترديده. كرره فى يوم قضينا بعضه فى مكتب مسئول عربى كبير. كنا خارجين للتو من اللقاء حين فاجأنى بالسؤال عما إذا كنت خمنت اسم المرض الذى يعانى منه المسئول الذى قابلناه. فاجأته بإجابتى ومفادها أننى لم انتبه حتى إلى أن الرجل مريض، فأنى لى أن أتعرف على مرضه أو أشخصه؟!. هنا يبدأ، كما فى كل مرة، الجدل حول الفضول، يتحمس منتقدا وكاشفا عن تعجبه من أن باحثا فى السياسة ومحللا لها يتعالى على الفضول، بينما هو يمارسه فى كل مرة يقرر البحث عن معلومة أو التنقيب عن دراسة أو يستفسر عن خلفية حاكم وعن عدد زوجاته ومحظياته وعما يفعله وقت فراغه والاستفراد بنفسه. أما كيف أدرك ان المسئول الكبير مصاب بمرض معين فيقول إنه لاحظ خلال المقابلة أن المسئول الكبير يسحب الطباق اللازم لحشو «البيبة» الصغيرة جدا جدا من زجاجة دواء مستعملة أيضا صغيرة جدا. هذه الزجاجة كغيرها من الزجاجات التى يبيعون فيها الأدوية فى أمريكا مسجل عليها اسم الدواء واسم المرض وأحيانا اسم المريض. انتهى النقاش بيننا إلى أنه لا ضرر أو تجاوز أخلاقيا يحول دون ان أنتبه إلى الزجاجة والتفاصيل المسجلة عليها فى الوقت نفسه الذى أستمع فيه إلى الحديث الدائر وأدون على الورق أو فى الذاكرة بعضه أو أكثره. ••• يوم آخر له معنى وأشعر بتفاصيله محفورة فى الذاكرة كان من بين أيام عديدة فى الرحلة الآسيوية لكل منها معنى. كان قد رسخ فى ذهن الأستاذ بعض ما نقلته إليه فى الطائرة عن تفاصيل لقائى قبل سبعة عشر عاما مع أستاذ النظرية السياسية على شاطئ فى الإسكندرية فإذا به ونحن فى بداية رحلتنا فى الصين يطلب من المرافقين الصينيين الإذن لاثنين فقط من أعضاء الفريق وهما رئيس المركز وأنا بزيارة خاصة لفصل متقدم من فصول التأهيل فى أحد معسكرات العمل. (بالمناسبة كان يتعمد خلال الرحلة الإشارة إلى انه يرأس الوفد بصفته رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية وليس بصفته رئيس تحرير الأهرام، ووراء هذا الاختيار قصة عريضة). دخلنا قاعة تأهيل. كان المنظر بكل المعانى رهيبا، منظر مئات المعتقلين الجالسين القرفصاء بلباسهم الأزرق أسوة بلباس بقية أفراد الشعب والحكام فى ذلك الحين. ينهض الواحد أو الواحدة منهم وقوفا ليعرب امام زملائه عن أسفه وتوبته عن فكرة بورجوازية راودته. ظل الأستاذ طول الزيارة يراقب ردود فعلى وانعكاسات المنظر على وجهى. قضينا مع الرفاق فى الفندق بقية اليوم نعرض ما رأينا وسمعنا ونناقش محتدين حينا ولكن منبهرين طول الوقت. كان بحق يوما له معنى. هيكل وجميل مطر في رحلة إلى الصين
••• هناك فى الصين، بلغ اهتمامنا أقصاه بتفاصيل وآثار الثورة الثقافية التى أطلقها الرئيس ماوتسى تونج ليستعيد التوازن إلى علاقات مؤسسات الدولة بعضها بالبعض الآخر. هناك، فى مصر، كان فى انتظارنا من يتابع تقاريرنا عن رحلة الصين وبخاصة عن الثورة الثقافية. لم تمض سوى أيام قليلة على عودتنا إلا وطلب العقيد القذافى عقد لقاء فى الأهرام يضمه وأعضاء المركز ليسمع عن تجربة الصين. جميل مطر مع هيكل خلال جولة الصين تحدد الموعد، وكان يوما مشهودا. أبدى العقيد فى البداية اهتماما بأمور عادية يهتم بها كل الحكام، مثل دور ماوتسى تونج فى الحكم والقيادة والفكر، ومثل طول تماثيله وعرضها، ثم أنصت إلى سرد مفصل عن الثورة الثقافية قبل ان يمطرنا بالأسئلة.
لم نكن فى حاجة إلى ذكاء شديد لنقرأ ما يدور فى رأسه. تبادلت والاستاذ النظرات وبخاصة عندما دخل علينا فى القاعة اشرف مروان ليصطحب العقيد إلى اجتماع يعقد فى الرئاسة مع الرئيس وكبار المسئولين، فإذا بالعقيد يسكته بإشارة من يده ويتوجه إلينا بمزيد من الأسئلة. أثبتت الأيام التالية أن شكوكنا كانت فى محلها، إذ لم تمض مدة طويلة إلا وكان العقيد يعلن الثورة الثقافية فى ليبيا ويحل أجهزة الدولة وينشئ اللجان والمؤتمرات الشعبية ويكلفها بإدارة شئون الناس. عشت سنوات بعد هذا الاجتماع متهما من هيكل وزملاء فى الأهرام باشتراكى فى تحمل مسئولية التطورات الليبية التى أعقبت زيارة العقيد لفريق الرحلة الآسيوية فى مقر المركز بالأهرام. لم تكن المرة الأولى التى اتهمنى فيها هيكل مازحا بالمسئولية عن حدث أو آخر. ••• ذات يوم من أيام الترقب لحرب تعيد لمصر أراضيها، ووسط الانشغال بالتحضير لاجتماعات مغلقة تعقد بصفة تكاد تكون يومية فى غرفة ملاصقة لمكتب رئيس التحرير ويحضرها زملاء وأصدقاء من الخارجية ومندوب شبه رسمى وشبه دائم من الرئاسة، انفرد بى الأستاذ فى مكتبه وأمامه تقرير أقرب فى الحجم إلى ان يكون دراسة منه إلى مقال. أشار إلى انه التقرير الذى أرسلته له فى الليلة الفائتة. سألنى عما أنوى أن أفعله بهذا التقرير، فهو بالتأكيد لا يصلح للنشر كمقال فى الجريدة، ولا يصلح للنشر فى مجلة الطليعة فى حال وافق الاستاذ لطفى الخولى وكثيرا ما اعترض، ولا يحتمل انتظار العدد القادم من مجلة السياسة الدولية. أجبت بأنه ربما يفيد كخلفية فى أحد اجتماعاتنا المغلقة متمنيا أن يظل فى أضيق نطاق لحساسية بعض الأفكار الواردة فيه. فكر قليلا قبل ان يعلن قراره ان تجرى مناقشته على أعلى مستوى ممكن فى اول اجتماع، وان تخرج خلاصته وخلاصة النقاش إلى أوسع دائرة ممكنة من القراء. وفى النهاية طلب منى التوجه بالتقرير إلى الخارجية وتسليم نسخة منه إلى السيد إسماعيل فهمى، مع دعوة شخصية للمشاركة فى دائرة حوار لمناقشته، وكان ما كان وكله منشور ومعروف. غير المعروف على نطاق واسع هو انه فور اعلان الوزير مراد غالب توقيف السفير اسماعيل فهمى عن العمل بسبب ما نشر على لسانه أثناء الحوار، استدعانى هيكل إلى مكتبه ليقول لى إنه بما أننى مشارك أصيل فى مسئولية ما حدث فواجبى أن أكون مشاركا فى ابتكار حل يستعيد للسفير موقعه ومكانته، بل والاعتراف له بشجاعته فى إبداء رأيه بحرية. قال «لا تنس أنك شخصيا والأهرام كمؤسسة مسئولان عما حدث لهذا الرجل». ••• التزام الأهرام ألا يتخلى عن اصدقائه العاملين فيه وكل من وقف إلى جانبه فى محنة أو أخرى سمعته منه أكثر مرة. مورس هذا الالتزام أمامى فى أزمة مائدة الحوار التى شارك فيها السفير إسماعيل فهمى ومورس فى أزمة المبعدين من الصحفيين، وبخاصة من الأهرام، إلى وظائف إدارية فى الحكومة والقطاع العام. مورس مرات عديدة فى حماية مقالات وروايات وقصائد كبار الكتاب والأدباء والفنانين. مورس معى شخصيا فى مواجهة غضب شديد ورغبة قوية فى فصلى عقابا على مقال نشرته الأهرام عن طبيعة علاقات الحكم فى بعض دول أمريكا اللاتينية، ظنا من رئيس الدولة أن المقال يمسه شخصيا ويعرض بالطبقة الحاكمة. ••• من أيام لها معنى، تلك الايام التى تلت تنحية الأستاذ من منصبه فى الأهرام. حينها تأكدت بما لا يقبل الشك أو التردد أن ثقة كبيرة باتت تربط بيننا، لا أعنى أنه خلال الاعوام السابقة كان هناك شك، ولكن كان هناك دائما التحفظ الرصين من جانب طرفى العلاقة. الثقة تطورت ثم تدعمت خلال رحلات بالطائرة تجاوزت مدة بعضها الساعات التسع أو العشر، وخلال «تمشيات» طويلة فى مزرعته ببرقاش وفى شوارع باريسوروماوتونسوالكويت ودمشق وبيروت وغيرها من مدن العرب، ففى مثل هذه الرحلات والمشاوير الطويلة يفرض الوقت ضرورات ملئه وتمريره. من خلالها عرفت انه يقرأ أكثر مما أقرأ، ويدخن أكثر مما أدخن، وينصت إلى الموسيقى أكثر مما كنت انصت، وأظن أنه كان يفكر فى كل شىء وفى كل الأوقات أكثر مما كنت أفعل. لكنه كان يأكل ويشرب سوائل ساخنة أو باردة أقل مما كنت آكل وأشرب. فى هذه الرحلات والتمشيات تحديدا، وفى جلسات ما بعد العشاء فى الفنادق أو قصور الضيافة، أرضيت بعض شغفى، ولا أقول فضولى، لمعرفة ما غاب عنى عن «حقيقة» أو طبيعة جمال عبدالناصر. لم يبح بمعلومات عن كل ما سألت عنه، ولكنى صرت مع الوقت وبعد هذه الرحلات والتمشيات والجلسات اعرف أكثر مما كنت اعرف قبلا، وبالتأكيد اكثر مما يظن الكثيرون انهم يعرفون عن شخصية هذا الرجل الذى استطاع تغيير مسيرة مصر. عرفت أيضا الكثير عن دور سوريا فى تطور فكر ووعى عبدالناصر وفى إستراتيجية مصر فى عهده وعهدنا على حد سواء. عرفت منه ومن محمود رياض ومن آخرين اقتربت منهم دور «العواطف» فى صنع السياسة الخارجية المصرية فكانت إضافة إلى ولعى بالبحث فى ادوار العواطف فى الأداء السياسى والاقتصادى للناس على اختلاف مشاربهم. ••• منشأ الثقة بيننا سبق نشوب حرب 1973 وتدعمت بها وبعدها. كانت الثقة بيننا كافية لتجعله يطمئن إلى اننى عندما اطلع على بعض الأوراق والرسائل عالية السرية والمتعلقة مثلا بالمفاوضات السرية مع كيسينجر وآخرين فى الغرب وبعض المسئولين العرب، ان أحدا لن يعرف. وبالفعل لم يعرف أحد حتى هؤلاء الذين كانوا يتفاوضون بالفعل وكنت ألتقى بهم فى لقاءات مسائية للتسلية أو لتبادل الرأى فى قضايا دولية أخرى غير قضيتنا التى كنت وزملائى فى الدبلوماسية المصرية نتحاشى الخوض فيها. كنت أعرف عن بعض ما يفكرون فيه فى هذه القضية الحساسة وغيرها، وهم لا يعرفون أننى أعرف أو حدود ما أعرف. ••• حرصت دائما على الابتعاد عن دهاليز صنع القرار السياسى فى مصر. حرصت مع ذلك على التعرف عن بعد على الاسلوب المتبع فى مصر لصنع القرار والسياسة وأنواع الضغوط وأحجامها وقوتها. تشاء الأيام ان اعمل مع الرجل الذى عرف عن هذه الدهاليز أكثر من أى شخص آخر فى هذه الدولة أو خارجها. لا مبالغة فى هذه العبارة. كنت إن أفتيت برأى فى جهاز أو فى شخص على صلة بعملية صنع السياسة يسارع بتوجيه نظرة ساخرة تحمل معنى اتهامى بحسن النية أو العجز عن فهم غرائز العاملين فى حقل السياسة ونوازعهم. أظن أنه كان يخشى على المركز من أن يستدرج إلى غابة السياسة فيهمل فى مهمة التفكير الحر ووضع بدائل عمل وشجاعة عرض مواقف وآراء جريئة، وفى أحسن الأحوال تتشتت جهوده. تصادف أن يواجه مكتبى فى الطابق السادس مكتب الصديق لطفى الخولى وجماعة الطليعة. حدث بعد وصولى من الخارج بأسابيع قليلة، أن زارنى الاستاذ لطفى ليطلب منى بصفة شخصية مساعدته فى اعداد تصور لتنظيم جديد للحزب الحاكم كلفه به الرئيس السادات. وعدته بالتفكير فور انتهائى من دراسة كنت منشغلا باعدادها. فى صباح اليوم التالى، وعلى غير المعتاد، سمعت هرجا فى الغرفة الأمامية الملحقة بمكتبى ثم نقرة على الباب قبل أن يدخل الأستاذ هيكل. سحب مقعدا وجلس وطلب نصف فنجان من القهوة، ثم راح يتصفح كتبا ومقالات على المكتب. شرب القهوة وبدأ يستعد للخروج ليلتفت فجأة ويقول ما معناه «أتمنى لو طلب منك جهاز فى الدولة أو خارجها كتابة تقرير أو بيان ابلاغى قبل أن تشرع فى إعداده، ثم استطرد بأنه يعرف جيدا ان الانظار كلها سوف تتجه إلى هذا المركز، وأنه لا يريد له ان يتوه أثناء تلبية مطالب متعارضة ومصالح متضاربة لأشخاص أو أجهزة فى السلطة. هيكل و السادات و عبد الناصر
لم أكن اعرف حتى ذلك الحين موقع مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى أولويات هيكل. كنت جديدا على المكان وإن كنت غير جديد تماما عن أحلامه وتصوراته عن المركز. عرفتها بعد أسابيع قليلة عندما اقترح زملاء فى المركز الانضمام إلى نقابة الصحفيين، لم يقلها صراحة ولكنه ألمح إلى أنه يتمنى لو ان المركز ظل بعيدا عن الأجواء النقابية ومشاكل مهنة الصحافة، بل انه صارحنى ذات يوم انه لا يجب ان يرى صغار الباحثين من أعضاء المركز يتجولون فى الدور الرابع حيث توجد قلعة التحرير، التى كثيرا ما داعبت نسائمها وعنفوانها وأجواء الطموح فيها أحلام الباحثين الجاهزين لمقايضة جواهر بحثهم العلمى بلمعة من بريق مقال صحفى ينشرونه فى صفحة الرأى بالجريدة أو فى تقرير أو تحقيق صحفى. تأكدت مرة أخرى من تصوره لمكانة المركز فى مستقبل الأهرام عندما أصر على ان نقوم برحلتنا الآسيوية باسم المركز وتحت شعاراته وبرئاسته كرئيس مجلس أمناء المركز. سمعته، وكنا نتناول العشاء فى مطعم الفندق الأشهر فى مدينة طوكيو، يصحح فهم الزميل عبدالله عبدالبارى لطبيعة المركز ودوره وأهميته. كان عبدالله يتهم المركز بأنه يكلف ميزانية الأهرام، فى ذلك الحين، ما يقارب مبلغ الخمسين ألف جنيه سنويا، دون ان يحقق عائدا ماديا يذكر للمؤسسة. رد هيكل بأن الأمور لا تحسب على هذا النحو، «لأنك يا عبدالله لو جئت إلى طوكيو عضوا فى وفد صحفى فلن تحظى بالاستقبال الذى تحظى به الآن كعضو فى وفد يحمل اسم مركز للدراسات السياسية والاستراتيجية، هو المركز الوحيد فى العالم النامى لهذا النوع من الدراسات. وهذا بالضبط هو ما عنيته يا عبدالله حين وجهت رسائل إلى الدول المضيفة باسم المركز، وحين تكلمت فى كل عاصمة زرناها كرئيس له. صحيح ما قاله هيكل عن اهتمام قيادات الدول وصحفها بزيارته كرئيس لوفد من المركز، رأيناه بشكل خاص فى استقبال شو اين لاى وكبار المسئولين الهنود والباكستانيين واليابانيين. رأيناه أيضا وبوضوح مبهر ومدمر معا حين جمعنا رئيس جديد للأهرام حل بين من حلوا بعد رحيل هيكل ليبلغنا بأن المركز لا يدر دخلا وان الدولة لا تحبه وانه اجدر به ان يهتم بجمع معلومات عن المطاعم والحانات فى روما وميلانو وباريس وفيينا التى تعلن عن وظائف شاغرة لشبان مستعدين للعمل فيها، يغسلون الصحون ويمسحون الأرض ويجمعون القمامة ويحصلون البقشيش. نعم كان هيكل على حق، فالمركز بنشاطه واسلوب عمله وجرأته فى معالجة القضايا الاجتماعية والوطنية، وبخاصة فى مرحلة ما بعد الحرب، كان يمكن ان يكون مزعجا وفى أحسن الأحوال غير لازم لطرفى العلاقة، غير لازم لصانعى القرار، وغير لازم للصحيفة فى عهدها الجديد، عهد ما بعد هيكل. ••• يوم آخر له معنى، كنا، هيكل وأنا، فى بغداد لإجراء مقابلات، منها مقابلة مع صدام حسين. عدنا إلى الفندق، وكان لدينا ما نتبادله. اقترح ان نغتسل ونعود لنلتقى على باب الفندق لنخرج إلى الطريق العام. خرجنا بالفعل ومن حولنا، من أمامنا ومن خلفنا وعلى الرصيف الآخر، أعداد لا تحصى من رجال الأمن، نرى أكثرهم ويغيب بعضهم ليعود للظهور عند انثناءة أخرى فى الطريق. صدام حسين
عدد منهم لم يقصر مخاطرا بحياته فى انتهاز أى فرصة سانحة ليعرب للاستاذ عن سعادته بالمهمة. سألنى عن انطباعى عن الزعيم القائد وجاءت إجابتى سريعة. قلت إننى رأيت فى عينيه ما يخيف، مضيفا إننى لا أظن أننى قابلت من قبل إنسانا لا يبذل جهدا لإخفاء الشر المتطاير من عينيه. بل لعله كان يمعن فى إظهاره. ابتسم مرات خلال المقابلة ولكن لم تفلح ابتسامة واحدة فى تهدئة الشر أو خفوت لمعته.. لا شىء ولا قوة إلا درجة قصوى من الدمار استطاعت كبت هذا الشر أو قمعه. لا أذكر تعليق هيكل على إجابتى، ولكنى أذكر انه انتقل مباشرة إلى السؤال التالى، أو لعله الجزء الأهم فى السؤال الذى رحنا إلى بغداد بحثا عن إجابة له. سأل «هل فهمت القصد من سرده لقصة اغتيال ابن عمه فى الكويت. تقول سردية الزعيم قائد الثورة أن مجلس القيادة اجتمع واتخذ قرارا بتصفيته بناء على ما تجمع من معلومات لديها. وكالعادة اسرع كل عضو فى القيادة بتسجيل اسمه على ورقة لتوضع فى سلة، ليلتقط الرئيس إحداها ويقرأ الاسم فيصدر المجلس تكليفه لصاحب الاسم بتولى مهمة التصفية. بدأ الأعضاء، كل منهم يضع اسمه على ورقة ويسقطها فى السلة. أصر الرئيس على ان تكون له بين الأوراق ورقة تحمل اسمه، وإذا بأعضاء القيادة يتمنون أو يتوسلون ان لا يضع الرئيس ورقة فى السلة، فالزعيم لا يخاطر به. أصر الرئيس ووضع ورقة وصدر التكليف وأقرت خطة التنفيذ. كانت الخطة، حسب ما رواها لنا صدام، طويلة ودقيقة وتفاصيلها عديدة. لم يبخل الرئيس صدام علينا بالوقت أو الجهد ليسمعنا إياها. تفاصيل مذهلة عن مواعيد تحرك قافلة السيارات الرسمية وموعد وصولها إلى الحدود وتفاصيل اخفاء السيارة التى تحمل العضو المتطوع لتنفيذ التصفية لتغطية انتقاله من صالون السيارة إلى الشنطة الخلفية ليبقى داخلها حتى وصول السيارة إلى الفندق الذى يقيم فيه الهدف، ثم التحرك بعد التصفية والعودة حسب الخطة الموضوعة وبنفس الدقة، وعند تجاوز الحدود تتوقف القافلة لتسمح بعودة العضو المتطوع الذى نفذ التصفية من شنطة السيارة إلى صالونها ولتستأنف القافلة رحلتها إلى بغداد. القصة كما سمعتها، وهذا رأيى الشخصى، لا يمكن ان يحكيها بهذه الدقة المتناهية إلا شخص رسمها بنفسه ودققها، أو شخص شديد الذكاء يدعى أنه هو الذى رسم وخطط ودقق ثم نفذ. سمع هيكل رأيى، ولم يعلق فورا، ولكنه على طريق عودتنا، ومازال حولنا حرس كثر قال ولكنك لم تلاحظ ان لا احد من نخبة القيادة الذين حضروا لقاءنا بصدام تبادل خلال ثلاث ساعات النظر مع زميل له. عيونهم جميعا معلقة بعينى صدام لا ترى فى الغرفة غيره جمادا كان أم إنسانا. هكذا عشت يوما آخر له معنى. عشنا المعنى كاملا ونعيشه مع قادة وزعماء وسياسيين لم يفهموا أن عمر العنف مهما طال قصير، قصير فى حساب الاستقرار والحياة الكريمة وأقصر جدا فى حساب التاريخ. ••• أيام لها معنى، أيام اقتربت فيها من مهنة الصحافة اكثر من كل الايام التى اقتربت خلالها من مهن ووظائف أخرى وبعضها كما قلت من قبل ايام لها معنى ولكن مذاقه مختلف رأيت، فى تلك الأيام، ملوكا ورؤساء يخاصمون صحفيين كبارا، يهاجمونهم بالأسماء ويسلطون عليهم اقرانهم، يمنعون عنهم المعلومات وفى ظنهم انهم نجحوا أو يمكن ان ينجحوا فى إخضاعهم أو إذلالهم، ورغم هذه الخصومة وأحيانا الكره المتبادل، رأيتهم يحتفون بهم، ويشرحون ويبررون ويسترضونهم بالكلمة الحلوة والمعاملة المتحضرة. كنا ذات يوم على موعد مع ملك المغرب، وقبل ان نذهب إلى الموعد عرجنا على باريس لنقابل كبار المعارضين المغاربة واستمعنا إلى ما لدى فرنسا من اعتراضات على مناهج الحكم وتسيير الاقتصاد فى المغرب، سبقتنا مقالات قدمت رؤية أخرى لاحداث الصخيرات وغيرها وتقارير من مخابرات المغرب فى مصر وفرنسا، كان الاستقبال كما توقعت متحضرا، وكان الملك حاضر الذهن عاتبا عتاب الملوك، وكان هيكل جاهزا بكل الحجج والابتسامات بدون اعتذارات ودون حتى ان يلمح بها. مرت شهور عديدة على هذا اللقاء ثم نشر فى الصحافة المغربية معلومات عن المقابلة مخالفة لواقع ما حدث، وراح هيكل يرد عليها ولكن فى قفاز ناعم، ودعانى ومعى وثائقى وتسجيلاتى لأكون شاهدا منصفا فى خصومته مع القصر الملكى. ••• التقينا والرئيس التونسى فى قصره بقرطاج بعد ان درنا بالسيارة فى الحى منبهرين بنظافته وحسن تنظيمه وروعة الخضرة فيه ومن حوله، وربما كان لهذه الجولة فى قرطاج الفضل فى عودتى إلى تونس بعد سنوات واختيارى هذه الضاحية تحديدا مقرا لسنوات خمس قضيتها فى هذا البلد الجميل.. هنا فى قرطاج اخترت بيتا تونسيا بلونيه الأبيض الناصع والأزرق السماوى نجح بجماله وموقعه فى ان يستضيف على مر السنين الأصدقاء لطفى الخولى وأحمد بهاء الدين ومحمود رياض وعلى الدين هلال ونادر فرجانى وهيكل وكثيرين غيرهم. هؤلاء جميعا ذكرنى بهم مسئولون فى الأمن المصرى عند عودتى من تونس مع اقتباسات لاحاديث جرت خلال تلك الزيارات على شرفة هذا المنزل الناعم الراقد فى حضن جبل الملكة ديدون. سمعت من هيكل قبل اللقاء ببورقيبة توقعاته منه، بل وربما الكلمات بنصها والوقائع كما هى محفورة فى ذاكرة الرجل العجوز. وبالفعل كانت الغرفة التى استقبلنا فيها مطابقة لسمعتها، كما كان يصفها الصديق العزيز أحمد بهاء الدين صديق العائلة وكما وصفها الزملاء فى الخارجية المصرية. حبيب بو رقيبة
يتصدر جانبا منها تمثال لبورقيبة على ظهر حصان إبراهيم باشا، التمثال تصغير لتمثال أكبر يتصدر أهم شوارع العاصمة تونس. جلست استمع لقصة بورقيبة مع مصر، واستطيع ان اقول انى سمعتها منه شخصيا بعد ذلك أكثر من خمس مرات وسمعتها من آخرين عشرات المرات، بدايتها هذا الجندى «الأمى» حارس بوابة السلوم الذى لم يتعرف على الزعيم «سى الحبيب» عند وصوله من تونس لاجئا، ثم هذا المبلغ الزهيد الذى كان يتقاضاه بورقيبة شهريا من هيئة تحرير المغرب العربى التابعة لجامعة الدول العربية، ثم فنجان القهوة اليومى فى الكازينو المطل على تمثال ابراهيم باشا فى ميدان الأوبرا، تنتهى القصة دائما بالعلاقة بعبدالناصر، الرجل الذى تولى حكم مصر ولم يعترف لبورقيبة بحق الزعامة على كل العرب. كان بورقيبة رجلا خفيف الظل، صريحا مع الجماهير حتى فيما يتعلق بدقائق حياته الخاصة. كان يعتقد ان العرب انحرفوا عن طريق التقدم عندما اعتنقوا مبادئ قومية وآمنوا بتحرير فلسطين بالقوة وساروا وراء عبدالناصر. قال فى توديعنا ما معناه: سمعت انكم قابلتم فى روماوباريس معارضين لنا، اشفقت على وقتكم الذى أضعتموه مع اشخاص بلهاء، تماما، كما اضاع عبدالناصر وقته بالمجىء إلى بلادنا ليخطب فى الشعب التونسى. جاء واستقبله الشعب بحفاوة واستمع إليه وودعه، ورحل عائدا إلى مصر وبقى الشعب التونسى هنا إلى جانبى ولم يذهب معه. ••• وداعا يا هيكل والشكر متجدد على أيام لها معنى أضفناها معا إلى حياة استحقت دائما الأفضل من بين الناس ومن بين الأيام.