• «بركة يقبل بركة» فيلم يتحدث لغة المشاعر بأسلوب كوميدى بسيط • قصة حب تجمع شابًا وفتاة اللقاء بينهما مستحيل «بركة يقابل بركة ».. عنوان الفيلم السعودى الذى عرضه مهرجان برلين السينمائى ال66 فى قسم المنتدى، يعد بمثابة القنبلة التى تفجر اعراف وسياسات يعيشها المواطن السعودى كأمر واقع، فهو يمهد بحق لثورة قادمة فى المملكة، ليست فقط سينمائية، بكسره كل التابوهات، ولكن واجتماعية ايضا، وقد كشف العمل بأدواته الدوافع والأسباب التى تجعل التمرد على عادات وتقاليد ومقدرات وسياسات بات امرا حتميا. مضمون الفيلم المدهش والجرىء يحتوى كل ذلك وأكثر، رغم أن احداثه تدور فى إطار كوميديا رومانسية، حيث يدين طوال الأحداث قوانين عدة، بل ويثبت ان رشوة الموظف العام مبدأ قائم، وان احتلال الشيوخ منابر الفضائيات حقيقة وليست أوهاما، وأن هناك تزمتا كبيرا تجاه وجود الفنون، وحق الشباب فى الحب، وحرية المرأة. قدم المخرج والمنتج محمود صباغ فى فيلمه الروائى الطويل الأول قصته للمواطن المحلى وقال عبر حبكة درامية ثرية بسخريتها واداء أبطالها ما يريد الجيل الجديد من الشباب ان يقوله، وان كانت القيمة الفنية والإنسانية طغت على الإبهار التقنى. الفيلم صور بالكامل فى جدة، وهو صناعة شبه محلية بالكامل، ويتناول قصة جيل الشباب بكل تحولاته ومظاهره العفوية، من خلال قصة حب غير تقليدية، طرفها بركة «هشام الفقيه» وهو موظف البلدية الذى يعمل على ضبط المخالفين من الباعة والمقاولين، وهى مهمة تتناقض مع طيبته ونقاء سريرته وعشقه للحياة البسيطة، إذ لا يمكنه إيذاء أى أحد حتى لو كان ذلك بموجب القانون، هو يعيش فى حى متواضع تحكمه قوانينه ويهوى التمثيل المسرحى، والطرف الثانى فى قصة الحب «بيبى» فاطمة النبوى، الفتاة الأكثر شهرة فى عالم الانستجرام، التى تعيش مع عائلة ثرية بالتبنى، تتمنى أمها أن تنجب الولد، بعد زواج 20 عاما وتستغل الأم جمال جسدها فى عمل اعلانات للبوتيك الذى تملكه عبر مدونة الفيديو، فى البداية يلتقى «بركة» «وبيبى» بالصدفة، عندما يصله بلاغ بوجود فريق فنى على أحد الشواطئ لتصوير نجمة انستجرام مشهورة لإعلانات تجارية، وهو أمر يخالف عادات وتقاليد المجتمع، ولكنه يتغاضى عن بعض الخروقات ليستمر التصوير، إلا أن قلبه يلتقط الإشارات الأولى أو ربما ولد الحب من أول نظرة، لكنهما لا يعرفان فيما بعد كيف يلتقيان أو يأخذان فرصتهما كى تنمو المشاعر، فكل شىء ممنوع، حتى مجرد الحلم بفتاة الأحلام، فمحاولات اللقاء تنتهى غالبا فى محل بقالة، أو فى جولة سريعة فى السيارة، فاللقاء فى مطعم من المستحيل، أو امام البحر يعتبر مغامرة مع الشرطة الدينية، مع أن بركة طوال الوقت يؤكد «البحر بحر ربنا، وهو للجميع»، ونذكر فى أحد المشاهد عندما تقابلا قالت بيبى لبركة «خلى مسافة بينا»، وفى مشهد آخر عندما التقيا فى معرض تشكيلى يأتى من يخبرهما بصراخ هامس، بضرورة تهريب النساء من الموقع، لأن هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الطريق، وفى لقاء ثالث ومفاجأة لإذاعة اخرى اعترفت بيبى ان اسمها الحقيقى بركة، لكنها كانت تخجل منه فهى كانت مكبوتة بسبب الزيف والكذب والازدواجية التى عاشتها، خاصة بعدما اكتشفت انها ليست ابنة مدام «ميادة»، بل فقط الموديل الأول فى بوتيكها الشهير «كراكوزة»، وأنها يتيمة، تم التقاطها وتأهيلها لتصبح دمية شقراء فى بيت بلا مشاعر، ولا علاقات دافئة، وكل ما فيه مصنوع، وأن مدام التى لم ترزق بطفل تفكر فى الاحتفاظ بها كديكور منزلى. أجاد مؤلف ومخرج الفيلم الربط بين عالمين، الأول يخص شخصية بركة «الرجل»، حيث نراه مستسلما بشكل يومى لنصائح «الدادا سعدية» التى تقرب الحبيب، وتعالج العقيم، وجاره «دعاش»، تلك الشخصية الواقعة تحت تأثير القهر المعنوى، والشرب، والتمرد، وطوال الوقت تجد حواره ومواقفه تشكل رؤية لاذعة للواقع ولزوجته سعدية تفجر معها ضحكات المشاهدين، بل ومنذ اللحظة الأولى من الفيلم بدأت الضحكات فى القاعة توحد جميع الجنسيات الحاضرة وقد أجاد فى أدائها بحق الممثل سامى حفنى، كما يبرز التناقض الشديد بين حالة المجتمع السعودى فى عهود سابقة والآن، حيث كان زمان أكثر ليبرالية فى تعامله مع الثقافة والفن وتعاطى الحياة العامة خاصة فى الفترة من عام 1960 أى 1970، وتوصل العمل أن الحياة سابقا كانت أكثر جمالا وانفتاحا، كان المسرح فيه جمهورا من الجنسين، وكانت الإذاعة تبث أحلى الأغنيات، وكانت الناس تغمى قبل محاولات تكفيرية بتهديد هذا الصفو، وتحريم حتى صوت أم كلثوم. فى رحلة التناقض هذه نجد بركة يتعاون مع فرقة هواة مسرحية، ليجسد دور اوفيليا حبيبة هاملت، لأنه لا يجوز للمرأة ان تمثل، وكان مشهدا ساخرا، حيث امسك فيه بركة بحمالة الصدر ليوحى باختراق ألغام قادمة، وقد شاهدنا كاميرا المصور فيكتور كريدى وهى تجوب شوارع واماكن عادية فى جدة وهو ما لم يكن متاحا قبل ذلك، وقد رسمت العدسة سيناريوهات المحرمات الاجتماعية المحلوم بها والمتعذرة فى آن. بطلا الفيلم أرادا من حكاية حبهما أن ينقلا معنى أن يكون الفرد حالما فى ظل الإرهاب الفكرى والفعلى الذى يتعرض له العالم، فهو فيلم عن الحب بكل معانيه المرتبطة بالحى، بالجار، بالعائلة، والوطن، وعن أى شخص يريد دائما أن يعرف فقط ماذا يجرى فى المملكة العربية السعودية وفى مجتمعها المحافظ، فقد أصبح هناك جيل جديد يريد أن يحب ويعشق، ويمارس أبسط حقوقه فى التعبير عن هذه المشاعر، حتى وان جاءت النهاية ضعيفة وأقل من روح القصة، لكن ظهور مثل هذه القصص ستعمل على تغيير شكل السينما والمجتمع، فقد خيبت النهاية أفق المشاهد بكونها ليست سعيدة ولا تراجيدية، حيث جلسا على كرسى مشترك تفصلهما مسافة سنتيمترات، وهى المساحة التى تعبر عن الفجوة الكبيرة، فلا ابنة الطبقة المرفهة تخلت عن قيم طبقتها، ولا ابن الحى الشعبى صعد إلى عالمها وهكذا افترقا وظلت الرغبات ممنوعة. بدون شك فإن محمود صباغ رسم شخصياته بالأفكار والعواطف والمعتقدات والأوهام ليبنيها بمقتضى حاجة الفيلم، وذلك بمزيج من الحس الرومانسى والكوميدى بصيغته الرثائية الساخرة للواقع، وهو ما يعود الفضل فيه ايضا للأداء اللافت للمثل والعفوى لهشام فقيه بشخصية بركة وباقى شخصياته بيبى، ودعاش، وسعدية، وميادة عرابى، بحوار مكتوب بحرفية عالية كمكون بنائى للشخصيات، اراد صباغ أن يقول إن وجودهم الأنطوقى هو مرآة حضورهم الحياتى، أو مجتمعهم الضيق الذى يشبه السجن. فى النهاية أرى ان سر روح الفيلم فى بساطته، حيث استطاع أن يوصل الرسالة ببساطة، وهى أن الحب يحتاج إلى مكان يحتويه، وقد راهن صباغ على تحقيق حضور متميز فى المهرجان، لأن الجميع كان يريد ان يرى ما تطرحه آتية من بلد لا يعرف أى مظاهر للسينما رسميا منذ عام 1979 وهو ما تحقق بالفعل ليؤكد ان السينما السعودية المستقلة اصبحت جاهزة للخروج للعالم.