«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زكى سالم يكتب عن أحلام فترة النقاهة للأديب الكبير نجيب محفوظ «5»
نشر في الشروق الجديد يوم 06 - 02 - 2016

لعلك تعلم – يا صديقى العزيز – أن أستاذنا العظيم نجيب محفوظ، كان مثالا للدقة، والانضباط، وحسن تنظيم الوقت واستثماره، ولولا هذا الحرص الشديد على قيمة «كل لحظة»، لما استطاع أبدا أن يُنتج لنا كل هذه الأعمال الإبداعية الخالدة.
مع ملاحظة أن أستاذنا بعد أن تخرج فى الجامعة مباشرة، أى فى صيف عام 1934، أصيب بمرض فى عينيه، منعه من القراءة والكتابة بكثرة فى أيام الصيف، ومن ثم كان يبدأ موسم الكتابة بداية من شهر أكتوبر، وحتى شهر مايو، وخلال هذه الشهور، كتب أستاذنا كل رواياته البديعة وقصصه الجميلة، أما شهور الصيف فكان يستغلها فى التأمل والتفكر والتخطيط، ثم تبدأ عمليه الكتابة بعد انتهاء فصل الصيف، وهكذا كانت جل أعماله تبدأ وتنتهى فى خلال سنة واحدة، وثمة استثناءات قليلة، أهمها كانت «الثلاثية»، عمله الأكبر، من جهة الحجم، فقد استغرق التفكير فيها وكتاباتها نحو خمس سنوات.
أما آخر أعماله، «أحلام فترة النقاهة»، فقد استغرقت أكثر من عشر سنوات، وهى تعد، من وجهة نظرى، أخصب المراحل الإبداعية لنجيب محفوظ.
وإذا نظرنا إلى عدد هذه الأحلام، الذى تجاوز الخمسمائة حلم، نُدرك حجم التدفق الإبداعى المدهش لأستاذنا الأكبر، مع مراعاة حالته الصحية، وتعرضه للمرض، ودخوله إلى المستشفى، مرات عدة، فى خلال العقدين التاسع والعاشر من عمره المثمر، وبرغم ذلك فإنه، فى المتوسط، كان يُبدع نصا غير قابل للتكرار، كل أسبوع، فيا له من أسطورة يندر أن يُجود الزمان بمثلها.
•••
فى حلم رقم (222): «رأيتنى أعاصر التغير الكبير حيث ألغيت الحدود بين الدول ورفع عن المرور أى عوائق تحت مظلة العدل والحرية واحترام حقوق الإنسان، وتجولت بين العواصم ووجدت فى كل مكان عملا مناسبا ولهوا ممتعا ورفقاء فى غاية العظمة، ثم حننت إلى مصر فرجعت إليها وقابلنى أصدقاء الطفولة وطلبوا منى أن أحدثهم فقلت لهم: هلموا أولا إلى الحى القديم فنصلى فى مسجد الحسين (رضى الله عنه) ثم نتغدى عند الدهان ثم نذهب إلى الفيشاوى فنشرب الشاى الأخضر وأقص عليكم العجائب».
ها هو أستاذنا يحلم بما نحلم به جميعا، بأن تصبح الأرض كلها للأنام جميعا، بإلغاء الحدود المصنوعة بين الدول، حتى تتاح حرية التنقل والسفر للبشر كلهم، دون تمييز مفتعل بين الناس، تحت مظلة العدل والحرية واحترام حقوق الإنسان، هذا حلم البشرية الأروع، حيث يتاح العمل المناسب لكل إنسان، ويجد الناس وسائل اللهو الممتع، فيسعد الجميع ببهجة الحياة، ومن ثم نجد الرفاق فى قمة العظمة، فحينما تتحسن ظروف معيشة البشر، وتسود قيم العدل والحرية والكرامة، (قيم ثورة يناير النبيلة)، سترى الغالبية العظمى من البشر أسوياء، ويحسنون التصرف، إذ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، لكن كل هذه الأوضاع المثالية، لا تمنع الإنسان من الحنين إلى بلده وأهله وأحبابه، ومن ثم لابد من العودة، فى النهاية، إلى حضن الوطن!
كما لابد للمثقف أن يقوم بدوره الحيوى فى نقل التجارب الإنسانية، والمعارف الجديدة إلى الآخرين، فتعم الفائدة، ويتسع الوعى العام، وتتفتح العقول، وتضىء بنور الحضارة الحديثة.
•••
وفى حلم رقم (223): «رأيتنى أحمل حقيبة السفر الكبيرة أنا وزوجتى وإذا بالمحبوبة «ب» تجيء فتساعدنا، فاستخفنى الطرب ولمست يدها وقلت: لن أنسى هذه اللحظة ما حييت، فقالت لى: بل عليك أن تنساها وأصارحك بأننى سعيدة مع زوجى وأولادى، فانطفأت آخر شمعة فى مصباحى».
ما الحياة إلا رحلة سفر، طويلة كانت أم قصيرة، وكل منا يحمل حقيبته، ومن كانت حقيبته كبيرة، فحمله ثقيل، أو كما يقول أهلنا من المسيحيين: «صليبه ثقيل».
وإذا كان الراوى تشاركه زوجته فى هذه الرحلة، وفى حمل الحقيبة الكبيرة، إلا أن شعوره بثقل أعباء الحياة اليومية، يتجلى واضحا، ومن ثم حين تظهر الحبيبة وتساعدهما، يستخفه الطرب، فيلمس يدها، وفى هذا إشارة واضحة لرغبته فى القرب منها، والتشبث بملمسها الناعم فى ثنايا حياته الخشنة، ولذلك أعتبر هذه اللحظة الخاطفة أجمل ما فى حياته، إلا أنها قضت تماما على كل أحلامه فى حياة أخرى، يستمتع فيها مع شريكة يُحبها وتحببه، ومن ثم انطفأت آخر شمعة، أو آخر أمل له فى حياة يملأها الحب وتغمرها السعادة.
وكم يمثل هذا الرواى من أناس كثيرين فى بلادنا، إذ يعيشون مع شركاء لا يحبونهم، فيشعرون بأعباء الحياة ثقيلة للغاية، فالبشر لا يسعدون، فى هذه الحياة، بدون مشاركة وجدانية مع الآخرين، وبدون حب حقيقى يدفء القلوب، ويفتح العقول، ويُطلق الطاقات الإنسانية الخلاقة.
•••
وفى حلم رقم (224): «رأيتنى معها فى حديقة الشاى وهى تقول لى: أنت وعدت أن تزور أبى وهم ينتظرونك، فقلت لها إننى عندما علمت بأننى أكبر منها بعشرين عاما تراجعت حتى لا أظلمها، فقالت: لكننى لا أعترض، فقلت لها أنا لا أستغل البراءة وأظلمك، ومرت أيام عذاب طويلة حتى علمت أن زميلى «أ. ن» عقد قرانه عليها وهو يماثلنى فى العمر وأكثر من ذلك أنه أرمل وأب لبنت فى سن الزواج فتذكرت الشعر الذى يقول:
«من راقب الناس مات غمًّا وفاز بِاللذةِ الجَسورُ»
فى هذا الحلم إشارة لموضوع فى غاية الأهمية، نراه كثيرا فى حياة الناس اليومية، وسبق أن كتب عنه الأستاذ نجيب، فى أكثر من حلم، وهو يتعلق بأهمية اتخاذ الإنسان للقرارات المهمة فى الحياة بشجاعة، وفى الوقت المناسب، فكثير من العلاقات الإنسانية تفسد تماما، أو تنتهى نهائيا، حين يتأخر الإنسان عن اتخاذ القرار الحاسم فى الوقت المناسب.
بالإضافة إلى أمر آخر، يبدو أكثر وضوحا، فى هذا الحلم، وهو يتعلق بفكرة خداع النفس، فكثيرا ما يُفضل البشر أن يخدعوا أنفسهم، باستخدام حجج أخلاقية، يخفوا وراءها خوفهم أو ضعفهم أو ترددهم، فالراوى هنا يخشى من الأقدام على زواج هذه الفتاة الصغيرة، لأسباب عديدة، يمكن لنا أن نستنتج بعضها، فمن يتأخر فى اتخاذ قرار الزواج، عادة ما يتردد كثيرا قبل أن يقدم على هذه الخطوة المهمة، بل إن بعضهم، قد يقضى حياته كلها فى هذا التردد العجيب!
والراوى هنا، يقابل فتاة تقبل بفارق السن بينهما، لكنه لا يملك شجاعة اتخاذ القرار السليم فى الوقت المناسب، وهو أيضا يُغلف ضعفه الإنسانى بغلالة أخلاقية، تسقط سريعا حين يتقدم آخر، يماثله فى العمر، وظروفه الخاصة أصعب، لكنه أكثر شجاعة وإقداما، ومن ثم يختم أستاذنا حلمه ببيت من شعر أحد شعراء العصر العباسى الأول، هو سلم الخاسر، (المتوفى 186 ه)، وقد ذكر أبوالفرج الأصفهانى، فى كتابه الموسوعى «الأغانى»، تفسيرا لسبب تسميته بالخاسر، أنه لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه، فوقع فى قسط سلم مصحف، فرده وأخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه، فلقب حينئذ بالخاسر.
•••
وفى حلم رقم (225): «رأيتنى فى مكتبى أستقبل فتاة هى قريبة لى من بعيد وأخبرتنى بوفاة أمها من أسبوع فتذكرت فترة من الماضى الجميل. وقالت: إنها أوصتنى قبل وفاتها بأن ألجأ إليك عند الحاجة إلى مشورة، فقلت فى نفسى: يرحمها الله آثرتنى على خالها وعمها، فلا خيبت لك ظنك».
ها هو الراوى يُعلى من قيمة العلاقات الإنسانية الجميلة، بما يجعلها تعلو على صلات الدم والرحم، فكما قال الشاعر العربى الشريف الرضى (355 436 ه):
«رُبَّ أخٍ لى لم تلده أمّى
ينفى الأذى عنّى ويجلو همّى
ويصطلى دونيَ بالملمِّ
إذا دعيت اشتدَّ ماضى العزم
كأَنَّ ما قال منادٍ باسمى».
فثمة علاقات رحم لم يك لنا يد فيها، ومن ثم ربما تكون رائعة، أو غير ذلك، أما العلاقات الإنسانية الأخرى، والتى اخترناها بمحض إرادتنا، بناء على ائتلاف الأرواح، أو اتفاق الأفكار، كعلاقات الحب والصداقة، فمثل هذه العلاقات الوثيقة من أجمل نعم الحياة الدنيا، والراوى يُقدر هذه الصلات القوية بين البشر، كما تقدرها أيضا المرحومة وابنتها، وهكذا كان أستاذنا الأكبر فى حياته الشخصية، فقد كان يُقدر الصداقة جدا، وعلاقاته مع أصدقائه المتنوعين كانت مثالا يحتذى فى المحبة والمودة، والمشاركة والرقى.
•••
وفى حلم رقم (226): «رأيتنى مع كتيبة من الجنود فى مخبأ مغطى بالأعشاب نتحين الفرصة للخروج ومفاجأة العدو، وفى الوقت نفسه نخشى أن يعثر العدو على باب المخبأ فيسلط علينا غازاته ونموت كما تموت الفئران».
يحتوى هذا النص القصير على خلاصة رأى أستاذنا النبيل فى قضية بالغة الأهمية، تتعلق بالحروب المشتعلة بين البشر، فعبر تاريخ البشرية كله، ثمة صراعات كثيرة، وحروب متواصلة، وقتل وتدمير، وانتهاكات فاضحة لحقوق الناس وكرامتهم، وجرائم بشعة ضد الإنسانية، وشيخنا الحكيم لا يرى أن الحروب هى الوسيلة الصحيحة لحل الصراعات بين البشر، ولذلك كان دائما مع السلام، وضد الحرب، وكان يرى أن معايير التقدم البشرى، والتحضر الإنسانى، والرقى الحضارى لا يصح أن تسمح بموت البشر هكذا كما تموت الفئران.
•••
وفى حلم رقم (227): «رأيتنى جالسا مع المرحوم «ك» فى شرفة بيته الريفى تحت ضوء البدر الساطع وفى حضن ليل الريف الساجى وكان يقول لى: أنت تعلم أنى لا أهتم بالسياسة وعلى الرغم من ذلك انقض علىَّ زوار الفجر وساقونى معصوب العينين إلى حجرة مظلمة قضيت فيها شهرا دون تحقيق ولا معرفة لسبب ذلك، ولما عدت إلى قريتى كانت أعصابى قد اختلت ثم كانت النهاية. فقلت له: لقد سار فى جنازتك جميع الحرافيش وهم يتساءلون».
منذ عقود طويلة، وحتى الآن، وشعبنا الطيب يعانى مرة المعاناة من زوار الفجر هؤلاء! ولعل كل منا يعرف عددا من أمثال هذه القصص الإنسانية المؤلمة، إذ يتم القبض على الأبرياء، بطريقة مهينة للغاية، ثم يوضعون فى أماكن احتجاز غير آدمية على الإطلاق، ومنهم من يتعرضون للتعذيب الشديد، من أجل الحصول على اعترافات غير حقيقية، وأحيانا يتم الزج بهم فى قضايا سياسية أو جنائية ملفقة، وكل هذه المعاناة للأبرياء وأسرهم البائسة، بسبب أن ثمة فرعون أحمق مستعد أن يوسد عرشه (الزائل) فوق جماجم البشر!
ومن الملاحظ فى أمثال حالات الظلم الفادح هذه، أن المناضلين الحقيقيين يمكنهم أن يحتملوا البهدلة والسجن والتعذيب، أما الأبرياء فلا يعرفون سببا لمعاناتهم القاسية، ومن ثم غالبا ما يتعرضون لأزمات نفسية عنيفة، وقد يفقدون حياتهم جراء معاناتهم النفسية والجسدية.
وهذا الشهيد، كما نقول بالعامية، لا ظهر له، ولذلك ضرب على بطنه، حتى الموت، وإذا كان هو لم يعلم سببا لكل ما تعرض له من ظلم، فكذلك جميع أصدقائه من الحرافيش، كانوا مثله يتساءلون عن السبب فى معاناة إنسان برىء؟!
والإجابة عن هذا السؤال الجوهرى، أنت بالتأكيد تعرفها يا صديقى، كما يعرفها ملايين المصريين الأحرار الذين ثاروا فى يناير 2011.
•••
وفى حلم رقم (228): «رأيتنى فى الإسكندرية ودخلت بنسيونا أنيقا وتبين لى أن التى تديره هى حبيبتى فغرقت فى العشق حتى قمة رأسى فقالت لىِ: لمَ لا نتزوج إذن؟ فقلت متذكرا ما جرى بينى وبينها فى العباسية: إنى أخشى إن تزوجتك أن أفقدك. والمرة الثانية وجدت البنسيون مغلقا وقال لى البواب إن المدام رحلت إلى أثينا موطنها الأصلى».
كان يخشى أن يفقدها، فماذا حدث؟ ولماذا؟ وهل الحب دائما ما يكون هكذا، خاطفا، أو محدد المدة؟!
إن هذا الحلم القصير، يثير الكثير من الأسئلة عن علاقة الرجل والمرأة، فالعشق وحده لا يكفى، لاستمرار العلاقة بينهما، وإنما لابد من القدرة على احتواء كل طرف منهما للطرف الآخر، والتحلى بالمعانى السامية للمودة والرحمة، سواء فهم كل منهما منطق الآخر، أو لم يفهمه، إذ إن التعاطف والتراحم ضرورى بين الطرفين، وخصوصا فى ساعات الغضب.
فالراوى يتذكر ما حدث بينهما فى العباسية، ونحن لا نعلم تفاصيل ما حدث، لكن يبدو أن ثمة خلافا نشأ بينهما، مما أدى إلى ما يُشبه التصدع فى علاقتهما، ولأن الراوى لا يريد أن يفقدها، فقد تصور أن العلاقة بينهما يمكن لها أن تستمر إذا ما ابتعدت عن التزامات الحياة الزوجية، لكنها كانت تفكر بطريقة مختلفة، وهذا الاختلاف فى النظر إلى الأمور، وعدم فهم كل طرف لطريقة تفكير الطرف الآخر، هو السبب الأهم فى تصدع كثير من العلاقات العاطفية.
•••
وفى حلم رقم (229): «وجدتنى فى مقهى ريش مع أصدقاء ريش وكلنا ننتظر بدء الحفل، وجاء أعضاء الأوركسترا حتى اكتملوا عدا وعدة إلا المايسترو فوضعنى الأصدقاء مكانه وأدرت الحركة بنجاح، وتخلل العزف صوت أم كلثوم وصوت عبدالوهاب، وغنى الأصدقاء والنادل وصاحب المقهى وفتحت النوافذ التى تحيط بالمقهى، واشتركوا جميعا فى الغناء حتى تواصل الغناء بين السماء والأرض».
كم يعتز أستاذنا الكريم بعلاقات الصداقة، ولذلك كثيرا ما يظهر أصدقاؤه فى أحلامه، وها هم يقدمونه من بينهم لقيادة الأوركسترا، فإذا به يقوم بدور المايستروا بتلقائية ونجاح، ولعل هذا الموقف يذكرنى بما حدث مع أستاذنا فى أيام الإعلان عن حصوله على جائزة نوبل عام 1988.
ففى السنوات التى سبقت حصوله على الجائزة، كان أستاذنا دائما ما يقول إن الاسم العربى الوحيد الجدير بالترشيح لجائزة نوبل، هو توفيق الحكيم!
فعلى مدى سنوات صداقتهما (محفوظ والحكيم)، والتى امتدت لأكثر من نصف قرن، كان أستاذنا يتعامل مع الحكيم باعتباره أستاذه، وقد كان لى شرف الجلوس معهما، ورؤية بعض ملامح الصداقة الرائعة بينهما، أما هذا التواضع المحفوظى فكان ومازال يأسر لُبى.
وحين جاءته الجائزة تسعى إليه، تحدث إلى العالم كممثل للأدب العربى كله، وتصرف بنبل وأريحية، فاعتبر أن أساتذته: طه حسين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم أحق منه بالجائزة! وأهدى الجائزة إلى صديقه يحيى حقى، وتعامل مع الناس جميعا بمنتهى الحكمة.
وقد كنت أخشى عليه حينئذ، وهو فى سن متقدمة (77 سنة) من الإرهاق، والتوتر، والضغط العصبى، وكنت أقول لنفسى: كيف يكتب الأستاذ كلمته التى ستلقى فى احتفال الجائزة، وهو يشعر بكل هذه الضغوط من حوله؟!
لكن حين استمعت إلى خطابه ثم قرأته مرات عدة، قلت فى نفسى: لو أن حكماء الأمة وكتابها الكبار اجتمعوا معا لكتابة هذه الكلمة الأولى من نوعها فى لغتنا العربية، لما أمكنهم أن يكتبوا مثل ما كتب الأستاذ من كلمات فى غاية الصدق والقوة والعمق والروعة والجمال.
فنجيب محفوظ، الأديب العالمى، صاحب القلم العبقرى، هو أيضا فيلسوف صاحب رؤية كونية ثاقبة، وله أطروحاته الخلاقة لتطوير عالمنا إلى الأفضل.
اقرأ أيضا
زكى سالم يكتب عن حكاية «أحلام فترة النقاهة»
زكى سالم يكتب عن أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة «2»
زكى سالم يكتب عن أحلام فترة النقاهة الأحلام الأخيرة للأديب الكبير نحيب محفوظ «3»
زكى سالم يكتب عن «أحلام فترة النقاهة» للأديب العالمى نجيب محفوظ (4)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.