فى إدارة شئون الحكم، اختلالات خطيرة ترتب الفشل المستمر فى إخراج الوطن من أزمته. من جهة، يغيب التداول الحر للمعلومات والحقائق، إن داخل أروقة المؤسسات والأجهزة الرسمية أو بينها وبين التنظيمات الوسيطة للمجتمع (المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية) كما بينها وبين المواطن. بل، يجرم عملا التداول الحر للمعلومات والحقائق بشأن قضايا مصيرية (على سبيل المثال، تفاصيل برامج وإجراءات مكافحة الفساد المستشرى فى العديد من المؤسسات والأجهزة) باستدعاء ما يوصف «كمقتضيات الأمن القومى» ويترجم فى الواقع المعاش إلى مسكوت عنه وخطوط حمراء. وتتمثل كلفة الغياب والتجريم هنا فى أمرين؛ أولهما مرغوب من قبل السلطة الحاكمة وهو تجهيل المواطن وتزييف وعيه ومنعه من الاهتمام الفعال بالشأن العام، وثانيهما لا تدركه السلطة على الأرجح وهو انعدام قدرتها على ممارسة المراجعة الذاتية لقراراتها وسياساتها وتصويبها أو تعديلها أو تغييرها حين تتضح تداعياتها السلبية. فالمواطن يحتاج إلى توفر المعلومات والحقائق لكى يتفاعل مع القضايا العامة التى تدور من حوله وتؤثر فيه، وممثلو السلطة الحاكمة فى الدوائر التنفيذية والتشريعية والقضائية لا ينزعون إلى مراجعة قراراتهم وسياساتهم ما لم يتوفر نقاش عام جاد جوهره تداول المعلومات والحقائق وتعددية الطرح والتعبير الحر عن الرأى دون خوف من تعقب أو قمع. من جهة أخرى، تهيمن الأجهزة الأمنية، على شئون الحكم وعملية صناعة القرار العام وتحديد هوية المشاركين المؤثرين فيها تنفيذا وتشريعيا وقضائيا. وعقيدة هذه الأجهزة، عندما تختفى الآليات الديمقراطية وتهيمن السلطة على الدولة وتخضع المجتمع تعقبا وقمعا وتهدد المواطن بالعقاب ما لم يتمثل لإرادة الحكم، هى الإدارة المنفردة وتصعيد الموالين ورفض وجود معارضة فعالة. تدعى الأجهزة الأمنية احتكارها للحق الحصرى لتحديد جوهر «المصلحة الوطنية»، وتنتظر من الناس التأييد المطلق للحكم وللقرارات والسياسات الرسمية التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ويتبع ذلك تمكين الموالين، الذين تنظر إليهم الأجهزة كعرائس تتحرك على خشبة مسرح معدة بدقة وتوجهها الخيوط المشدودة بعناية بهدف ضمان بقاء الحكم والحاكم، من الهيمنة على صناعة القرار العام. ثم تغلق «الدائرة» بتعريف تنوع الآراء والأفكار كخيانة جزئية أو كلية للوطن، وتوصيف كل عمل معارض حتى وإن التزم السلمية والعلنية «كمؤامرة» تستدعى الإحباط. تصنع إدارة شئون الحكم على نحو منفرد من قبل الأجهزة الأمنية الكثير من الجدران العازلة بينها وبين المجتمع والمواطن، كما أنها نادرا ما تأتى بنجاحات تنموية واقتصادية واجتماعية مستدامة. بل إن الإدارة المنفردة هذه تدخل السلطة، من أعلى قمة هرم الحكم وصناعة القرار بها إلى أدناه، فى بارانويا خوف دائم من المجتمع والمواطن، ومن انتفاضات محتملة للغضب الشعبى، ولذلك، تتورط الأجهزة الأمنية فى مظالم وانتهاكات واسعة النطاق، وفى ممارسات قمعية أخرى تستطيل قوائم ضحاياها من الأفراد والكيانات لتضم مجموعات من الطلاب والشباب والعمال والكتاب والصحفيين وبعض المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية ودور النشر (كما حدث أخيرا مع دار ميريت للنشر) وبعض المصالح الاقتصادية والمالية الخاصة (لأصحابها المغضوب عليهم رسميا أو غير المنضوين تحت عباءة تأييد النخب الاقتصادية والمالية للسلطة الحاكمة وتحالفها معها). والنتيجة هى سطوة كاملة للأمنى على كل ما عداه، والتفلت الكامل للمظالم والانتهاكات والممارسات القمعية من كل الحدود المرسومة لها من قبل السلطة الحاكمة. لا أعنى فى هذا السياق الحدود الأخلاقية والإنسانية، فالاعتبارات الأخلاقية والإنسانية لا أهمية كبيرة لها فى عالم السلطة. بل أشير إلى الحدود المرتبطة بالعلاقة بين الكلفة الفعلية للقمع، وهى باهظة حين يتسع نطاقه، وفعاليته فى ضمان بقاء الحكم وهى تتراجع حين يتسع النطاق ويعتاد الناس القمع. ولحديث الاختلالات بقية.