إن المتابع للمواقف السياسية لإيران يصاب أحياناً بالحيرة في فهم خلفيات مواقف هذه الجمهورية الصعبة. فقد صدر تصريح ل"علي ناطق نوري" المفتش العام في مكتب قائد الثورة الإيرانية، إدعى فيه تبعية مملكة البحرين لإيران، وأنها كانت تُشكل المحافظة التاسعة عشر لها. وقائل هذه التصريحات هو مسئول إيراني رفيع المستوى ويحتل مركزاً هاماً في مكتب قائد الثورة الإيرانية، مما يعطي هذه التصريحات طابعاً رسمياً، وأكثر أهمية من تلك التي سبق أن عبر عن مثلها "حسين شريعتمداري" رئيس تحرير صحيفة كيهان في مقال له (يوليو 2007). وتضمن قوله: «إن البحرين تعتبر جزءاً من الأراضي الإيرانية، وقد انفصلت عن إيران إثر تسوية غير قانونية بين الشاه المعدوم وحكومة الولاياتالمتحدة وبريطانيا.... وأن المطلب الأساسي للشعب البحريني حالياً هو إعادة هذه المحافظة التي تم فصلها عن إيران إلى الوطن الأم والأصلي أي جمهورية إيران الإسلامية». كما تتردد بين الحين والآخر تصريحات إيرانية حول ملكية إيران للجزر الإماراتية الثلاث. وتوقيت صدور هذه التصريحات يثير الحيرة والاستغراب. ويذكرنا بدعاوى "صدام حسين" الكارثية بشأن الكويت، التي أشار فيها أنها كانت تشكل المحافظة التاسعة عشر للعراق، وما جلبته مثل هذه الإدعاءات للمنطقة من نكبات. إن مثل هذه التصريحات تعيد للأذهان النظرة الإيرانية القديمة إلى البحرين، وما تحمله في طياتها من إحياء لقضايا يفترض أنها قد حُسمتْ، وتجاوزها الواقع، ولم تعد تنسجم مع الواقع الراهن في منطقة الخليج ومع مبادئ حسن الجوار. ويلاحظ أنه بعد احتجاج البحرين عليها، صرحت الخارجية الإيرانية بأن هذه التصريحات لا تمثل موقفاً أو اتجاهاً رسمياً. إلا أننا نود أن نشير إلى ما يلي: 1- قائل هذا التصريح يشغل منصباً رسمياً في مكتب قائد الثورة الإيرانية، أي قريب من أوساط صنع القرار الإيراني، ويصعب تصور صدوره دون تشاور، إن لم يكن بتوجيه. 2 – إن صدور هذا التصريح جاء توقيته والمنطقة تمر بمرحلة حرجة للغاية، ومفتوحة على كل الاحتمالات والخيارات، فما زالت أزمة الملف النووي الإيراني مع المجتمع الدولي لم تحسم بعد، كما أن تداعيات "محرقة غزة" ما زالت تتوالى، وهو ما يفترض – منطقياً – الابتعاد عن كل ما يثير الشكوك والهواجس لدى جيران إيران، ويخلق مزيداً من المشاكل في المنطقة. 3 – أن من مصلحة كل الأطراف في منطقة الخليج، وبصفة خاصة إيران، إبعاد المنطقة عن بؤر جديدة للتوتر، حتى لا تستغلها الأطراف الخارجية المتربصة بالمنطقة، في وقت اتخذت فيه البحرين، إضافة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي، موقفاً إيجابياً من أزمة الملف النووي الإيراني، وأعلنت أكثر من مرة رفضها توجيه أي ضربة عسكرية لإيران، وضرورة السعي لحلها بالطرق السياسية. 4 – أن المنطقة ودولها بأمس الحاجة لدعم علاقات حسن الجوار، ومحاولة إعادة بناء جسور الثقة بينها. وصدور مثل هذه التصريحات يهدر كل الجهود التي بذلت في هذا الاتجاه، ويعيد العلاقات بين دول المنطقة إلى دائرة الشك وإدعاءات الإرث التاريخي وما شابه. 5 – يفترض أن تتعامل إيران الإسلامية مع جيرانها من دول الخليج العربية، بشكل يهيئ الفرص لعلاقات أوثق بين شعوب المنطقة، وتجنب كل ما من شأنه إثارة المخاوف من جديد حول أطماعها في جيرانها، لأن ذلك يفقدها مصداقية الانتماء الإسلامي، الذي هو أساس شرعيتها. 6- إن هناك تصريحات من جانب الإدارة الأمريكيةالجديدة عبرت عن رغبتها في حوار مباشر مع إيران التي أبدت بدورها استجابة أولية لها. وربما رأت القيادة الإيرانية تعزيز مركزها وفاعليتها بإضافة ملفي البحرين والإمارات إلى الحوار المنتظر ضمن مقايضاتها الإقليمية. لقد كنت، وما زلت، من المؤيدين للتقارب بين إيران والدول العربية، وضرورة تجاوز الخلافات والقضايا التي تعرقل ذلك، صيانة للمستقبل. وأتذكر أنني دعيت إلى حفل عشاء/ نقاش أقامه المجلس المصري للشئون الخارجية يوم 28/3/2007، على شرف السيد/محمد خاتمي خلال زيارته لمصر للمشاركة في اجتماعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فوجهت إليه عدة أسئلة من بينها سؤال حول أسباب رفض إيران لتسوية مشكلة احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث منذ عام 1971 بالطرق السياسية، لنزع ذرائع الأطراف الخارجية التي ترغب في استغلال هذا النزاع، فأجابني «أنه يوجه لي عتاباً خاصاً لأنني وصفت هذه الجزر "بالمحتلة" من قبل إيران، ومتناسياً أن هذه الجزر إيرانية». لقد مرت العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي بمستويات متعددة ومتقلبة، انتقلت فيها من مرحلة الاستطلاع إلى بداية الانفراج، ودُعى الرئيس أحمدي نجاد إلى بعض قمم هذا المجلس، وكان من المأمول منه أن يكون ذلك بداية الانفراج ومرحلة جديدة من العلاقات واستعادة الثقة المتبادلة، غير أن التصريحات الأخيرة التي تتناول الإرث التاريخي الماضي، تعيد هذه العلاقات من جديد إلى دائرة الشك والمخاوف. ويلاحظ أن التصريح الإيراني الأخير تناول دولة تُحسب على مجموعة "دول الاعتدال" العربية، التي تضم إلى جانب البحرين، مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات والأردن، وفي وقت تتأزم فيه العلاقات بين هذه المجموعة و"دول الممانعة"، وكانت مثل هذه التصريحات لا تلقى في السابق اهتماماً كبيراً، أما هذه المرة فإنها استوجبت زيارة قام بها الرئيس مبارك للبحرين (16/2/2009)، وهو ما يعتبر رسالة تضامن مصرية على أعلى مستوى مع المملكة. كما قام الملك عبد الله ملك الأردن بزيارة مماثلة للبحرين لنفس الهدف، وصدرت تصريحات استنكارية من قبل السعودية وأطراف آخرى. وردود الفعل من جانب "دول الاعتدال" على هذا النحو، يبدو أنها تشير إلى بداية تحرك لتفعيل ما اتفق عليه وزراء خارجية الدول العربية التسعة لمواجهة ما يسمى ب"المد الشيعي" وإدعاءات إيران تجاه بعض دول منطقة الخليج، وتدخلها في القضايا العربية الشائكة، لاسيما بعد تصريحات الرئيس أحمدي نجاد بأن: «الثورة الإيرانية لن تظل حبيسة الحدود الإيرانية وستنتشر في كل مكان». وقد يقال أن صدور مثل هذه التصريحات يمس سيادة واستقلال دولة مجاورة، هي مجرد آراء شخصية، ويجب التمييز بينها وبين الموقف الإيراني الرسمي، والإيحاء دوماً بصعوبة التنسيق بين هذه التصريحات والمواقف الرسمية، وفي تقديري أن هناك مجلساً استراتيجياً للعلاقات الخارجية أسسه مرشد الثورة في 25/6/2006، فما دوره في مثل هذه الأمور، والتي تؤثر على العلاقات مع دول الجوار وغيرها؟ في وقت تحتاج فيه إيران لسياسة كسب الأصدقاء، وهي ما زالت في أزمة حادة مع المجتمع الدولي بشأن ملفها النووي. ويبدو أن الثقافة الإيرانية تسمح بالجمع بين المتناقضات، التشدد والاعتدال في آن واحد. وهو وضع على أية حال يجعل إمكانية تطوير العلاقات الخليجية/ الإيرانية أمراً صعباً، طالما استمرت إيران في إتباع مثل هذه الإزدواجية، التي تخسر فيها المنطقة وشعوبها فرص حقيقية تنقلها من مرحلة الشك والأطماع والحروب إلى مرحلة تتسم برؤية مستقبلية أفضل للعلاقات، يسود فيها التعاون الإقليمي القائم على الندية والشفافية ودعم الثقة المتبادلة وتجاوز حسابات "توازن القوى" إلى "توازن المصالح" من أجل مستقبل أفضل لشعوب المنطقة.