هكذا كانت إرادة الخالق البارئ تبارك اسمه منذ أن أبدع الأرض وما عليها وإلى أن يرثها سبحانه وما عليها: أن يكون شكل الأرض كرويا لتبدو هيئتها فى تناسق كونى بديع مع فطرة التعاقب المتوالية بين شروق يعقبه غروب يبزغ بعده فجر جديد، وبين حياة غايتها موت ثم تدب الحياة فى مخلوقات أخرى تترى بلا انقطاع، وأن يكون خلق الإنسان من ضعف ويغدو قويا ثم يمسى ضعيفا مرة أخرى، وأن تولد الحضارات وتزدهر ثم تشيخ وتضمحل وتتلاشى لتبزغ شموس حضارات جديدة وليدة ترث ملكها وتحل محلها.. إلا الإسلام... فإنه لا يشيخ أبدا ولا يضمحل ولا تغرب شمسه فهو النور الآتى من الأزل والذى غمر الأرض بهبوط أول الموحدين إليها: آدم وزوجه، واستمر شعاعه بإرسال ملائكة السماء يلقون فى روع رسل الله على الأرض وحى الله لتستمر قافلة التوحيد عبر الزمان لا تحيد عن طريقها وإن قل اتباعها وتبعثر زادها وناوشتها وحوش الفلاة، وحين يعز المسير لخلل فى قيادة القافلة يهرع من يقوم بأمرها ويمسك ليخطو بها ومعها ناشرا نور الرب تقدست أسماؤه فى ربوع الزمان والمكان. فالقافلة لا تتوقف أبدا ولا تحيد عن طريقها وإن تخلى المتخلون وانحرف المنحرفون فهى ماضية فى سبيلها تنفى خبثها فينضح طيبها، لا ينجو إلا من لحق بها ولا يخيب إلا من تاه عنها أو حاول أن يضع العراقيل فى طريقها، وإن فريقا أعرض أو تولى استبدل الله به فريقا خيرا منه يرد عليها عافيتها ويعيد لها نشاطها مصداقا لقوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. وهكذا مضت دولة الإسلام التى نشأت فى المدينةالمنورة مع هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إليها من نصر إلى نصر ومن فتح إلى فتح تنشر نور التوحيد الخالص ودين الله الحق فى ربوع الدنيا لتخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وتحقق أمل المستضعفين فى الأرض الذين استهزأ المشركون بهم وهم يومئذ قلة فى مكة يوقنون بوعد الله لهم الذين بشرهم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن سيبدل ضعفهم قوة وستدين لهم ممالك الأرض فقال صلى الله عليه وسلم: (عصبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى)، فكان كفار قريش يلقون المسلم حافيا ممزق الثياب فيتضاحكون منه وهم يقولون فى سخرية: «مرحبا بوارث ملك كسرى!»، كما كان هذا الوعد الذى بدا يومها مجرد شطحات خيال سببا فى كشف زيف المنافقين وضعيفى الإيمان حتى قال أحدهم: «يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على خلائه». لكنه اليقين بوعد الله الحق الذى سكن القلوب هو الذى جعل جيلا واحدا من المؤمنين يتحولون من قلة مضطهدة فى إحدى قبائل صحراء شبه جزيرة العرب التى يتحكم فيها ملوك الحيرة المناذرة والغساسنة الموزع ولاؤهم وخضوعهم بين أصحاب أعظم حضارتين يقتسمان نفوذ العالم وقتها: الفرس والروم إلى ورثة للحضارتين معا وذلك مصداقا لقول الرب تبارك وتعالى: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، وتحقيقا لنبوءة رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال لأتباعه وهم بعد فى مرحلة استضعافهم: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفسى بيده لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله). ولأن الفارق بين المؤمنين الصادقين وبين غيرهم من ضعيفى الإيمان أو المنافقين أن الأولين يصدقون بوعد الله حتى قبل تحققه بينما الآخرون لا يصدقون به إلا بعد أن يصبح واقعا ملموسا وهو الفارق المستمر إلى قيام الساعة، فقد انطلق جنود الله المصدقين بوعد الله ورسوله ينشرون دينه فى الأرض وقد استقر فى قلوبهم يقين لا يتزعزع بوعد آخر ورد على لسان رسول الله حين تنبأ بفتح القسطنطينة ورومية القسطنطينية هى استامبول الآن ورومية هى روما الآن وحين سئل صلى الله عليه وسلم أى المدينتين تفتح أولا قال: (مدينة هرقل تفتح أولا، يعنى القسطنطينية). ولقد تحقق الوعد الحق ففتحت مدينة هرقل وظلت لقرون عديدة عاصمة الخلافة الإسلامية ولا يوجد مؤمن يحيا على وجه الأرض اليوم إلا وقلبه ممتلئ يقينا بأن روما مدينة البابا سوف تفتح يوما بعز عزيز أو بذل ذليل كما قال نبينا الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى وها هى البشائر تترى بدخول ملايين الأوروبيين فى الإسلام ومازلنا نسمع استغاثات قيادات دينية وسياسية هناك تحذر من أن أوروبا سوف تصبح إسلامية خلال عقود قليلة من الزمان وكلما أوغلوا فى حرب الإسلام والإساءة للمسلمين واضطهادهم تضاعف عدد الداخلين فى دين الله (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). وفى الطريق إلى تحقيق وعد الله، وبعدما تمكن المسلمون من توطيد أركان دولتهم فى المشرق انطلقوا ينشرون النور فى طريقهم إلى المغرب فكان فتح تونس بعد الموقعة التى قادها عبدالله بن الزبير وتمكن فيها من هزيمة الروم وبعدها انتشر الإسلام غربا، غير أن استقرار الدولة الإسلامية لم يكن فى بلاد المغرب بالسهولة ذاتها التى كانت فى بلاد المشرق وذلك بسبب الطبيعة الخاصة لقبائل البربر، فمن هم البربر وما حقيقة الدور الذى لعبوه فى تاريخنا السياسى؟.