أجراس الإنذار تدق دون أن نكون على أى درجة تأهب لأيام صعبة مقبلة. فلا خطاب سياسيا مقنعا يشرح الأزمة ويلهم القدرة على التحدى ولا خطة عمل تصوب المسار وتسد الثغرات . حتى الآن لم يخرج مسئول رفيع واحد يتحدث عن أزمة «الحصار السياحى» التى يخشى المصريون عواقبها الوخيمة. الرهان على التعبئة الإعلامية دون إدارة سياسية هو الوهم بعينه. فكرة التعبئة استهلكت نفسها ووجوهها فلا يقنع فى النهاية إلا ما هو مقنع. لابد أن نعترف بأن الأداء العام شبه متهالك من أزمة البلاعات فى المحافظات التى تعرضت لسيول وأمطار إلى أخطار التوظيف السياسى الدولى لحادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء. بقدر سلامة الأوضاع الداخلية تكتسب الدول هيبتها واحترامها. هذه قاعدة أكدتها أزمة الطائرة الروسية. انكشاف الأوضاع الداخلية أفضى إلى شىء من الاستهتار الدولى بأية مصالح مصرية. الانكشاف يغرى بالانقضاض. القضية السياسية ليست إذا ما كانت الطائرة قد أسقطت بعمل إرهابى أم بخلل فنى. الاحتمالان لا يمكن استبعاد أحدهما. ترجيح أن تكون هناك عبوة ناسفة أسقطتها لا يعنى بذاته مؤامرة على مصر. فأية دولة بالعالم معرضة لعمليات إرهابية والأمن المطلق خرافة مطلقة. فى الاحتمالين لا يصح إخفاء أوجه القصور فى المطارات المصرية والعمل بصرامة على تصحيحها واتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لضمان سلامة الركاب من مصريين وأجانب. جوهر القضية القفز على نتائج التحقيقات والتوظيف السياسى للحادث المروع. دول كبرى من بينها أمريكا وبريطانيا تعرضت لحوادث إرهابية مماثلة دون أن تفضى إلى مقاطعة مطاراتها وسحب السياح الأجانب من أراضيها. ودول إقليمية من بينها تونس تعرضت لعمليات إرهابية بشعة اغتالت سياحا لضرب اقتصادها فنهض العالم لدعمها بينما هو فى الحالة المصرية ينقض عليها كأنه يدعم الإرهاب ويذكى عملياته. من حق أية دولة أن تطمئن على سلامة مواطنيها غير أن التوظيف السياسى المبالغ فيه قضية أخرى. فى التوظيف السياسى توجه لفرض «حصار سياحى» على مصر. بحسب التقديرات شبه الرسمية فإن العوائد السياحية سوف تنخفض للنصف تقريبا فى احتفالات أعياد الميلاد. حجم الخسارة السياحية يمكن تحمله بشكل أو آخر غير أن الخطر الحقيقى هو أثر الحصار السياحى السلبى على الاستثمارات الأجنبية. إعلان الحصار يعنى بالضبط أن مصر بلد ليس آمنا ولا تتوافر فيه أية بيئة جاذبة للاستثمارات الدولية والإقليمية على حد سواء. ضربة بهذا الحجم تأخذ مداها الخطير بالنظر إلى التراجع المتوقع فى الدعم الخليجى. انخفاض أسعار النفط وتكاليف حرب اليمن والأزمات المكتومة المصرية السعودية فى إدارة الأزمة السورية تؤشر على مثل هذا التراجع. لم يعد أمام مصر غير أن تعتمد على نفسها وتتحمل تكاليف الأيام الصعبة المقبلة. كيف؟.. لا توجد أية إجابة. الذين أزعجهم الحصار الاقتصادى المتوقع من أغلبية المصريين الساحقة، بمن فيهم بعض الذين يعارضون نظام الحكم الحالى، مستعدون لربط الأحزمة بشرط ألا تعفى «رأسمالية مبارك» من دفع الفواتير وتسديد المستحقات. حق الدولة هو حق مواطنيها. غير أن ذلك يستدعى قواعد قانونية معلنة تستعيد حقوق الدولة فى الأراضى التى أهدرت على عهد الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» وفى وحدات القطاع العام التى بيعت بتراب الفلوس وصدرت بشأنها أحكام قضائية لم تحترم وتنفذ بكلمة واحدة سيف القانون فوق رؤوس الجميع لا رأسا دون آخر. القواعد لابد أن تحترم فى هذا البلد، فإذا كان هناك توجه لاسترداد حقوق الدولة فإنه لا يصح التوقف فى منتصف الطريق أو التمييز بحسب الحب والكره. إذا لم تكن هناك إجراءات مماثلة فى ملف الأراضى لما جرى مع رجل الأعمال مؤسس «المصرى اليوم» «صلاح دياب» فهو انتقام. فى كل الأحوال فإن طريقة القبض عليه مهينة لأية قيمة قانونية وإنسانية وضربا فى بيئة الاستثمار. هناك فارق بين الحساب وفق القانون وبين تعمد إهدار كرامته الإنسانية باقتحام غرفة نومه بالسلاح وهو مع زوجته التى روعت والمجىء بمصور صحفى قرب الفجر ليلتقط صورا والكلابشات فى يديه كأنه إرهابى. وإذا كنا ندعو إلى احترام كرامات الناس، فإن الأمر نفسه لابد أن ينصرف إلى كل المواطنين العاديين الذين يتعرضون للإهانات البالغة فى أقسام الشرطة. الدوس على الكرامة الإنسانية مأساة مروعة فى بلد قام بثورتين للانتقال إلى مجتمع ديمقراطى حر ودولة مدنية حديثة. وهناك سؤالان ضروريان. أولهما، هل فتح ملف الأراضى المستباحة خيار أزمة يستهدف مباشرة وقف أى تدهور اقتصادى محتمل نتيجة النقص المتوقع فى الموارد العامة؟ وثانيهما، هل هو مؤقت باعتبارات الأزمة الاقتصادية أم خيار جديد يؤسس لنظام يقطع حبله السرى الممتد مع «رأسمالية مبارك» بالنظر إلى وجود اسم رجل الأعمال «محمود الجمال» صهر «جمال مبارك» فى القضية نفسها؟ لا إجابة واحدة على أى سؤال. عند غياب أية إجابات شبه مقنعة يصعب التعويل على مواجهة أى حصار اقتصادى ممكن. بوضوح كامل فإن مصر مرشحة للتعرض لهزات داخلية غير محتملة ما لم ترتفع السياسات إلى مستوى الأخطار. أى أزمة كبيرة تنطوى على فرص بقدر ما تنطوى على مخاطر. ضيق المجال العام يقلص من فرص تجاوز الأزمة. هناك بجوار الانسداد الاجتماعى انسداد سياسى وإعلامى. أسوأ تداعيات ممكنة لطريقة القبض على «دياب» إثارة الذعر فى الوسطين المالى والصحفى. الأول لا يرى أمامه قواعد تشير إلى أصول اللعبة الجديدة، والثانى لا يعرف ما قد يحدث غدا. الذعر لا يؤسس لدولة حديثة ولا لقدرة على مواجهة التحديات الكبرى التى تدق أجراسها الآن. فيما تحوم شكوك حول إذا كان ما نشرته «المصرى اليوم» من مقالات نقدية لنظام الحكم الحالى وراء تجاوز أية قواعد قانونية فى طريقة القبض المهينة على مؤسسها، فإن التليفزيون المصرى قدم دليلا لا يدحض على الضيق بالنقد. فقد جرى التنكيل بالمذيعة «عزة الحناوى» لأنها دعت إلى محاسبة كل من لا يحارب الفساد من رئيس الجمهورية إلى أصغر مسئول. هناك فارق بين النقد والتشهير، بين التصويب والسباب. لم ترتكب «الحناوى» أى خطأ، والتنكيل بها إهانة لنظام الحكم نفسه وشهادة سلبية جديدة أمام العالم. وفى قضية الحقوقى «حسام بهجت» أزمة لا ضرورة لها، إذ يمكن تجاوز ما كتبه عن قضية لم يكن أول من أشار إليها فقد سبقته بشهور ال«بى بى سى». التحقيق معه أمام القضاء العسكرى أيا كانت أسبابه ينال بقسوة من صورة بلد مثقل باتهامات دولية فى ملفات حقوق الإنسان ويتعرض مسئولوه الكبار إلى مساءلات محرجة فى أية اجتماعات بالخارج. أمام الخطر الداهم الذى يلوح بحصار سياحى واقتصادى وبدرجة ما سياسى فلمن تدق الأجراس؟