فى الصورة العامة نوازع القلق تغلب ما عداها. فى شح الموارد المالية قلق على مستقبل الاقتصاد وقدرته على توفير الحد الأدنى من متطلبات العدالة الاجتماعية وفى الانكشاف الاستراتيجى قلق آخر على الأمن القومى وسلامة الحدود ومستقبل الإقليم والقدرة على مواجهة الإرهاب وحربه. فى الأداء العام قلق إضافى فلا قواعد تضبط اللعبة السياسية ولا توافقات وطنية واسعة على الأولويات. يتبدى شىء من القلق فى ثنايا الكلام السياسى من رئيس الدولة إلى أصغر موظف فيها، من قادة الأحزاب والجماعات الغاضبة إلى أبسط مواطن يريد أن يطمئن إلى أن الأمور تسير إلى الأمام ولو بتعثر وبطء. فوائض القلق يلخصها سؤال الدولة وعودتها إلى مهامها ووظائفها وسؤال آخر عن طبيعة الدولة نفسها وإذا ما كنا نقترب أو نبتعد عن وعود الديمقراطية؟ أول تحديات عودة الدولة أن تفرض الأمن وتثبت قدرتها على تقويض تنظيمات العنف والإرهاب. ورغم أن هناك نجاحا نسبيا فى ملاحقة التنظيمات التكفيرية وتفكيك خلاياها إلا أن الضربات الإرهابية التى تطول من وقت لآخر مواقع عسكرية وشرطية تومئ لشىء من الاسترخاء الأمنى غير المبرر وثغرات فادحة فى إجراءات الحماية والتأمين بمواجهة عمليات باتت شبه نمطية. الاسترخاء يتمدد إلى السياسة والإعلام كأن كل شىء قد استتب والوقت قد حان لتوزيع الغنائم وإقصاء الشركاء الآخرين. هجوم ممنهج على ثورة يناير وتصفيات حسابات شخصية بصورة تتجاوز أية أعراف وقواعد وقوانين أساءت إلى المرحلة الانتقالية ونالت من ثقة المجتمع فى مستقبله. لا يمكن كسب معركة المستقبل بأساليب الماضى والوجوه المستهلكة أو بنوبات الصراخ عبر الأثير. ولا يمكن كسب الحرب مع الإرهاب بأسلحة سياسية فاسدة وبلا مشروع سياسى يطمئن مجتمعه أن الحريات العامة مصونة وأن أية إجراءات استثنائية قد يُضطر إليها تظل فى حدود الحرب لا تتعداها إلى عودة الدولة البوليسية. القلق من طبيعة السيولة السياسية ومراحل التحول المضطربة لكنه زاد على حده وفوائضه تسحب من رصيد المرحلة الانتقالية. المعضلة أنه لا مشروع سياسيا يدرك حقائق وتعقيدات الظاهرة الإسلامية ولا طبيعة تفاعلاتها الحالية ويفتح نوافذ سياسية أمام من لم تتلطخ أياديهم بالدماء.. ولا مشروع اجتماعيا يلوح فى الأفق لتصحيح المظالم التى تفاقمت وتخفيض معدلات الفقر والعوز.. ولا مشروع ثقافيا محتملا قادر على الإلهام وتغيير البيئة العامة. بشىء من الاختزال فإن المشهد القلق أقرب إلى الموالد الريفية عروضا وصخبا وزحاما على بضائع مشكوك فى صلاحيتها. حديث الغنائم يستقطب أصحاب المصالح إلى موائد السلطة بينما سؤال الدولة مازال معلقا فى الفضاء السياسى. القضية ليست أن تعود الدولة لأدوارها ووظائفها وإنما على أى نحو تعود. هناك من تقلقه فى صفوف الطبقة الوسطى وأجيالها الجديدة احتمالات عودة الدولة إلى سابق عهدها فى زواج السلطة بالثروة كأن التضحيات التى بذلت ضاعت سدى أو اصطناع تناقض ما بين عودة الدولة وطلب الحرية، فلا حرية بلا دولة إلا أن تكون فوضى مسلحة واقتتالا أهليا ولا دولة تستحق أن تنتسب إلى عصرها بغير قواعد دستورية تصون الحريات العامة وحقوق مواطنيها. الدستور وحده هو حلقة الوصل ما بين عودة الدولة وطلب الحرية أو أن تكون الدولة قوية وديمقراطية معا. والدستور وحده هو أساس الشرعية، وأى كلام آخر فهو معلق على أوهام. تجاوز الدستور وعدم إنفاذ نصوصه يفضى إلى أزمة شرعية تأكل فى بنيان أى نظام جديد وتهدده فى وجوده، وأزمات الشرعية أسقطت نظام الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» وقوضت حكم المجلس العسكرى وأنهت جماعة الإخوان المسلمين لحقب طويلة قادمة. فى الصراخ العام ضد الأحزاب والتهوين من شأنها علامات قلق أخرى، فلا ديمقراطية بلا توازن سياسى، ولا توازن بلا تعددية، ولا تعددية بلا أحزاب تأخذ وقتها فى بناء قواعدها والاحتكام إلى الرأى العام ببرامجها فى انتخابات تتوافر فيها شروط النزاهة. أما الهجوم العشوائى على الأحزاب فهو تحريض مباشر ضد الديمقراطية وضد فكرة المنافسة من حيث المبدأ كأن مصر ترجع للخلف. الكلام بنصه وروحه وصراخه يسىء إلى أى مناخ ديمقراطى ويشكك فى المستقبل ولا يساعد أن تستقر القواعد الدستورية فى الممارسة العملية ولا يُمكن أية رئاسة قادمة من مهامها شبه الانتحارية لإنقاذ بلد منهك ومستنفد. هناك بالمقابل صراخ آخر تفلت عباراته من أى قيد يستعدى على المؤسسة العسكرية ويخلط بين ما لا يصح أو يجوز الخلط فيه بالنيل من وجودها كله كما لو أن الهدف هو تقويضها. من المفارقات أن الهدف نفسه هو صلب ما يطلبه الإرهاب والإرهابيون. الصور تختلط بصورة مزعجة فى فوائض القلق. العبارات تنفلت والقواعد تغيب والضحايا يلومون بعضهم الآخر. بحسب مساعد سابق لوزير الداخلية فإن أسر الضباط تودع أبناءها كل صباح خشية ألا يعودوا مرة أخرى إلى بيوتهم ومع ذلك فإنهم يؤدون واجبهم دون أن يكون ذلك مقدرا من أطراف فى الحياة السياسية. نفس الشكوى بصيغة أخرى رددتها أسر نشطاء سياسيين سلميين تعرضوا لاحتجاز وتنكيل وتعذيب غير إنسانى دون أن يكون واضحا ما إذا كانت الانتهاكات تعبيرا عن انفلات أفراد فى المؤسسة الأمنية على ما يؤكد رئيس الجمهورية المؤقت المستشار «عدلى منصور» أم ممنهجة لاستعادة الدولة البوليسية على ما تقول المنظمات الحقوقية؟ فى الشكاوى المتبادلة لأسر الضحايا من على الجانبين أزمة مجتمع يفتقد بفداحة أية قواعد تضمن سلامته. وفى اختلاط الصور حقان متنازعان.. الحق فى الأمن بمواجهة تنظيمات مدربة على التفجير والقتل والحق فى الحرية بمواجهة احتمالات استعادة الماضى. فى الحق الأول اعتبارات الدولة أن تكون أو لا تكون وأمن من واجبه أن يحفظ حياة ضباطه وجنوده وأن يتعقب الخلايا المسلحة ومخازنها. وفى الحق الثانى أن تكون الدولة عصرية تتسق قواعدها مع النصوص الدستورية وأهداف ثورتيها. هناك احتمالان فى إجابة السؤال المعلق والقلق عما إذا كانت الانتهاكات «فردية» أم «ممنهجة». أولهما يرجح ما قاله الرئيس، وهو يستدعى إصلاحا فى بنية المنظومة الأمنية وحساب المسئولين عن أية انتهاكات بصورة صارمة، فانتهاك كرامات البشر لدواعى التشفى أو الشعور بانسحاق الآخرين كارثة إنسانية وأمنية معا ومعناها أن قطاعا فى الأمن لم يستوعب درس (25) يناير ولا قيمة المصالحة التى جرت فى (30) يونيو. وثانيهما يتطلب وقفة أخرى للحيلولة دون إعادة إنتاج الدولة الأمنية احتكاما للدستور وشرعيته تجب أية سلطة. فى الاحتمالين لا شىء يتحرك إلى الإمام بوثيقة ضمان مسبقة. القضية من أولها إلى آخرها ترتبط بالإرادة العامة وقدرة المجتمعات على التصحيح وأن تضع الخطوط الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح بين ما هو عارض وما هو ممنهج لجرها للخلف مرة أخرى. وذلك يستدعى فتحا لقنوات سياسية مغلقة ولغة أخرى فى الأداء العام تخفض من القلق وفوائضه وترفع منسوب الأمل قبل أن تبهت ملامحه.