محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية.. رجل تناولت حياته كتابات عديدة واحتار أغلبها فى قصته مع ثورة يوليو 1952، فهناك من يرى أن وجوده كان مهما ومؤثرا، وآخرون قالوا إنه كان مجرد واجهة تم استغلال شعبيتها ووطنيتها، فى مساحة خصصت له، وأن مخطط استبعاده كان مبيتا. حقيقة دوره مع الجيش، ونشاطه السياسى والاجتماعى قبله، وموقف الثورة من الأحزاب، والإخوان المسلمين، والشيوعية، وسقوط الملكية، وتطور فكرة الجمهورية فى مصر، موضوعات حاول الدكتور «رفعت يونان» تناولها بحيادية فى كتابه «محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة» الصادر عن دار الشروق. ولد نجيب فى الخرطوم عام «1901» لأب مصرى يعمل ضابطا فى الجيش السودانى، وظهرت وطنيته مبكرا، وعاقبه مدرسه الإنجليزى فى المرحلة الابتدائية بالجلد بعد نقاش حاد حول من له الحق فى حكم مصر، واضطر للعمل بعد وفاة والده لإعالة عائلته، وقرر الالتحاق بالكلية الحربية، ودرس العلاقة بين مصر والسودان، وألّف كتابا عن مشكلاتهما. الكاتب يجعل من شخصية «نجيب» وحياته وعلاقته بالسلطة، وبالشارع نافذة نطل منها على هذه الحقبة المهمة، بكل أحداثها، فيتعرض للتنظيمات السياسية، وموقف الثورة من الوفد أكبر حزب سياسى مصرى فى هذا الوقت، والذى احتفظ بشعبية كبيرة إلى ما بعد الثورة، وكان يهتف له الناس «يحيا الوفد ولو فيها رفد». فى البداية يعرفنا الدكتور رفعت يونان ببداية تكوين تنظيم «الضباط الأحرار» ويقول إنه لم يسبق لتنظيم سرى داخل أى جيش أن ذاع صيته داخليا وخارجيا مثلما حدث مع تنظيم الضباط الأحرار، كما أنه لم يكن هناك أى شك فى أن جمال عبد الناصر هو الذى أسس التنظيم عام 1949، حتى عام 1978 عندما نشر أنور السادات كتابه «البحث عن الذات» والذى ذكر فيه أنه أنشأ تنظيما سريا من الضباط فى 1939، وأن عبد الناصر لم يكن أحد أعضائه، الأمر الذى جعل الحقيقة التى آمن بها الشعب لسنوات طويلة موضع شك كبير. علاقة نجيب بالضباط الأحرار رغم معرفة الجميع بأن عبد الناصر هو الزعيم الحقيقى للتنظيم، لكنه فضل مع مجلس قيادة الثورة أن يكون هناك شخص آخر تتوافر له السن الكبرى والشعبية لاجتذاب الجماهير والجيش. ولما كان محمد نجيب يتمتع بتلك المزايا، اختاره عبد الناصر ورجح كفته على كفة اللواء فؤاد صادق الذى كان مرشحا هو الآخر لهذا الدور، ويوضح الكاتب أن محمد نجيب حظى مع بداية الثورة باهتمام كبير من وسائل الإعلام داخل وخارج مصر، ما زاد بشدة من شعبيته عند المصريين. وحتى عبدالناصر نفسه صدّر للجميع إيمانه بقيادة محمد نجيب لدرجة أنه فى إحدى زيارات نجيب لمسقط رأس ناصر فى قرية «بنى مر» وقف جمال بين أهل القرية وقال موجها حديثه لمحمد نجيب « اسم أبناء هذا الإقليم، أرحب بك من كل قلبى، وأعلن باسم الفلاحين، أننا آمنا بك، فقد حررتنا من الفزع والخوف، وآمنا بك مصلحا لمصر ونذيرا لأعدائها. سيدى القائد.. باسم الفلاحين أقول: سر ونحن معك فقد حفظنا أول درس لقنتنا إياه وهو أن تحرير مصر وخروج قوات الاحتلال من بلادنا واجب حيوى، وأصبحت أملا فى أن تحقق مصر حريتها على يديك، إن مصر كلها تناصرك، للقضاء على قوات الاحتلال». ومن هنا يأتى السؤال الذى استهل به الكاتب كتابه، هل كان محمد نجيب فعلا زعيما لثورة يوليو 1952، أم كان مجرد واجهة للحركة، ووقع فى فخ الضباط الأحرار؟. بعد فترة بدأ أعضاء مجلس قيادة الثورة يلاحظون أن نجيب يحظى بشعبية وتأييد كبيرين من الأحزاب والشعب، وبدءوا فى الانقلاب عليه والميل إلى جانب عبدالناصر وتحديدا الشقيقان صلاح وجمال سالم، وأعلن صلاح ذلك بشكل واضح وقال إنه لا يمكنه التعامل مع محمد نجيب، ووصل الأمر إلى أن جمال سالم كان يسبه ويوجه إليه الشتائم البذيئة، لدرجة أنه فى أحد الاجتماعات التى لم يحضرها نجيب وبعد أن تأزمت الأمور اقترح أمام زملائه، على حد قول الكاتب، أن يغتال نجيب، ولكن فكرته قوبلت بالرفض. وبدأ الشعور بالغيرة يسرى فى جمال عبد الناصر باعتباره القائد الحقيقى للضباط الأحرار، وخطط لإزاحة نجيب عن السلطة، بعد أن استنفد أغراضه منه. وفى 14 نوفمبر 1954 توجه نجيب إلى مكتبه فى القصر الجمهورى، ففوجئ ببعض الضباط فى انتظاره، وتعاملوا معه بخشونة، فاتصل بعبد الناصر ليشكو له تصرفاتهم، فأرسل إليه عبدالحكيم عامر، وحسن إبراهيم، اللذان قالا له فى خجل «إن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئيس الجمهورية» وكان ذلك بعد أزمة السودان، فرد عليهم نجيب «أنا لن أستقيل الآن لأنى بذلك سأصبح مسئولا أمام التاريخ عن ضياع صلة مصر بالسودان. أما إذا كان الأمر هو الإقالة فمرحبا لأنكم تعفوننى من مسئولية لم يعد يحتملها ضميرى» وأخبره عبد الحكيم أنه سوف يقيم باستراحة السيدة زينب الوكيل، بالمرج وأن فترة إقامته لن تزيد على بضعة أيام، يعود بعدها إلى منزله، ولكنهم لم ينفذوا وعدهم له، واستمرت إقامته تسعة وعشرين عاما. يختتم الكتاب بالمرحلة الأسوأ فى حياة الرجل وهى فترة عزله باستراحة زينب الوكيل، والإهانات التى تعرض لها، وتجريده من كل ما يملك، بما فيه أثاث المنزل، والتزامات المعيشة، ما آلمه وحسره، وأدى إلى تدهوره صحيا ونفسيا، ودوّن سطورا يومية فى مفكرة جيب وجدت بين أوراقه ظهر فيها بشدة ما كان يعانيه: «الثلاثاء 23 نوفمبر: فوجئت بمجموعة من الحرس يدخلون علينا الحجرة التى أجلس فيها أنا وزوجتى ويجلسون بيننا، حاولت أن أثنيهم عن ذلك، عملوا ودن من طين وودن من عجين، لا أعرف ماذا أفعل ولا كيف أدافع عن نفسى». «الأربعاء 24 نوفمبر: لا أجد وسيلة أدافع بها عن أسرتى سوى أن أصلى وأقرأ القرآن وهذا ما جعلنى لا أترك السجادة ولا المصحف طوال اليوم». «الخميس 27 نوفمبر: عرفت من أحد الضباط أنهم أخذوا من بيتى كل شىء يخصنى حتى تذكاراتى وأوراقى وشهاداتى ونياشينى وبدأت فكرة الانتحار تراودنى لكن إذا مت فمن يقف بجوار عائشة زوجتى والأولاد؟». ظل يدون مشاهده يوميا إلى أكتوبر 1983، وبعد أن طلب ورثة السيدة زينب الوكيل حقهم فى الفيللا التى يقطنها، استنجد بالرئيس مبارك الذى خصص له شقة تابعة لرئاسة الجمهورية عاش فيها حتى موته فى أغسطس 1984.