السياسيون، شأنهم فى ذلك شأن القادة العسكريين، يعانون الميل إلى خوض الحرب السابقة. فبعد دراسة متأنية لأخطاء أسلافهم، يحرصون على عدم تكرارها، ولكنهم يرتكبون أخطاء مناقضة لها. إنهم يعززون دفاعات خط ماجينو، ويفرطون فى التعويض عن الأخطاء الماضية بتصحيحها بصورة مبالغ فيها. ومن الصعب أن نجد سياسيا معاصرا لم يكن ضحية لهذا الإغراء. فردة فعل جيمى كارتر على قسوة ريتشارد نيكسون ومساومات ليندون جونسون تمثلت فى أنه أصبح لطيفا أكثر مما يجب، وشديد البغض للممارسات السياسية المعمول بها فى الكونجرس. وكان تدخل كارتر فى التفاصيل الإدارية الدقيقة عاملا شجع رونالد ريجان على الميل إلى الابتعاد عنها. وجاء بيل كلينتون إلى واشنطن مصمما على قلب تركيز جورج بوش الأب الزائد على الحد على السياسة الخارجية، ومضى متجاهلا للسياسة الخارجية خلال السنوات الأولى من حكمه. واتخذ جورج بوش الابن موقفا مناقضا لموقف أبيه المفتقر إلى الرؤية المستقبلية، وعدم النظام الذى اتسم به عهد كلينتون، بمبالغات من جانبه فى التكلف والانضباط فى المواعيد. وحتى نواب الرئيس يفعلون ذلك، فجو بايدن بثرثرته وعدم جديته يمثل ردا مبالغا فيه على ديك تشينى بصمته ونفوذه الهائل. ويبدو أن باراك أوباما سقط أيضا فى هذا الروتين الجدلى. فالمصاعب التى واجهها فى مرحلة مبكرة فيما يتعلق بإصلاح نظام الرعاية الصحية، الذى ربما يكون المبادرة المحلية التى سيحكم بها على رئاسته، ناجمة عن المبالغة فى التعلم من الدروس التى وعاها من عهد كلينتون. ومما لا شك فيه أن أخطاء كلينتون كانت مصيرية، ويجب ألا تتكرر. وكان بيل وهيلارى يسيطران بصورة أشد مما يجب على تفاصيل العمل السياسى، ولكنهما لم يكونا ماهرين بدرجة كافية فى حشد الإجماع السياسى. فقد قاما سرا بصياغة مسودة يصعب هضمها ومؤلفة من 1342 صفحة ثم ألقياها على عتبات الكونجرس. وبدلا من التوصل إلى حل وسط، لوح كلينتون بحقه فى نقض أى قرار مخالف. باستطاعتك أن ترسم خطة اللعب التى وضعها فريق أوباما بقلب خطة كلينتون رأسا على عقب. فقد بدأ أوباما بخطب ود الجماعات الرئيسية المعنية، وحتى الآن لم تقف ضده أى من هذه الجماعات، التى تضم شركات التأمين وشركات الأدوية والمستشفيات والأطباء. وقام مرارا بتأكيد مرونته وانفتاحه على الحلول الوسط. وبدلا من اقتراح خطة، أو حتى تبنى سياسات محددة، وضع ثمانية مبادئ عريضة وهى شمول خدمات التأمين، وسهولة الحصول عليها، وإمكانية انتقالها من مؤسسة إلى أخرى، وجودتها، وحرية الاختيار، والتركيز على الوقاية، وقدرتها على الاستمرار من الناحية المالية، والحماية المالية وترك بقية التفاصيل للكونجرس. أما حلفاؤه فينفقون الآن على الدعاية فى أجهزة الإعلام ضعف ما ينفقه معارضوه. ومصاعب أوباما الرئيسية نابعة، كما هو متوقع، من ردة فعله الأقوى مما يجب على النموذج الذى صاغه بيل كلينتون. فبينما كان خطأ كلينتون يتمثل فى أنه كان مسيطرا بقوة أشد مما يجب، تخلى أوباما عن قسط أكبر مما يجب من سيطرته، وأدى ترك التفاصيل للكونجرس إلى كشف عيوب لم تكن تطرأ على البال. وكان استرضاء الجماعات المعنية القوية يعنى التخلى عن أفكار سليمة وعدم الاكتراث لضوابط مهمة للسيطرة على التكاليف. وأدى إسناد المهمة إلى كبار المسئولين عن التشريع فى الحزب الديمقراطى إلى إعاقة مشاركة الحزب الجمهورى فى وضع الخطة. كما أن عدم طرح خطة محددة ترك أوباما فى موقف صعب اضطر فيه للدفاع عن شىء لا وجود له. وباستطاعتنا أن نرى توجها مماثلا للسير فى الاتجاه المعاكس فى السياسة الخارجية أيضا إذ إن الدرس هذه المرة لم يأت من بيل كلينتون بل من جورج دبليو بوش. فالرئيس أوباما، الذى لا يتمتع بخبرة كبيرة فى السياسة الخارجية قبل توليه المنصب، صاغ سياسته حول أخطاء سلفه. فمثالية بوش الساذجة، وميله إلى عدم إشراك الدول الأخرى، شجع أوباما على الواقعية وإشراك الآخرين. ومقاطعة بوش لكوريا الشمالية وكوبا وإيران شجعته على التعامل بصورة واقعية مع هذه الدول الطاغية. وإهمال بوش لعملية السلام فى الشرق الأوسط شجعه على الانغماس فيها. كما أن الرئيس الجديد عكس أولويات سلفه المتمثلة فى التركيز على العراق بدلا من أفغانستان. وفيما يتصل بالعلاقات مع روسيا حاول استخدام الفكرة التى أصبحت عبارة سياسية رائجة عام 2009، وهى الضغط على زر إعادة التشغيل. وبلجوئه إلى تلك السياسات، أصبح أوباما يواجه مجموعة مقلوبة من الأخطار: المبالغة فى التزاماته إزاء أفغانستان، وإيلاء الأممالمتحدة ثقة أكثر مما يجب، ومهادنة الطغاة بدلا من الوقوف فى وجههم. ومن المؤكد أنه لولا بوش لاتجه أوباما بعد الانتخابات الإيرانية بصورة غريزية إلى الوقوف إلى جانب الإيرانيين الذين عرضوا حياتهم للخطر لتحرير بلادهم، ولكنه رغم ذلك بدا لعدة أيام أشد حرصا على عدم إفساد محاولاته الرامية إلى الحوار مع محمود أحمدى نجاد. فهل بالإمكان تجنب هذا النوع من المبالغات؟ قد يكون أفضل ما يستطيع الإنسان أن يأمل فيه هو حدوث نقلة سريعة من التناقض الجدلى إلى الإجماع التوافقى. وبهذا الصدد، فإن أوباما بذكائه يبدو أكثر استعدادا من معظم الرؤساء الآخرين لتفادى هذه المبالغات. وعندما يخطئ فى حساباته، كما حدث عندما كان صريحا أكثر مما يجب فى حديثه عن اعتقال هنرى لويس جيتس الابن، فإنه يبادر فورا للاعتذار عن خطئه. وبدلا من تعميق الحفرة التى يسقط فيها، فإنه يتسلق للخروج منها. وفيما يتعلق بإيران تحدث أوباما، وإن جاء ذلك متأخرا بعض الشىء، عن مبدأ عام يدعو لأن يكون للناس صوت فى حياتهم ومصيرهم. وفيما يتعلق بالرعاية الصحية، يبدو أنه يعكف على إعادة تقييم أسلوبه فى التعامل مع هذه القضية. والعامل الآخر الذى يساعد أوباما هو أن خصومه يخوضون آخر معاركهم أيضا. ولما كانت عرقلة خطة هيلارى الصحية قد حققت لهم نصرا سياسيا عام 1994، فإن كثيرا من الجمهوريين يعتقدون أن تعطيل خطة أوباما سيحقق لهم نصرا مماثلا مرة أخرى. ولكن حتى إذا تمكنوا من عرقلة تلك الخطة، فإن عرقلتها لن تجلب لهم النصر. Newsweek International تاريخ النشر: الثلاثاء 18/8/2009