شقة إيجار قديم، تركها مالكها وسافر للخارج، بإحدى العمارات القديمة من عمارات «وسط البلد»، التى لا يُعرف لها مالك، ظل حارس العقار يستغلها لأعوام طويلة، الناس لا تعرف مالكا لها إلا هو، وظن مع الوقت أنه المالك الحقيقى، حتى إنه توج نفسه على زعامة اتحاد ملاك العمارة، الذين ابيض شعر الزمن منهم، ونسى الناس كل ماضيه، وصدقوا صورته الحالية _ سمسار وصاحب ملك_. وذات ليلة عاد رجل تبدو عليه البساطة والأناقة، كان حارس العمارة يجلس أمام الباب يمارس عمله القديم والجديد، حينما سأله الرجل عن شقة جده، وصعد معه درجات السلم وبداخله الشك اليقين، حتى وقفا أمام الباب، لم يلاحظ القادم الجديد ملامح الانزعاج على وجه حارس العقار، فتح الباب، وألقى على الأريكة إنهاك سفر طويل، وعودة بعد أعوام من الاضطهاد فى «بلاد بره»، وغربة طويلة وليالٍ باردة ملطخة بطين المهانة. انهار عبث كل ترتيبات الحارس، ووقعت خططه المستقبلية من علو العقار الذى ظن أنه ملكه وحده.. رعبه بأن يتحول كسابق عهده، «سيعود لصورته القديمة أمام الناس»، سيعامله القادم الجديد كما عامله جده.. أرّق المستقبل القريب لياليه، لم ينم تلك الليلة، وفكر وفكر وتعثر عقله فى تساؤل: كيف يستعيد مكانته ومكانه داخل الشقة، وترجع له أرباحه التى يجنيها من فراغها؟!. كل محاولات «التطفيش» فى الطالعة والنازلة والصباح والمساء.. فشلت.. إيهامه بأن الشقة تحتاج إلى«عمرة» جديدة، وأنها أصبحت لا تصلح بعد كل هذه المدة من الهجر، فيجب عليه أن يتركها له بعض الوقت حتى يرجعها له كما كانت.. لم يصدقه، وتشكك بكلامه بل أيقن بعد وعى، أنه لو تركها له لن يراها مرة أخرى، سيحتلها وسيطرده منها بأى «حجة». ومحاولة إقناعه بأن البيت على وشك السقوط، ويجب أن يرى بديلا آخر ينتقل إليه سريعا، أكد.. الظن. حاول الحارس أن يقلب عليه الجيران فى محاولة جديدة، بوهمهم بأنه جار فاسد، وسيفسد عليهم أمور العمارة، وكان القادم يثبت لهم كل مرة أنه أجدر بجيرتهم. حتى جاء صباح، كان سلم العمارة يجرى عليه ماء، وكأن نهرا يجرى من سطح العمارة إلى سفحها، وكانت المياه تدخل شقته، برائحة كريهة للغاية، والجيران تجرى على السلم وتصرخ بأن العمارة ستنهار، ويصيحون بأن أحد الجيران المعروف بأنه «سِكِّير»، ظل يثقل فى الشراب وترك أمور «السباكة» فى شقته، حتى تفاقم الوضع وغرقت العمارة. أو «ربما.. سدت مواسيره بفعل فاعل».. قالها وهرع سريعا لطلب بعض المساعدة من أحد المستغلين والمشتغلين فى أعمال السباكة، وجمع الجيران فى العمارات المجاورة، حتى ينقذ الشارع كله، وأقنعهم بأن ما يجرى على عمارتهم سيطولهم عاجلا أو آجلا، فجمع مالا منهم، وأعطاه للسباك. وانتهت الأزمة. قام سكان العمارة على صوت صريخ مدوٍ فى ليلة أخرى، لأناس فى الشارع لم تتكرر ملامحهم فى المنطقة، ولكن يمكن أن تراهم فى كل شارع، وقفوا حول العمارة يصرخون على ساكنيها «أنها تنشرخ» والشرخ يكبر ويكبر وستنهار عليهم، لم ينظر أحد للشرخ، ولم يمعنوا النظر، انتابهم الفزع فقط، وركضوا على السلم، وحتى هو.. نزل يهرول بدوره، ليرى ما يجرى من خلفه، ووقف أمام الصارخين يمعن النظر فيهم، وأول ما لفت انتباهه، أن حارس العمارة لا يجلس أمامها أو لم يصعد ينبه أحدا بما يحدث، بل وقف خلف الصارخين يرى نتيجة ما سيئول له الوضع، هكذا فسر وقفته التى كانت شبه مرتقبة وشبه متخفية. ووقف القادم يهتف فى الناس بأن هؤلاء الناس لا يعرفون عمارتهم حتى، ولا يرون أى شرخ، فكل منهم ينظر فى اتجاه، ولا يوجد شرخ والشرخ الحقيقى فى عقولهم هم، وصعد وتركهم بالشارع. بعض الجيران أشفقوا عليه من وقوع العمارة فوق رأسه، والبعض نهره لأنه يرى أنه مجرد أحمق، يريد أن يقتل نفسه، والبعض أرهقه الخوف فأجلسه فى مكانه بالشارع، رغم برودة الأرض. فلما لم تسقط العمارة تلك الليلة، وغُلب مكر الحارس، وبدأ الناس تصدق فى أمر القادم وكلامه، ذهب حارس العقار إلى «الشيخ»، المعروف بين طبقات معينة، أنه يستطيع أن يتعامل مع العالم السفلى بعلم غزير، ويستطيع أن يحل العقد ويعقدها، ويستطيع أن يقنع من أمامه بمرضه، ويستطيع أن يقنعه بشفائه، يتحدث دائما من الكتاب والسنة، ويحدث الناس عن القدرة الخارقة للعالم الخفى الذى لا يعلمونه.. فتبعوه. جمعتهم جلسة ظلماء، واتفقا على نوع «العفريت» الذى سيسكن الشقة ويطرد من بها فزعا، لكن عمل «الشيخ» كان مكلفا، فاضطر حارس العقار أن يعده بشقة فى العمارة، أو الشقة التى يجرى عليها اتفاقهم، وسيفرغ لهم الأمر بعد ذلك، وسيقسمون أرباح العقار كما يحلو لهم بعد تطفيشه. فتح باب مضيفة «الشيخ» بقوة هائلة، ذات ليلة عنيفة، وجاءه العفريت يرتعش ويرتعب.. وكان قد لاحظ حارس العقار، أنه لم ير خوفا أو ذعرا على ساكن الشقة أو شيئا مما اتفقا عليه، ولم يسمع أصواتا لأى حركة مريبة داخل الشقة من «سلم الخدامين»، حيث يراقب منه سكان العمارة، ويعرف عنهم أسرارهم.. فذهب لمضيفة «الشيخ»، ليوبخه ويسأله عن «نصبه عليه». ولكن الشيخ قال له، إنه لن يستطيع أن يفعل شيئا معه، فهو محصن جيدا، وفتح فاه الحارس على مصراعيه، وجال بخاطره مفكرا فى «لحظة عجز، ولدت فكرة كالكنز».. واتفقا على أمر آخر، إن كانت عفاريت الجان لا تستطيع فعل شىء مع المحصن، فعفاريت الإنس تفعل. وأتى الليل بأصوات عجيبة وحركات مريبة فى الأضواء والأثاثات داخل الشقة، والدماء تراق على الأرض والحوائط، لم يقتنع القادم فى البداية بالأمر، ولكن مع كثرة الأفعال انفعل. ذهب القادم الجديد للشرطة، فلم يقتنعوا وسخروا منه، لم يقل بأن «عفريت» يسكن الشقة، بل قال إن حارس العقار يحاول أن يسرق منه الشقة ويطفشه منها.. وقالوا له: لو قلت «عفريت» كنا صدقناك، لم تكف الأدلة.. وتشكك وقتها فى الأمر، بأنهم ربما يعرفون حارس العقار جيدا أو ثمة «علاقة مصلحية» بينهم. فى الصباح، حين فتح الباب ليخرج لقضاء بعض الوقت بعيدا عن ضيقه، وجد السكان يتجمعون أمام شقته ونهروه وتجمهروا عليه، وقالوا له فى تظاهر؛ هذه الشقة يجب أن تقفل نهائيا، لأنها تصدر منها أصوات غريبة طوال الليل، ويتشككون فى وجود أفعال مشينة تحدث فيها.. عرض عليهم أن يأتى بشيخ يقرأ فيها حتى يثبت أن كلامهم هراء، أو يطرد ما بها لو كان بها أمر كما يدعون، فرضخوا لهمته وفكرته، فجاءوا هم ب«الشيخ»، وعقد جلسته، وتظاهر بأن هناك شيئا غير طبيعى ولا يقدر عليه، وفر هاربا من الغرفة، وقال صوت رخيم مغلف بأصوات حادة من داخله وهو يدور حول نفسه، وحول القادم، إن الأرواح الشريرة التى هنا تبحث عن روحه، وسوف تجلب الدمار والهدم للبيت، إن لم يذهب بعيدا عنه، وظهرت بعض الشقوق على الحيطان، وفى السقف، كلما تعالت الأصوات التى تخرج من «الشيخ». ذهب القادم ليفتح الباب للناس.. وأخذ دلوا من الماء، وأنار الإضاءة، وقذف الشيخ بالماء أثناء اندماجه، فتوقف كل شىء، ورأى الناس الشيخ على حقيقته، فقد زالت عنه القدرة من دلو ماء «بارد»، وانقطعت صلته بالعوالم لمجرد البلل، ولم تغضب الأرواح أكثر من فعل القادم كما يدعى الصوت الذى يخرج من «الشيخ». حاول أن يكمل فى اندماجه إلى الخارج حتى هبط مهرولا على السلم، وهو يتمتم بوعيد لساكنى العمارة لسكوتهم على ما يفعله القادم الجديد، وكفرهم بما يقوله. توقف كل شىء وسكنت زوبعة الفنجان، ومرت أيام قليلة كان الهدوء يسود العمارة، حتى فزع سكانها ذات ليلة، ورأوا الشقوق والظلال تتحرك أمام أعينهم وفوق رؤوسهم، والأنوار تتقطع بشكل مريب. وتذكروا على الفور كلام الشيخ ووعيده وهو يركض على السلم، وأقنعتهم سذاجة منطقهم أمام شياطينهم، بأن ما يجرى بالعمارة بسببه هو، ويجب أن يرحل عنها، وطالبوه بشكل ودى، وطالبوه وترجوه بشكل بكائى، وطالبوه ناصحين، وطالبوه محذرين، وطالبوه معنفين، حتى قرروا طرده بالقوة، وهم ملأى بالاقتناع، بأنه جلب كل تلك اللعنة التى أصابت العمارة، لأنه قدم من «بلاد بره»، ولا يعلمون أخلاقه ولا ماذا يفعل فى حياته أو فى شقته؟! مما وصل بالوضع أن تسكنها «العفاريت»؟!، وكان يتقدمهم الرجل السكير، وجاره معاون السيدات..«قرنى»..، وآخرون تخجل الفحشاء منهم. وكان الحارس يعلم بأن القادم سيظل يطالب بحقه فى العودة، وكان قد تعلم الدرس، فلو عاد يؤجر الشقة لحسابه أو يسكنها هو، بعدما طردوا منها القادم، سيظن الناس ويتشككون بعدما يهدأ الوضع فجأة بأنه هو من افتعل ذلك طمعا فيها، وسيطالبون بعودة صاحبها الأصلى ووارثها.. ولهذا مال على القادم الجديد، وحاول أن يقنعه بأن يؤجر الشقة لقريب له أو يترك له هذا الأمر، وهو سيضع خطة محكمة لإقناع أحد الأشخاص، كان يطمع فيها من البداية، ويأخذها ويستفيد منها وهو بعيد عن الناس التى تنفره.. ولسان حاله يغازله، على الرغم من أن الشقة أمسى فيها غيره هذه المرة، ولكن كل العقار الآن تحت سيطرته، وها هو يعود مرة أخرى لمكانته الجوفاء. ولن يعلم الناس يوما، أن فعل «العفريت»، من فعل الحارس والشيخ. فى ليلة هادئة خرج الساكن الذى «أجر الشقة» يصرخ فى الشارع، ويهرول إلى مجلس حارس العقار، وقال له بأن الشقة بها «عفريت»، كان «الشيخ» جالسا مع الحارس، ونظرا لبعضهما فى فزع مفهوم.. «لقد رحل المحصن وبقى العفريت».. قالها الشيخ؛ وهو يهرول فى الشارع ويهرب من أمام العقار.. وخرج القادم الجديد للحارس من وراء العدم، وقال له: هكذا هى لعبة العفريت.. فمن «يحضر العفريت» لا ينسى أن يصرفه، ولا «يحضر عفريت» يخرج عن طوعه.