يقف عم رضا خلف زجاج عربته في محاولات، لم يكل من تكرارها يوميا، للحفاظ على مهنته ومهنة والدة من الاندثار. عربة حديدية بنصف عمر ذات واجهة زجاجية تصطف خلف زجاجها اصابع الموز وحبات الفراولة وأطباق صغيرة مرصوصة بعناية نزولا الى صينية "البالوظة"، صينية معدنية تحوي ماء ترقد تحته قطعة كبيرة من البالوظة بحجم الصينية بقوام يشبه حلوى "المهلبية" ويد عم رضا ممسكة بسكين صغير تقطع البالوظة الى قطع صغيرة، كالممسك بالمشرط في محاولة لإنقاذ مريض بين الحياة والموت، وهو بالفعل ينقذ مهنته من الانقراض. رضا لكلوك.. الرجل الستيني هو آخر بائعي البالوظة في مصر، وبحسب روايته، ورث تلك المهنة عن أبيه المتوفى قبل اكثر من 50 عاما، ليقف في مطلع عام 1980محاولا احياء الصنعة التي استقاها من والده منذ صغره، داخل محل والده الخاص بمنتجات الألبان بمنطقة العطوف بمصر القديمة حينما كان عمره 8 سنوات. يقول لكلوك، إن منطقة الحسين والتي يسكن بها منذ صغره، كانت تضم عددا كبيرا من باعة البالوظة الذين بدأوا في استخدام العربات بينما كان والده يصنعها بمحل الألبان الخاص به، ولكنهم أخذوا في الاختفاء شيئا فشيئا بتقادم السنوات وبعد وفاه والده. حينما يموت بائع بالوظة لا يحل أحد آخر مكانه، كان هذا تفسير عم رضا لاندثار الصنعة، ويدلل على ذلك بأن الأجيال المتعاقبة رفضت امتهان صناعة البالوظة، وحتى أبناؤه الأربعة رفضوا ان يساعدوه في عمله أو يتولون ادارة العربة بالنيابة عنه. وبرغم ذلك يفتخر لكلوك بأن مكاسبه من بيع البالوظة أعانته على ان يزوج ولديه وابنتيه، فبرغم قلة المكسب التي لازمته بمرور السنوات الا أنه نجح في تزويجهم بتلك النقود البسيطة، ليزدادوا تمسكا بالا يعملون بها. هي نشا وحليب، تصنع بسر معين، يؤكد عم رضا انه الوحيد في مصر الآن الذي يملك مفاتيح هذا السر، وأنه مهما تداول الناس وصفات وقاموا بصناعته لحلوى للبالوظة لن تكون كحلاوة صنع يديه، فهو الوريث الشرعي لهذه المهنة، كما يعتبر نفسه. يردد لكلوك ان نسبه يعود لعلي بك الكبير، كونه أحد أقدم سكان مصر القديمة ويعيش بها حتى الآن منذ مولده، سيرا على خطى أجداده الذين عاشوا وماتوا بهذه المنطقة التي وضع عربته على ناصية احدى منعطفات شوارعها الضيقة قرابة ال35 عاما. تاركاً العمل بمحل والده الخاص ببيع الألبان لأخيه الذي رفض ايضا استكمال صناعة البالوظة اسوة بأبيه. من خلف الزجاج ينظر على المارة العابرون سيرا وركوبا خلال شوارع القاهرة القديمة، معظمهم من جيرانه الذين يعرفونه معرفة جيدة ولا يكفون عن القاء النكات والمزاح الذي يتبادله معهم طوال وقفته على مدى يوم عمله. قليلون هم من يعرفون ماهي البالوظة من غير سكان حي الجمالية حيث تقع عربة عم رضا، وقلما يعرفها المنتمون للأجيال الجديدة المنتمية للثمانينات، ويخلط البعض بينها وبين صناعة أخرى وهي "البوظا"، ويعتبرها عم رضا بسبب تشابه الاسمين في الأحرف ولكن شتان بينهما. يحكي لكلوك انه كان قديما لا تكف الطوابير أمام عربته عن التواجد، قائلا:" زمان ماكنتش بلاحق والصينية كنت بعملها اكتر من 4 طبقات دلوقت طبقة واحدة"، أما الآن :"الزبون اللي بنتصبح بيه هو اللي بنتمسى بيه"، يقولها بأسى يغلف صوته. ورغم رياح التغيير التي لم تطل عجلات عربته الثابتة، الا أنه حاول مواكبه العصر واضفاء لمسات طور بها طبق البالوظة، مستغنيا عن جوز الهند والزبيب اللذان اشتهرت بهم أكلة البالوظة، مفسرا ذلك بأنها تزيد من ثقل اثر البالوظة على المعدة وتذهب الشهية بسبب سكرها الزائد، واستعاض عنها بقطع الموز والفراولة والشربات الأبيض، بأطباقه التي يتراوح سعرها بين الاثنين والخمسة جنيهات. وطبقا لما توارثه لكلوك عن ابيه فإن "التراكوة" اي الأتراك، هم من ادخلوها كأكلة الى مصر، وأكلها الفاطميون في نهاية عصرهم قبل ان تنتشر على استحياء لتعود وتختفي مرة اخرى، ليحمل وحده راية استمرارها. ويثق عم رضا أن الصناعة لن تندثر وان زبائنها سيشهدون نموا حتى وان بدت الشواهد بعكس كل ذلك، مبررا ضعف الاقبال بأن :"الناس مالهاش نفس تفرح او تدوق حاجة حلوة. "بأكل الناس البالوظة بس بما يرضي الله بس مش باضحك عليهم" يقولها عم رضا ضاحكاً ومستدعيا المثل الشعبي الدارج والقائل :"هم أكلوك البالوظة" للدلالة على أن شخص ما تم خداعه والمثل الآخر "انت نايم في البالوظة"، باعتبارهما المثلين الاشهر حول تلك الصنعة واللذان ربما يتم ترديدهم دون ان يعي مرددي المثل ماهية البالوظة.