الحمد لله أن انتهى إعداد المسودة النهائية لقانون الاستثمار الموحد الذى طال انتظاره، وكان من المأمول إصداره قبل المؤتمر الاقتصادى المرتقب انعقاده فى غضون أيام، ليؤكد مصداقية حرص مصر على توفير التسهيلات والضمانات الجاذبة للاستثمار الأجنبى. ورغم ما تضمنه مشروع القانون من ايجابيات إلا أنه جاء معيبا فى جانب أساسى منه، ألا وهو الافتقار لتحديد الآلية السليمة الخاصة بالترويج للاستثمار فى الخارج بل والنص على آلية لا يمكن أن تكون صالحة لهذا الغرض. فقد قضى المشروع ب«إمكانية إنشاء شركات للترويج أو التعاقد مع شركات قائمة لذلك»، وهو الأمر الخطير الذى يجب أن ننأى عن الأخذ به. فأى شركة خاصة غرضها الربح وستغلبه على المصلحة العامة، وليست بحجمها وطبيعتها مؤهلة للإلمام بكل أوضاعنا واحتياجاتنا، ولن يمكنها أن تغطى العدد الكبير من الدول المستهدفة، ولا تملك الأذرع المقيمة فى تلك الدول والكفيلة بأداء المهمة، وأقصى ما يمكن أن تقوم به شركة كهذه هو عمل اعلان فى وسائل الإعلام الأجنبية أو تنظيم ندوات. كما أنها تفتح الباب لمحسوبيات وإهدار للمال العام. ••• ولقد أدركت الدول التى حققت معجزات اقتصادية ومنها النمور الآسيوية حقيقة أن عملية الترويج لا يمكن أن تسند إلى إدارات حكومية أو شركات خاصة، وأنشأت آليات مستقلة Quasi Government عهدت اليها بوظائف تنمية الصادرات والاستثمار والسياحة بما تنطوى عليه من دعاية وترويج. وتقوم تلك التنظيمات بمساندة من الحكومة ومشاركة من المجتمع وفى مقدمته مفكروه وعلماؤه وشخصياته العامة ورجال أعماله. وتوفر الدولة لها تمويلا ضخما ومنتظما (رسم زهيد بمقدار 0.05 % مثلا على الواردات والصادرات) يمكنها من الاضطلاع بمسئولياتها، واستقطاب أفضل الخبرات للعمل بها بمرتبات عالية وعقود شخصية، مع قيامها بأعمالها بعقلية وأسلوب القطاع الخاص، وتحقيقها لإيرادات مقابل الخدمات التى تؤديها تضاف لميزانياتها وتمكنها من الاستغناء تدريجيا عن الدعم الحكومى. وينطبق نفس الشىء على مجالات تعزيز الانتاجية والجودة والبحث والتطوير اللازمة للتنمية المستدامة. وتجمع هذه التنظيمات فى مجالس إداراتها كلا من الحكومة والاتحادات التجارية والصناعية وممثلى مجتمع الأعمال والقطاعات الاقتصادية والمهنية الأخرى، حيث يشتركون معا فى صياغة الاستراتيجيات وبرامج العمل التى تعدها الإدارات المتخصصة العاملة بها، وتقديمها فى صورة توصيات لمجلس الوزراء لإقرارها ولرسم السياسات واتخاذ القرارات واستصدار التشريعات. ثم تتلقى المجالس المذكورة التكليفات لتنفيذ الأنشطة الحيوية الخاصة برفع الانتاجية والجودة والبحث فى الداخل، وتنشيط الصادرات والاستثمار والسياحة عن طريق مكاتب الترويج التابعة لتلك المنظمات فى الخارج. ••• وقد تم فى عام 1995 تحت اشراف البرنامج الانمائى للأمم المتحدة اعداد استراتيجية شاملة ومتكاملة لإقامة مثل هذه الآليات فى مصر على غرار تجربة النمور الآسيوية، مع تصميمها بالشكل الذى يلائم ظروفنا واحتياجاتنا، وذلك بعد قيام أفضل الخبراء الأجانب بدراسة متعمقة لنواحى الضعف والقوة لدينا، وإبراز عجز الادارات الحكومية فى هذه الميادين عن القيام بالمهام المرجوة. وأوصت الاستراتيجية بإنشاء «مجلس الانتاجية» لدعمها فى مختلف الميادين الصناعية والزراعية والخدمية، وتحسين جودة المنتجات، ونقل التكنولوجيا، وتقديم التسهيلات لبحوث التطوير وربطها بالإنتاج على أساس تجارى. وكذا بإنشاء «مجلس تنمية التجارة والاستثمار والسياحة» يختص باستكشاف الأسواق الدولية الملائمة لتصدير منتجاتنا واحتياجاتها، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وتنشيط السياحة لمصر. مع القيام بالدعاية اللازمة لدعم صورة مصر فى الخارج، وللترويج لإنتاجها وابرازها كمقصد متميز للاستثمار والسياحة، مستخدما فى ذلك مكاتبه الخارجية. كما يقوم بتنظيم عقد المعارض والندوات فى الداخل والخارج، والاشتراك فى المعارض الدولية، وتلقى الاستفسارات التجارية من الخارج وتعميم المعلومات داخليا من خلال بنك معلومات مركزى موحد، وطبع كتالوجات المنتجات والمنتجين وتحميلهم بقيمة الاعلان وتوزيعها بالمجان فى الخارج وغيره. ويرأس المجلس الأول مجلس ادارة تمثل فيه الحكومة بقلة من الوزراء معنيين أو مستوى أقل من الوزارى، إلى جانب أغلبية من رؤساء الاتحادات الصناعية والتجارية، وممثلين لقطاعى الأعمال العام والخاص ولميادين الادارة والقوى العاملة والمهنية والأكاديميين. ويشمل المجلس ادارات رئيسية للبحوث، وتخطيط البرامج، ونقل التكنولوجيا، وتقديم الاستشارات، والتدريب، والجودة الشاملة. كما يتبعه «مراكز اقليمية للإنتاجية» تقوم بالتنفيذ الفعلى لبرامج دعم الانتاجية والادارة والجودة وتقديم الاستشارات والتدريب للمشروعات. كما يرأس المجلس الثانى مجلس ادارة يضم الوزراء المعنيين أو مستوى حكومى أقل، بالإضافة لأغلبية من رؤساء الاتحادات الصناعية والتجارية وممثلى قطاعى الأعمال ولقطاعات البنوك وسوق المال والنقل البحرى والجوى. وهو ينطوى على ادارات رئيسية لتخطيط البرامج، وعمليات تنمية الأسواق، وللإشراف على المكاتب التابعة المتولية للدعاية للتجارة والاستثمار والسياحية فى الخارج، ولإقامة والاشتراك فى المعارض داخليا وخارجيا. كما يضم أقساما للبحوث والمطبوعات والمعارض وبنكا مركزيا للمعلومات. ولا يوجد تداخل بين المجلس الأول والأنشطة الحالية للوزارات والأجهزة القائمة فى ميادينه. الا أن الأمر سيتطلب لإقامة المجلس الثانى: فصل وظيفة ترويج المنتجات فقط من مهام «ادارة التمثيل التجارى» وتكليف المجلس الجديد بها، وفصل وظيفة الترويج للاستثمار الأجنبى من اختصاصات «الهيئة العامة للاستثمار» وهو ما يبدو أن قانون الاستثمار الموحد قام به، وكذا ضم «المكاتب السياحية» فى الخارج للمجلس الجديد، وضم «نقطة التجارة» التابعة لوزارة التجارة و«تريد نيت» التابعة لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار لنظام بنك المعلومات المركزى الأشمل المزمع اقامته فى المجلس الجديد وللقضاء على بعثرة الجهود بين كيانات غير فعالة. ••• لقد آن الأوان للإقدام على «ثورة» تصحح الآليات التى اعتمدنا عليها طويلا فى تولى هذه الدعائم الحيوية لاقتصادنا والمسببة لتعثره، وينبغى أن نتنبه إلى أن غياب الآليات السليمة ووجود آليات عقيمة سيؤدى إلى عرقلة النهوض حتى ولو نجحنا جزئيا فى تنفيذ مشروعات قومية كبرى، حيث أن الأجهزة البيروقراطية البالية ستظل تجرها للوراء وتقوض ما تحققه من نتائج. والاستراتيجية المذكورة محفوظة لدى البرنامج الانمائى للأمم المتحدة UNDP بالقاهرة وجاهزة للتنفيذ بعد أن عجزت القيادة السابقة عن استيعابها، ولا ينقصها سوى توفر الارادة السياسية واتخاذ القرارات الجريئة. قنصل مصر العام الأسبق فى هونج كونج