ظل شعب القاهرة فى أغلب عهوده يلهو بفنون مرتجلة من مواويل وأغان وطلب وزمر، ولكنه كان فنا متغير الأذواق والعصور واختلافها بين الحرية والكبت، ولم يعرف من الغناء قبل عبده الحامولى أصولا مرعية قط، بل كان مزيجا من الفارسية والتركية مشوها مشوشا منقولا عن الأفواه من الجوارى التى كانت تتخم بها قصور المماليك، ومن المخنثين من غلمان هؤلاء المماليك أيضا، فجاء عبده الحامولى فتوغل فى الأصول من الفن التركى، وأخذ عنها وعربها وجعلها مستساغة، وقرب البشارف التركية والتواشيح الفارسية إلى الأذواق المصرية ووفق فى هذا أبعاد توفيق. وجاء معه رجل آخر أخذ عنه ولكنه كان أحذق منه وألمع موهبة وهو محمد عثمان، وكان أهل الفن يسمونه طباخ المغنى، ولكن عبده الحامولى كان له صوت جمع كل طبقات الغناء وكان فريدا فى حلاوته لا يجارى ولا يبارى. حدثنى الشيخ الحريرى المكفوف وهو شيخ أربى على التسعين، أنه حضر عبده فى ليلة من لياليه، وقد وصل الغاية فى الأداء وجمال الصوت، حتى سلب الجميع عقولهم وبلغ من سطوته على الآذان أن أحد الحضور انكب على وجهه مغشيا عليه من الطرب. ولم يكتف عبده الحامولى ومحمد عثمان عن الأخذ عن التركية والفارسية. بل أخذا عن الفن العربى القديم الذى ظلت تتداوله الأجيال فى الموصل من العراق. ذكر أحمد نسيم الشاعر وكان صديق عبده وملازمه قال: «حضر إلى القاهرة أحد فنانى الموصل، وكان فى مقام الأستاذ من عبده الحامولى، وظل يحضر كل حفل يغنى فيه، فلم يستطع المغنى المصرى إلا أن يرجوه أن يريحه من حضور حفلاته، لأنه قد أتعبه وأضناه لأنه لا يستطيع إلا أن يتوخى كل ضروب الإجادة من توقيع وأداء ما دام حاضرا لأنه يفهم الفن صحيحا مستقيما، وهذا يقتضيه عسرا وجهدا لا طاقة له بهما». وكان عبده ومحمد عثمان متنافسين شأن كل متقاربين فى الفنون وغير الفنون، كانا كجرير والفرزذق، وشوقى وحافظ، وعبدالوهاب وأم كلثوم، وكان عبده يفضل محمد عثمان بصوته، كما تفضل أم كثلوم عبدالوهاب بصوتها. حدثنى عبدالله أباظة رحمه الله قال: مر بى عبده على المقهى راكبا عربته فدعانى للركوب معه قائلا: «هيا معى إلى منزل الشنتورى المغنى لمجاملته فى زواج ابنته حيث سأغنى هناك»، قال عبدالله أباظة: فلما أشرفنا على الحفل ألفينا محمد عثمان يغنى، والناس يكادون يخرجون من أثوابهم طربا، فخفت أن يفتضح عبده إذا غنى بعد محمد عثمان فلم أشأ أن أصارحه ولكنى قلت له متسائلا: أتغنى بعد محمد عثمان؟ فقال: نعم وسأغنى هذا اللحن نفسه، فقلت فى نفسى: لا حول ولا قوة إلا بالله. وفرغ محمد عثمان بين التصفيق والضجيج والتهافت والتقبيل، وجاء الشنتورى يدعو عبده للتفضل بالغناء فصعد الرجل التخت، وغنى نفس اللحن، فكان والله غناء محمد عثمان إلى جنب غنائه كأنه نقيق الضفادع جنب تطريب الكروان. فلم يلبث محمد عثمان أن أخرجه الغيظ عن الاتزان فصاح مشيرا إلى عبده قائلا: «بقى الرجل ده جاى يجامل والا جاى يموتنى». وكان عبده لمكانته السامية فى فن الغناء لا يغنى الناس إلا بعد استئذان السراى الخديوية فى ذلك، وبلغ من مكانته الرفيعة أيضا أن الخديو إسماعيل أوفده إلى استامبول ليغنى أمام السلطان عبدالحميد وقد وضع له اللحن المعروف «مليكى أنا عبدك». وكان هذا الرجل الفنان على حظ وافر من المروءة والبر، وهما خلتان تلازمان دائما كبار عباقرة الفنون، فقد كان جوادا لا يبقى مالا ولا يمسك يده عن معونة. ذكر بعض معاصريه: أنه كان يعبر يوما زقاقا ضيقا فى مدينة الإسكندرية، فألفى امرأتين تختصمان، لأن إحداهما قد آذت الأخرى برش ماء فى الزقاق لأنها اعتزمت أن تقيم حفلا فقيرا لابنها فى مساء الغد، فهى تسكن التراب بالماء لتمهيد الأرض لوضع المقاعد الخشبية المتواضعة ولكن الأخرى لم يرضها هذا، فقد صاحت فيها: «يا شيخة هوستينا هو يعنى انتى حاتجيبى عبده، فتقول الأولى (ما يبعدش على الله) ويسمع الرجل الكريم هذا الحوار، فتدفعه الأريحية إلى التقدم نحو المرأة الفقيرة الراجية، ويدفع لها ثلاثين جنيها ذهبا لتعد العدة، لأنه سيحضر إليها عبده، فتجن المرأة فرحا، وتصدق المحسن، وتضرب سرادقا واسعا، تحضر له الكراسى الوفيرة. ويجتمع عبده بأصدقائه ودعاته ويعلن بأنه سيغنى فى المساء فى حى باب سدرة، وتعلم الإسكندرية كلها هذا النبأ، ويهرع الناس غنيهم وفقيرهم إلى هذا الحى الفقير من المدينة، ويبر عبده بوعده للمرأة البائسة، وتشهد الإسكندرية ليلة لم تشهد مثلها فى حياتها الطويلة.