عن الحياة الاجتماعية في كتاب الأغاني للأصفهاني.. دراسة تاريخية نقدية، حصلت الباحثة الشاعرة شيرين العدوي علي درجة الماجستير (بامتياز)، كلية دار العلوم جامعة القاهرة بقسم التاريخ الإسلامي. قدمت الباحثة لدراستها بقولها: إن مادة الكتاب غزيرة ومتنوعة وتمتد لتشمل عصورا متعددة، من العصر الجاهلي حتي العصر العباسي، وهي بذلك تكشف لنا عن امكانات كبيرة لهذا التاريخ، فأصوله مختلفة ومتنوعة وغنية، بفضل انفتاحه علي مختلف الأجناس والأقوام، والألوان والديانات والثقافات، مشيرة إلي أنه إذا كانت الوجهة الأولي للأصفهاني »الألحان والأشعار« فإن نهجه في التأليف وولعه بالأخبار - أيا كان مصدرها - جعله يقدم لنا صوت الهوية العربية في ظل ذلك التنوع الثقافي الذي يتسم صاحبه بالانفتاح علي الآخر، وتقبل ما يتفق مع أصوله وتقاليده. وموضحة أنها طمحت من دراستها تقديم صورة للتاريخ الاجتماعي عبر عصور طويلة عاشتها شخصيات الكتاب، وصنعت ما فيه من أخبار. ولم تنس الباحثة أن تسرد في مقدمتها الصعوبات التي واجهتها ومنها غزارة الحارة، موضحة أن هذه الغزارة قد تكون غزيرة في بعض الأحيان اذ تتيح للباحث حرية في التناول والمعالجة، ولكنها هنا كانت مجهدة فقد كان الأصفهاني يروي كثيرا من الأخبار في صور متعددة مع اختلاف محتوياتها أحيانا، ثم ان الاصفهاني موسوعي المعرفة يتحرك بحرية في مؤلفه وفي تقديمه لمادته، من اهتمام بالنسب إلي حديثه عن الشاعر أو المغني ومكانه في عصره، وقد يمزج بين الأخبار في تداخل مما يتطلب وعيا من الباحث، وحذرا في الوقت نفسه وهو يعالج المادة المختارة. مشيرة إلي أن الجوانب الاجتماعية التي ضمها كتاب الأغاني يختلط فيها الجانب العقدي بالسياسي بالثقافي بالأدبي، وكل واحد من هذه الجوانب ينتمي إلي حقل معرفي مختلف عن غيره، وكان عليَّ أن أطوف في هذه الحقول وغيرها استيفاء لجوانب البحث المنهجي«.. وأكدت الباحثة أن التاريخ من منظور التطوير والتغير الاجتماعي تاريخ شامل لكل محاور التاريخ الأخري، وهذا المحور الاجتماعي - وان لم يكن في استطاعته أن يتعمق في واحد من تلك المحاور الأخري - فإنه مطالب بابراز سمات التوافق والتلاؤم بين هذه المحاور التي تبدأ من منابع قد تكون مختلفة ولكنها في النهاية تصب في بحيرة واحدة هي المجتمع. كما فندت الباحثة، فقد جاءت رسالتها في ثلاثة أبواب، الأول عن الحياة الاجتماعية في العهد الجاهلي، وفيه تناولت عناصر السكان وطبقات المجتمع، والحروب، والمرأة، وجاء الباب الثاني عن الحياة الاجتماعية في العصر الاسلامي منذ ظهور الاسلام حتي نهاية العصر الأموي وتناولت فيه أيضا، عناصر السكان، وطبقات المجتمع، والمرأة، بالاضافة إلي العصبية، والغناء، أما الباب الثالث والأخير فكان عن الحياة الاجتماعية في العصر العباسي، تناولت فيه عناصر البابين الأول والثاني فضلا عن الشعوبية. وأكدت الباحثة رأيها - أن هذه العصور الثلاثة امتدت عبرها شرايين الحياة الاجتماعية، فشهدت ظواهر مستمرة، كما شهدت ظاهرية مستحدثة تزدهر أو تضمحل، مشيرة علي أن هناك تشابها في العناوين الفرعية للأبواب الثلاثة، ولكن هذا التشابه لايعني تطابقا في المحتوي، فالموالي - مثلا - كان لهم وجود وحضور وتأثير بارز في العصرين الأموي والعباسي، ولكنهم في العصر العباسي غيرهم في العصر الأموي، كان لهم دور وفاعلية وتأثير. وانتهت الدراسة إلي عدة نتائج منها أن الطابع الشعبي ملمح أصيل في كتاب الأغاني وهو واضح من الفكرة الرئيسية التي قام عليها الكتاب (مائة الصوت المختارة)، فهي بانحيازها إلي فن الغناء أدبية شعبية أو يغلب عليها ذلك، ولم يهتم الأصفهاني بفنون كالموشح والزجل. وتوصلت الدراسة إلي أن الظاهرة الاجتماعية لاترتبط في نشأتها وتطورها وبقائها أو فنائها بعامل الزمن وحده، لأنها تخضع في هذا كله لعوامل كثيرة متشابكة وممتدة في الزمان والمكان، ومن ثم فقد تبدأ جذورها في عصر معين دون أن يلاحظ ذلك، حتي اذا ما تهيأت لها الظروف بدت في اتساعها وانتشارها وكأنها وليدة العصر الجديد وشواهد ذلك في الدراسة كثيرة منها شيوع ظاهرة الخمر والمجون في العصر العباسي، وقد ساعد عليها بعد ذلك كثير من الموالي في البصرة والكوفة، وشاعت آفة التعلق »بالغلمان المرد« والتخزل فيهم في العصر العباسي لها جذورها، اذ ترتد إلي فئة المخنثين في العصر الأموي وما ارتبط بهم من رقة وليونة، وتخنث. وفيما يتصل بعناصر السكان، أشارت الدراسة في نتائجها إلي أن جزيرة العرب في العصر الجاهلي كانت تتألف من البدو والحضر مع غلبة العنصر الأول علي الثاني كما نلاحظ التحول الكبير الذي حدث لها بمجيء الاسلام واتساع حركة الفتوح الاسلامية، فتنوعت عناصر المجتمع العربي، وأصبح يضم الفارسي والرومي، والقبطي والتركي. ورصدت الدراسة في نتائجها انعكاس عناصر السكان بصورتها السابقة علي طبقات المجتمع، اذ ظل العنصر العربي يمثل الطبقة الارستقراطية في العصرين الأول والثاني، أما في العصر العباسي فانه الواقع يثبت أن هناك عنصر آخر زاحمه في موقعه وهو العنصر الفارسي. وتوصلت الباحثة إلي أن الرقيق والموالي ساعدوا في عملية المزج بين العرب وغيرهم وشاركوا في كثير من أوجه النشاط في الحياة الاجتماعية، وأسهموا بصورة فعالة في انتشار الغناء وازدهاره، وأصبح الموالي جزءا من نسيج المجتمع في العصر العباسي، بل زاد نفوذهم وتغلغلوا في شئون الدولة، فكان منهم الوزراء والامراء والكتاب والقواد والشعراء والمغنون. وتوضح الباحثة: لقد لاحظنا شيوع ظواهر كثيرة مع التحول السابق للطبقات الدنيا، إذ راجت تجارة الجواري والقيان، وعمرت قصور الخلفاء والأمراء بهن، وتبين أن ازدياد نفوذ الموالي كان وراء علو صوتهم وظهور تعصبهم لأبناء عرقهم وهو ما عرف بالشعوبية. ولم يغفل البحث الصعاليك بوصفهم طبقة خارجة علي المجتمع لاتؤمن بالعصبية القبلية التي كانت أساس الحياة في العصر الجاهلي، بل تؤمن بقانونها الخاص القائم علي السلب والنهب، وتقسيم ما نتج في حوزتها علي أفرادها. وقد حظيت »العصبية« باهتمام الباحثة لأنري، أنها شكلت عنصرا أساسيا من عناصر الحياة الاجتماعية، وقد تجلت في صورتها القبلية القائمة علي النسب أولا وعلي الولاء والحلف ثانيا في العصر الجاهلي. ثم أفردت الدراسة للحروب فصلا أثبتت فيه أن الحروب في طبيعتها وعوامل اثارتها قد اختلفت في كل عصر، فكان الدافع لها في العصر الجاهلي هو تشبث الانسان العربي ببقائه والدفاع عن وجوده، ولكنه في العصور التالية اصطبغ بصبغة سياسية مذهبية ترتبط بنظام الحكم ومدي أحقية من يتطلع إليه. وقد كشفت الدراسة عن عوامل ظهور الشعوبية، وكيف أنها ضربت بجذورها في العصر العباسي، وتطوراتها كمنت في الجوانب الخفيفة للموالي من الفرس والبرامكة وال طاهر. ولفتت الباحثة في نتائجها إلي أن أبا الفرج الأصفهاني لم يوجه اهتماما كبيرا إلي الغناء في العصر الجاهلي، لأن الغناء في تلك الفترة كان ساذجا فطريا الأمر الذي جعلني لم أفرد له فصلا في تناول ذلك العصر، أما في العصرين الأموي والعباسي، فقد ارتقي من الغناء ارتقاعا غير مسبوق، ساعدني في ذلك اتساع موجة الثراء والترف وكثرة الأرماء والموالي وامتزاجهم بالعرب، وأبانت الدراسة عما كان للغناء من أثر في الحياة الاجتماعية، وكثرت المؤلفات التي تناولت هذا الفن، بل ان كتاب الأغاني نفسه لم يكن إلا ثمرة من ثمار هذا الاهتمام.