من أكثر الأساطير التى نعتمد عليها كتيار «علمانى» فى استيعاب ما حدث منذ حراك 25 يناير وحتى الآن هو أن الشعب المصرى ونحن عادة ما نقصد بذلك شق الشعب غير المنحاز لفكر الإسلاميين هو كتلة بريئة مرفوع عنها التكليف أملها ضائع بين «فيلين» متحالفين أحيانا متصارعين دائماً هما المؤسسة العسكرية وتنظيم الإخوان المسلمين. لكن الحقيقة أن هذه مجرد أسطورة أخرى من بين الأساطير العديدة التى حلت محل التفكير العلمى فى محاولة فهم واقع شديد الضوضاء والخلط. وبالنسبة لى هذه الأسطورة تحديدا هى من أكثر الأساطير تضليلا وضررا. نحن أيضاً «تنظيم» فاعل وفيل ضخم لا يقل غشما وبطشا فى الحياة السياسية ولو لم نقم بمراجعاتنا وتقويم أنفسنا وتغيير خطابنا فلن يكون لهذا الوطن مستقبل نستبشر به. ••• قبلما أزيد فى المضمون لابد من وقفة عند المصطلح. أنا متأكدة أن استخدامى للفظ «علمانى» لوصف تيار يفضل أن يسمى نفسه «مدنيا» قد يستفز البعض. لكن عن نفسى استخدام لفظ علمانى من قبيل تسمية الأشياء بأسمائها. مدنى هو مقابل العسكرى وهذا لا يعنينى هنا. أما «دينى» فيقابله «علمانى» يعنى يعارض دينية الدولة. فى يوم 22 فبراير الماضى استقبل عمرو أديب فى برنامجه القاهرة اليوم عمرو حمزاوى وبادره كافتتاح للنقاش بعبارة «عمرو حمزاوى لم يعد مننا» عمرو بقى «واحد منهم». تلا ذلك محاولات أكروباتية من عمرو حمزاوى للتوفيق ما بين موقفه المعارض ل 3 يوليو وتوصيفه لما حدث على أنه انقلاب وبين كونه «مننا». ولم تحل المعضلة إلا لما قال عمرو حمزاوى أنه يعتبر الإخوان مسئولين عن الإرهاب وأنهم غير مستوفين لشروط المشاركة فى الحياة السياسية. عندها فقط أعلن عمرو أديب ان حمزاوى «مننا». ••• ما الذى يجمع حمزاوى وأديب؟ ما الذى يجمع البرادعى وحمدين؟ عيطة والببلاوي؟ أحمد ماهر وعمرو موسى؟ كلهم أعضاء فى تنظيم اصطف على قلب رجل واحد ليقول لا للإعلان الدستورى فى 19 مارس 2011، وليطالب بتنفيذ حكم القضاء وحل البرلمان المنتخب فى يونيو 2012، وليطالب بإسقاط الرئيس المنتخب فى 30 يونيو 2013. واصطفوا معا فى محطات أخرى عديدة لا تقل أهمية فى تحديد مصير التجربة الديمقراطية فى مصر. لقد كشفت التجربة الديمقراطية «مقصوفة العمر» أن الشعب المصرى المشارك فى العملية السياسية والصامت على حد سواء منتظم فى حزبين: حزب إسلامى الهوى وحزب علمانى الهوى. الأول يريد دولة تحتكم للشريعة والثانى يريد دولة لا تتدخل فى أسلوب حياته باسم الشريعة. يوجد داخل هذا التنظيم العلمانى، كما يوجد فى أوساط الإسلاميين، أطياف متنوعة فالبعض اشتراكى والبعض ليبرالى وما بين ذلك. إلا أن المحرك الأساسى فى ساعات الجد مثل الساعات التى عددتها فيما سبق هو مكان الدين فى الدولة. وبالتالى علينا أن نعترف أننا، كخصومنا السياسيين، فصيل منظم له قنواته التليفزيونية، وشبكات مصالحه ومصادر تمويله وقياداته وأبواقه ومطامعه السياسية وأدواته وبالطبع قصوره وإجحافه. فى إطار هذا الوعى علينا أن ندرك أننا حكمنا مصر طيلة الستين عاما الماضية. لو راجعنا تاريخ كل رؤساء الوزارة الذين مروا على مصر من بداية الجمهورية وحتى الآن لم يكن من بينهم «إسلامى» واحد. نظام موافقة الأمن المشروطة لتولى أى وظيفة حكومية تابعة لوزارة سيادية ترتب عليه أننا العلمانيين قدمنا لمصر أعتى وزراء ورجال داخليتها وأمنها. نحن مثلنا مصر فى الداخل والخارج. نحن كتبنا قوانينها واتفاقياتها. نحن رسمنا ونفذنا سياستها التعليمية والصحية. نحن حكمنا مصر واضطهدنا من اضطهد فيها. ••• كان من بيننا قلة معارضة احتجت عبر جميع العصور على الاضطهاد أو الفساد بغض النظر عن انتماء المظلوم أو المستفيد. إلا أن هذه القلة لا تعف التيار العلمانى من مسئوليته عما كان فى الستين عاما التى سبقت 25 يناير 2011. الحقيقة ان أغلبيتنا صمتت خوفا من أن أى إصلاح سيترتب عليه فقدان السلطة لصالح الخصم السياسى أى الإسلاميين. الأسطورة تقول إن ثورة 25 يناير كانت ثورة علمانية، وإنها نجحت فى إخراج مبارك من القصر لأن الإسلاميين تخلوا عن خطابهم الإقصائى والتحموا بمطالب «الشعب». لما ندرك أننا من حكم وأننا من ملك السلطة وأقصى، فإننا سنفهم أن لحظة 25 يناير كانت لحظة خرجت فيها قاعدة التيار العلمانى على قياداته وثارت عليها وانضمت للتيار الإسلامى فى معارضته للسلطة. المحرك المباشر لهذا التحول كان ما تعرض له «خالد سعيد» كشاب «مننا» من عنف صادم على يد الشرطة. هذا العنف الذى كان أفراد التيار الإسلامى يتعرضون له بانتظام وفى ظل صمت شبه مطلق منا كأتباع تيار علمانى حاكم. ••• لمدة ثلاثة أسابيع فى ذلك الشتاء البديع فى 2011 اجتمعت قاعدة المجتمع العريضة بعلمانييها وإسلامييها على كلمة سواء: ألا يظلم مصرى.. ألا يهان مصرى.. ألا يخاف مصرى. إلا أن الأحداث الجلل التى تلت أطلقت وحش الخوف الكاسر فى نفوس المصريين مرة أخرى وفر كل إلى فصيله وسقط الضحايا وأصبح لنا شهداؤنا ولهم شهداؤهم. الدرس واضح وبسيط ومستقبل وطن متوقف على استيعاب هذا الدرس: ألا يظلم مصرى، ألا يهان مصرى، ألا يخاف مصرى. وعلى كل فصيل أن يبدأ بنفسه. نحن علمانيى مصر قد تراخينا كثيرا فى الاعتراف بمسئوليتنا وغالينا فى ادعاء البراءة والمثالية. آن لنا أن نعتذر لهذا الوطن عما بدر منا وأن نعتذر لخصمنا السياسى عن ما جنينا.